تمضي الحرب. لكننا، في هذه الغضون، نراجع. نراجع بعض المفاهيم التي شُنّت باسمها الحرب. والتي ستتحكم بنا لسنوات سوف تأتي. فالأممالمتحدة لم تُطوّع بما يكفي لشن حرب باسمها: هذه خطوة إيجابية كبيرة. لكنها قد لا تبقى هي نفسها على قيد الحياة: وهذا تحول سلبي أكبر. تعالوا ننظر قليلاً في ما وراء النظرية الأميركية: أولاً، هذه المنظمة الدولية فقدت وظيفتها بمجرد انتهاء الحرب الباردة والعالم الثنائي القطبية. لقد نشأت أصلاً لادارة نزاعات هذا العالم. هذا العالم زال. إذاً ما مبررها؟ الحروب التي حصلت في البلقان ورواندا كشفت ضآلة دورها وقدرتها في الزمن الجديد. يصيبها الآن ما أصاب "عصبة الأمم" حين طرأ وافد جديد في الثلاثينات إسمه: النازية الألمانية. ثانياً، كانت الوحدة Unit التي تقوم عليها الأممالمتحدة هي: الدولة ذات السيادة. توازن القطبين الأميركي والسوفياتي أعطى هذه الوحدة أهمية فائقة. الاستقلالات والتزايد الآلي لعدد للدول، أخضعت قرار الأممالمتحدة لقوى فاشلة في حكم دولها نفسها. أخضعته لقوى غير ديموقراطية. ثالثاً، استجد الارهاب بصفته العدو الرقم واحد. الأممالمتحدة ليست مُعدّة لمكافحة الارهاب. ليست المكان الصالح لذلك. لكن، في المقابل، استجدّت "الثورة الديموقراطية" التي أحلّت الديموقراطية حيث حلّت السيادة من قبل. الأممالمتحدة تساوي بين الأعضاء لمجرد كونهم دولاً سيدة، لكنهم في الديموقراطية لا يتساوون "هل ندع غينيا تتحكم بقرارنا شنّ الحرب على العراق"، كما قيل مراراً في الأيام الأخيرة. الحق في هذا الكلام، وهو كثير، يُراد به باطل. نعم: الأممالمتحدة فقدت الكثير من وظائفها بعد الحرب الباردة. لكن هذا يعني ضرورة البحث في آلية تحكيم دولي بديل، لا اعتبار الولاياتالمتحدة، وكتحصيل حاصل، وحدها البديل. بطرس بطرس غالي كان أحد الذين فكروا في صيغة جديدة: ربما أخطأ في تصوره الا أنه فتح الباب للتصور. يزيد في خطورة نزعة الاستبدال الأميركية عنصران: الأول، أن الولاياتالمتحدة ضد الجهد الدولي الجماعي بالمطلق! يتبيّن هذا على أي صعيد نظرنا: من البيئة الى الاقتصاد الى المحكمة الى... الثاني، أن نزعة الاستبدال مصحوبة بتوسيع مسرح العمليات وبنظرية الضربة الاستباقية. هذا تأثر باليابان الفاشية حين وجهت ضربة بيرل هاربر الى أميركا! الآن هي بيرل هاربر على نطاق أوسع بكثير وأشد اعتباطية بكثير. نعم: سيادة الدولة لم تعد معياراً اطلاقياً كافياً. لا بد من تطعيمها بمعايير من طبيعة قيمية كالديموقراطية وحقوق الانسان. هذا ما كنا عهدناه، على نحو أو آخر، في عهد بيل كلينتون. لكن التطعيم شيء والإبدال شيء آخر. الإبدال فيه عنصر قسري بالغ الافتعال. لنتأمل في مثل تطبيقي، راهن ومُلحّ، على احلال الديموقراطية كلياً محل السيادة: فرض الديموقراطية على العراق. حتى لو صدقنا، يمكن القول ان النتيجة لا تزال غير مضمونة. ما هو مضمون أن القسرية التي تمارس بها أميركا وبريطانيا حربهما لفرض الديموقراطية تضعف الديموقراطية في هذين البلدين: إذاً الخسارة الديموقراطية مؤكدة. الكسب الديموقراطي غامض. نعم: ينبغي في اية صيغة دولية ان تكافح الارهاب. لكن ينبغي فيها ان تحاربه من داخل تصور جماعي. هذه مسؤولية كونية يترتب عليها نهج متكامل في معالجة المشكلات. لنتأمل في مثل صار من الماضي البعيد!: لا يمكن للولايات المتحدة ان تستنكف عن جهود البشرية في مجالات الاقتصاد والاجتماع والبيئة وتطالب الآخرين بالمساهمة في الحرب على الارهاب كما تراها هي. في المقابل، تضعف حجة الفرنسيين والروس الذين لا يريدون الحرب على العراق بعدما امتنعوا عن ممارسة الحزم دفاعاً عن نظام التفتيش في التسعينات. وقد يصح اننا نباشر توديع الأممالمتحدة. لكننا نستقبل ماذا؟ امبراطورية لا يوجد من يسالها أو يسائلها؟ كل ما حولنا يستدعي استنفار القلق المسؤول، لا لأن القديم ينتهي بل لأن الجديد لا يولد، ولا يبدو قيد الولادة. موت صدام حسين لا يعوّضنا هذا.