كان فيلم "لما حكيت مريم" اللبناني، وهو الطويل الأول لأسد فولادكار، ظاهرة الموسم السينمائي، مهرجانات ونقداً وافياً لا جماهيرياً. وهنا، مع وصول عروض الفيلم في لبنان الى أسابيعه الأخيرة، وبعد أن أثار لغطاً فنياً واجتماعياً كبيراً، لم يسبق ان اثاره أو داناه أي فيلم لبناني من قبل، حوار مع مخرجه يتناول الكثير من قضاياه الفنية والفكرية، أجراه محمد أبي سمرا. أول ما يلفت في "لما حكيت مريم" ترجحه بين وجوه مختلفة من المعالجة السينمائية. فهناك، أولاً، البناء أو الخط الذي يقربه من الحكاية - الأسطورة. وكلمة قصة تفيد هذا المعنى، مثل القصص القرآني، قَصَص الوعاظ، وحكايا جحا، وألف ليلة وليلة التي يبدو أثرها واضحاً في سينما كيورستامي. هناك، من جهة أخرى، وجهة تبدو اختصاراً لهيكل قصة، ويمكن ان يرويها واحدنا بكلمتين أو ثلاث. لكن، في الوقت عينه، ثمة حضور وكثافة حياة لأناس حقيقيين نشاهدهم أمامنا على الشاشة. ثم هناك وجهة هي الغرق أكثر فأكثر في عالم خاص، ينعزل أكثر فأكثر عن الآخرين، من غير أن يتحول الى ما يشبه الكناية. كيف جرى اعداد الفيلم في ضوء هذه الوجوه؟ - احتاج الأمر الى كثير من الوقت بداية، كنت سمعت القصة من حماتي، نقلاً عن صديقة لها كانت تزوجت، ولم تنجب فحصل معها ما حصل. للوهلة الأولى، حينما سمعت القصة، بدت لي أنها تقليدية كثيراً، إذ لطالما شاهدت في السينما العربية أفلاماً تتناول قصص نساء يتزوجن، ولا يستطعن الإنجاب، فيقوم الزوج بالزواج من امرأة ثانية بدافع من رغبته في الانجاب، غير ان ما لفتني في الأمر ليس القصة، بل استمرار حماتي في البكاء كلما عاودت اخباري القصة اياها، وبعد انقضاء أربعين عاماً عليها. الأمر الذي نبهني الى أن شيئاً تتفرد به القصة، ولا يدركه غير أصحابها والمقربين منهم. فلكي يشعر الآخرون بما تشعره حيال قصتك أنت، يجب أن تقوم بروايتها على نحو يشعرون معه بأنها قصتهم هم، قصة كل واحد منهم على حدة. وهذا ما قمت به في أثناء كتابتي السيناريو الذي أدخلت عليه تعديلات أكثر من مرة، فزدت عليه أشياء، وأزلت أخرى، الى أن وصلت الى الشعور بأن هذه القصة صارت تعنيني وتمسني مباشرة. وحينما ماتت مريم شعرت كما ان جزءاً مني زال وراح. علاقة مع الممثلين عندما يشاهد واحدنا الفيلم يحس بشوق لمعرفة كيف تم انجازه. أكان على الورق أم عند التصوير؟ على سبيل المثال، ما الذي كنت تقوله للممثلين، وبوجه خاص لبرناديت حديب؟ - أنا وطلال الجردي وبرناديت حديب اجتمعنا مرة واحدة قبل بدء التصوير، وتكلمنا عن الشخصيات. بعدها اقتصرت التمارين على حركتهم داخل المشاهد فقط. لم أكن أريد تمريناً كاملاً. وكنت أخشى أن يعيشوا حال الشخصية الحقيقية في أثناء التمرين، وتختفي حقيقتها عند التصوير. غالبية العاملين في الفيلم لم يتعاطوا بجدية مع العمل. جميعهم كانوا "مرتاحين"، ما عداي أنا. المصور، مثلاً، لم يكن مهتماً بما كنا نفعله في أحيان كثيرة. لم يكن يأتي في أوقات التصوير، ويرسل مصوراً آخر بديلاً منه. كان التصوير يتم طبقاً لما هو مذكور في السيناريو. وكنت وضعت تصوراً للمشاهد على الورق. فلم نصور أي مشهد خارج ما كان معداً على الورق. ضيق الامكانات منعني حتى من تجريب محاولات أخرى للقطة من اللقطات، وهذا عادة يجري في التصوير. وهذه الطريقة في التصوير مخاطرة. إذ انه لو ظهر أي خطأ في مشهد من المشاهد، في أثناء المونتاج، لكان علي أن ألغيه كله، ولما كان لدي لقطة بديلة منه ومن بين الأشياء الأخرى التي كنت أريدها، ولم تتوافر بسبب قلة الامكانات، كنت أريد، حين تتكلم مريم في مشاهد الفيديو، أن تظهر من غير أن يبدو أن مسافة تفصلها عن الحائط الأصفر خلفها، الأمر الذي كان أضفى لو أمكن، على صورتها مناخاً يقربها من صور الذكريات القديمة ذات الألوان الباهتة. وبين لقطة وأخرى، كان على علامات الزمن أن تظهر على صورتها، فتتلاشى صورتها شيئاً فشيئاً حتى تختفي في الحائط الأصفر. في تقديرك هل العنصر الوحيد في قوة اقناع الفيلم متأتٍ مما يخبره ويرويه؟ - لا. لكن كوني أنا المخرج، وأنا كاتب السيناريو في آن، منحني امكان وضع تصور لشكل كل مشهد في أثناء كتابته، لذلك، فحين أقول أنني كنت واثقاً في السيناريو وقدرته على جعل الفيلم جيداً، فليس معنى هذا ان قوة الفيلم مستندة، في شكل رئيس، الى ما يقال فيه، بمعزل عما يُرى. ما لاحظته في أثناء مشاهدتي الفيلم ان تصويره تم، عموماً، من مسافة متوسطة. فلم يكن هناك مشاهد "كبيرة"، سوى في المشهد الأخير وفي مشهد العرس، وهذه مشاهد حزينة، كما لم يلاحظ أي "لعب" بالكاميرا، إذا جاز التعبير. - لم يكن هناك "لعب" بالكاميرا لسبب بسيط هو، مرة أخرى، قلة الامكانات المادية. فأنا لم ألحظ أي شيء لا يسع الانتاج تغطيته. امكانيات محدودة لكن من يشاهد الفيلم يشعر أن طريقة التصوير على هذا النحو مقصودة. - نعم، هذا صحيح. فأنا كتبت الفيلم وأنا على علم بمحدودية هذه الإمكانات. المكان الذي تجري فيه وقائع الفيلم يتمتع بهندسة بسيطة، ففي خلف المشهد جدار أفقي، على مستوى الكاميرا، يبدو مناسباً تماماً كي لا تخرج المشاهد من الضبط والاختصار. وما يبدو انه ساعد على انجاز البساطة في التصوير، هو تخففه من البهرجة والاستعراض التقني. ويقابله أداء تمثيلي يتسم العادية والاقتصاد نفسيهما. فتلعب برناديت حديب دوراً رئيساً في ذلك بواسطة عينيها ووجهها المملوء بالتوتر الداخلي. وهذا الذي لا يتوافر في طلال الجردي. فهو ممثل خالٍ من أي انفعال أو شحن. وعلى قدر ما تبدو حديب قادرة على خدمة دور متصل، قوته لا تتأتى مما تقوله الشخصية بل من وضعها. وهذا النشاز في الدور، وهو نشاز بين قول الشخصية ووضعها، هو ما تستطيع حديب تجاوزه. فتتماسك لغتها التمثيلية، وتتماسك نظراتها التي مكنتها من جعل المشاهد يشعر بأن الأمر الأساسي الذي يحدث في الفيلم يحدث في مكان آخر هو الخيط الذي يربط الدور. أما في حال الجردي، فالكلام العادي والتافه للشخصية يتآلف مع وجه، لا يخرج عن العادية والتفاهة. أما في ما يتعلق بأم طلال وأم برناديت، فهاتان وضعهما مختلف تماماً. فهما يبدوان كأنهما تؤديان أداء سينما عربية. وتؤدي الواحدة منهن دورها بحسب ما تفترض انه هكذا يؤدى. لذلك ينتابني الشك في قولك ان الفيلم مقطع وموجود مصوراً على الورق، قبل التنفيذ، أو أن التنفيذ تم بكليته طبقاً لما كان مقرراً على الورق. - في رأيي أن ثمة اختلافاً في الحكم على أداء الممثلين في الفيلم بين العالم العربي والغرب. وهذا ما لمسته من الآراء التي سمعتها في الجهتين. في العالم العربي قليلون اعجبوا بأداء طلال، فيما جميعهم أبدوا اعجابهم ببرناديت. أما في الغرب فلئن اعجبهم أداء برناديت، فإن أحداً لم يتكلم سلباً في أداء طلال. هل ان طلال الجردي رخو بطبيعته هو أم ان الرخاوة التي نلاحظها ناجمة عن طبيعة الشخصية التي يؤديها؟ في كثير من المرات، وفي لحظات، تشعر أنه توقف عن التمثيل، وعن أداء الشخصية المفترض فيه تمثيلها، كما لو أن الشخصية أفلتت منه، وانك انما تراه هو طلال الجردي وليس الشخصية زياد. بينما برناديب حديب هي الشخصية السينمائية من غير أن يكون الدور كل برناديت حديب. لذلك يبدو ان في شخصية مريم شيئاً استثنائياً مرده الى برناديت حديب نفسها. - لا، ليس الأمر كذلك. طلال قام تماماً بما كان مطلوباً منه، وأدى دوره أداء صحيحاً ودقيقاً الى حد بعيد جداً. أما الفرق بين أداء كل منهما، أظنه عائداً الى طبيعة الدورين اللذين يؤديهما الإثنان. فمن جهة هناك برناديت في شخصية مريم. وأنت تشاهد انهزام شخصية وذوبانها، فيما طلال، من جهة أخرى، في شخصية زياد، يظهر تماسكاً وبرودة نسبية إزاء ما يحصل. هذا فضلاً عن كون برناديت ممثلة مسرح، أساساً، الأمر الذي يمنح حضورها قوة يفتقر اليها طلال الآتي الى التمثيل من التلفزيون. كلام زائد يتولد انطباع عند المشاهد بأن برناديت كانت قادرة دائماً على المحافظة على المسافة بين الاستقبال والانتظار الظاهرين، وبين صوت داخلي يقول قوة هذا الصوت. لذلك قد يكون كلام الشخصية في السيناريو وحده ضعيفاً، وغير قادر على إبراز هذه الناحية لولا مقدرة برناديت حديب التمثيلية. - لا أوافقك على ذلك. لأن الحياة بطبيعتها مملوءة بالكلام الزائد. وهذه أهمية الكلام الحقيقي، وأهمية أن تقول الشخصيات ما يقال في أحوالها اليومية. كأنك بقولك هذا تفترض أن مقدار كلام الشخصيات هو شيء معد سلفاً، وخارج عن صنعة الفيلم وإعداده. في حين أن من يشاهد "لما حكيت مريم" يشعر فوراً بأن هناك وفرة في كلام الشخصيات ليس له مقابل مشهدي. وهذا في اعتقادي خلل كبير. فهل ما نشاهده هو قصة مروية، أم انه فيلم حياة؟ وهل ما نراه ينقل الينا حادثة الفيلم الأساسية؟ وأين الحادثة الأساسية؟ هل هي كامنة في ما يقال في الفيلم، أو في ما نشاهده؟ فإذا كانت الصور لا تضيف شيئاً الى ما يقال ونسمعه، فما نراه يصير أقرب الى "السكتش" منه الى السينما. - من بين الأشياء التي تزعجني في الفيلم مشهدان انزعج كلما شاهدتهما: مشهد العرس ومشهد الدفن. فأنا لم أستطع أن أنجزهما كما كنت مقرراً في السيناريو. وهذا عائد في شكل رئيس الى ضيق الوقت والإمكانات المادية. مثلاً في مشهد العرس كان يفترض في برناديت أن تستمر في الرقص، من غير أن نشعر بتحول رقصها شيئاً فشيئاً الى جنون. وهذا المشهد كان من المشاهد القوية في السيناريو، في نظر من قرأوا السيناريو. والأمر نفسه في مشهد الميت. ولكن ما يضايقني هو أنه تحول، في التصوير، الى مشهد فاشل، لأن المقبرة التي كنت قد اخترتها مكاناً لتصويره مُنعنا من التصوير فيها. فكان علي، لضيق الوقت، أن أجد مكاناً بديلاً، في اليوم نفسه، وإلا لما كنت استطعت إكمال الفيلم. فكان أن رضيت بتصويره في مكان غير مناسب. هذا فضلاً عن أن الميتة، كان من المفترض أن تقوم بدورها إمرأة متقدمة في السن، ولكنها لم تحضر. مشهد الرقص مشكلته أصعب من مشهد الميت، لأن الأخير سيئ كلياً، أما مشهد الرقص فكان جيداً الى حين تم قطعه في اتجاه واقعية نفسية. ولا أرى أن قلة الامكانات سبب في ذلك لأنك بهذا القطع خرجت عن الخط الرئيس للفيلم، وهو متمثل في الايحاء المستمر بوجود شيء آخر ينضج الى جانب التسلسل الروائي للفيلم. لذلك ليست الأشياء الطارئة التي تحدثت عنها كافية، ربما لتبرير بعض الأخطاء التي يقع فيها الفيلم، فعلى ما يظهر في مشهد العرس، من وجهة واقعية، حرف المشهد عن الخط الرئيس للفيلم. ويظهر الخط الرئيس في مشاهد أخرى. وهذه "الواقعية النفسية" في أحيان كثيرة، تخرب الوجهة الرئيسة حين تنجح في التخفيف من زوائدها. - أريد أن ألفت إلى أمر، وهو إنني اليوم حينما أدافع عن الفيلم، أدافع عن شيء أنجز منذ عامين. لذلك فأنا أدافع عما كنت أريده وقتها، والآن الفيلم صار من الماضي، وقد تجاوزته تعبيرياً وفنياً. فإذا ما أردت رأيي الآن، فإنني أوافقك الرأي على الملاحظات التي ذكرتها، مع تحفظ بسيط: في هذين المشهدين، قبل سنتين، ما كنت أريدهما كما ظهرا. ولكن، مرة أخرى، ضيق الوقت والإمكانات اضطراني الى القبول بانجازهما كما ظهرا في الفيلم.