أمير حائل يدشن إنتاج أسماك السلمون وسط الرمال    المسند: طيور المينا تسبب خللًا في التوازن البيئي وعلينا اتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من تكاثرها    التعامل مع المرحلة الانتقالية في سورية    إحباط تهريب (1.3) طن "حشيش" و(136) طنًا من نبات القات المخدر    بناء الأسرة ودور مراكز الرعاية الصحية الأولية    معرض الكتاب بجدة كنت هناك    جمعية(عازم) بعسير تحتفل بجائزة التميّز الوطنية بعد غدٍ الإثنين    البديوي: إحراق مستشفى كمال عدوان في غزة جريمة إسرائيلية جديدة في حق الشعب الفلسطيني    مراكز العمليات الأمنية الموحدة (911) نموذج مثالي لتعزيز الأمن والخدمات الإنسانية    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بمعسكر قطر ويستعد لمواجهة الخليج الودية    الهلال يُعلن مدة غياب ياسر الشهراني    جوائز الجلوب سوكر: رونالدو وجيسوس ونيمار والعين الأفضل    ضبط 23194 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.. وترحيل 9904    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    حاويات شحن مزودة بنظام GPS    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    حلاوةُ ولاةِ الأمر    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة البعث في العراق : 1964- 1968 : صدام حسين ، بتربية خير الله ، يقود الحزب الى السلطة 3
نشر في الحياة يوم 18 - 03 - 2003

بعد أن تناولت الحلقة الثانية قيام سلطة البعث في 1963 وانهيارها، هنا التتمة:
بسرعة وبخفّة تحطمت آمال البعثيين، وبات على حزبهم أن يُبعث، هو نفسه، من الصفر.
المطلوب كان علي صالح السعدي آخر، يشبه الأصلي صلابةً وتآمريةً، ويفوقه جديةً وولاءً لقيادة عفلق، فضلاً عن سلاسة العلاقة بعسكر الحزب مما افتقر اليه السعدي.
وفي الميدان كان صدام. فعفلق لم ينس ذاك الشاب الذي كان من أقليي الوفد العراقي الى المؤتمر القومي السادس وتجرأ على يسار الحزب، مبرهناً على ولاء مطلق ل"القائد المعلم". هكذا اقترح، في شباط فبراير 1964، وفي المؤتمر السابع، ترفيعه الى عضوية القيادة القطرية للعراق.
والمؤتمر السابع جاء رداً على سابقه، فأعاد الاعتبار الى القادة التاريخيين، وكانوا في أمسّ الحاجة اليه. وتبدّت الثأرية حيال العراق خصوصاً، فطُرد السعدي وجناحه وانتُخبت قيادة قطرية مطواعة. كذلك كُلّف المكتب العسكري للحزب، بقيادة أحمد حسن البكر، إعادة بنائه التي تولاها فعلياً قريبه الصاعد، صدّام.
والأخير لم يكن اسمه متداوَلاً خارج أوكار البعث. فهو، تبعاً لقليل عُرف عنه، ولد في قريته العوجا التي تبعد تسعة كيلومترات عن تكريت، وكان ذلك عام 1937، ويُرجّح يوم 28 نيسان ابريل. أبوه حسين المجيد توفي مبكراً، فاقترنت أمه، صبحة طلفاح، بابراهيم الحسن الذي كره نجلها وظن أن الفلاحة أشد ملاءمة له من المدرسة. ويبدو ان ابراهيم عالجه بالعنف، وربما فعل ذلك رفاق صغار يرون في اليُتم وزواج الأم مصدر استضعاف.
وعلى العموم تأسس في صدام الصغير استعداد للعنف ما لبث أن وقع على ما يغذّيه. فقد هرب الى خاله الذي كان من صغار الوجهاء في تكريت، فأهداه مسدساً وربّاه في كنفه. لكن الخال خير الله طلفاح، الذي عمل منذ سنوات مُدرّساً، كان ينتقل شتاءً الى بغداد، فيعهد بالصغير الى أخته، خالة صدام، ليلى.
وقصةٌ كهذه نمطية لجهة ابتدائها باليُتم، وهو الفصل الأول في سِيَر عظماء وأنبياء وقادة كثيرين. لكنها، كذلك، حالة انثروبولوجية ممتازة. فهي عيّنة أخرى على الانحياز الى أهل الأم مُرفقاً بتفضيل العشيرة، حيث "تؤخذ الدنيا غلابا"، على الفلاحة والاستقرار في أرض رتيبة.
مع هذا ربما كنّ صدام بعض الحسد لابن خاله ورفيق طفولته، عدنان خير الله. ذاك أن الأخير عاش في بيت أبيه، وكان يصحبه شتاءً الى بغداد، مخلّفاً صدام في الوحشة التكريتية التي لم يغادرها الى العاصمة حتى 1957.
غير أن هدية المسدس للشاب النحيف الذي أوحى للناظرين اليه ضعفاً في بُنيته، لم تكن من صنف الهدايا الرمزية. فبين أصدقاء طفولته من نسب اليه مهارات يلزمها العنف، كالتحايُل على عدّاد الكهرباء الحديثة الوفادة الى تكريت، وإحداث تفجيرات تقتل السمك النهري الذي لا يلبث ان يطفو. ويُعزى الى صدام الفتى كرهه الغناء ل"ميوعته"، وابتعاده عن الفتيات، وسعي الى التزعّم والوجاهة لا يكلّ، كما يُنسب نجاح ملحوظ في المدرسة الابتدائية بتكريت.
ويبدو ان شاباً من الأعظمية، رياضيا ولاعب كرة قدم، اسمه عطا محيي الدين، حمل البعث الى منطقته التي لم تكن مكاناً تخافه السلطة. فقد اختار الحكم تكريت منفىً لعبد الرحمن البزاز، عميد كلية الحقوق والسياسي اللاحق، عندما عارض "حلف بغداد". ويُذكر ان خير الله نفسه كان من مرتكزات السلطة هناك فأيّد، أواسط الخمسينات، مرشحها علاء الدين الوسواسي، المحسوب على خليل كنّه المقرّب من نوري السعيد.
ولئن قالت الرواية الرسمية إن صدام انتسب الى البعث في 1955، ذهبت رواية أخرى الى ان محيي الدين مَن نظّمه ك"نصير" في 1959، وسريعاً ما ضُم الى المكلّفين اغتيال قاسم. فهو، وإن لم يكن عضواً عاملاً، ذو رصيد رشّحه لأدوار كهذه. ذاك ان ثمة من يجزم بإطلاقه النار على مدرّس كردي في تكريت نفسها، ومن يتحدث عن توقيفه لقتله ضابط صف. اما الواقعة الأوسع انتشاراً، رغم اختلاف في التفاصيل، فاعتقاله وخاله، أواخر 1958، وقضاؤهما في السجن ستة أشهر لاتهامهما بقتل قريبهما الشيوعي الحاج سعدون. ومما يُروى أن انقلاب تموز يوليو كان عيّن خير الله مديرا لمعارف لواء بغداد، لكن سعدون هذا رفع مذكرة حزبية استهجنت التعيين وسمّته أحد "الرجعيين أعداء الثورة والزعيم". وخسر خير الله عمله فكلّف ابن شقيقته وربيبه أخذ الثأر.
لقد شابه صدام، العنيف والمنطوي، شبان شلل وأزقّة يعرفهم المشرق كما يعرفهم الجنوب الايطالي، ممن غدت القرابة وسيطهم الى العالم الخارجي، يقتلون من أجلها ويُقتلون. وتكريت التي حاكت صقلية في التفلّت من سلطة الدولة عرفت، بحسب البعض، "تقليداً" مُبكراً سمّاه أهلها "كسر العين": فحين كان وجهاؤها يدعون الوالي العثماني وعائلته الى زيارتها، كانت حفنة من شبانها تربض للموكب لدى عودته فيعتدي أفرادها على نسائه خصوصاً. وبهذا يضمنون سكوت الوالي عنهم بعدما "كُسرت عينه" في موضع حسّاس.
وصدّام، سليل هذه "التقاليد"، حملها معه الى العاصمة. وقد أشارت رواية عنه الى أنه حاول الانتساب الى الكلية الحربية، أسوة بالتكارتة الذكور، ولم يُقبل. أما ثانوية الكرخ حيث تسجّل، فلم يكمل دراسته فيها، وثمة إيحاءات بأنه فاق سناً رفاق صفّه، ما يعزّز عند صاحبه البَرم بالدراسة عادةً، كما يقوّي مواهب التزعّم على الأصغر بينهم، والتباهي بالعضل على الأنبه فيهم. ولما أقام خير الله في الجعيفر، وهي من أحياء الكرخ ومعقل للقوميين ثم البعثيين، سكن عنده ابن أخته، فاستأنف دوره كأداة عضلية لتصفية حسابات الخال.
وربما شارك صدام في مظاهرات القوميين تأييداً لمصر الناصرية، كما يذهب البعض، وربما حمل مسدساً وسُمي "أبو مسدس"، كما يرى بعض آخر ناعتاً اياه بقيادة رعاع الجعيفر وتهديد أصحاب دكاكين لا يقفلون لدى الدعوة الى الاضراب.
لكن الظاهر أن خير الله الذي نُعت بالصلابة بقي قدوة صدام الصالحة. والخال لم يكن مجرد موظف ووجيه ثانوي يحرّض على القتل. فهو أيضاً كان ضابطاً قومياً صغيراً شارك في انقلاب الكيلاني عام 1941 وسُرّح في عداد 324 ضابطاً متعددي الرُتب. ولئن لم يخلّف ما يشي ب"أفكاره" آنذاك، نشر أوائل الثمانينات، إبان الحرب مع إيران، كرّاساً يحمل عنواناً غريباً وبالغ الوضوح في آن: "إن الله أخطأ في خلق ثلاثة أشياء - الفرس والذباب واليهود". كذلك "شرح" الخال و"علّق على" أحد الأعمال اللاسامية الغربية المترجمة، وهو كتاب وليم كار "اليهود وراء كل جريمة".
وبمثل هذه الأفكار في بيئةٍ الدمُ فيها رخيص، نشط صدام، بُعيد 1958، في العصابات القومية التي تصدّت لانتهاكات منظمات "المقاومة الشعبية" مما أقامه الشيوعيون. ومراتٍ عدة أُوقف لفترات قصّرتها ثانوية موقعه الحزبي، أو عدم تأكّد السلطات من حزبيته. لكن اشتراكه في محاولة اغتيال قاسم بعد عام، هو ما رفعه صدام نفسه حدثاً مؤسساً لسيرته السياسية. وهنا أيضاً تتعدد الروايات حول مصدر اختياره، ويبقى الثابت ان المحاولة كانت عمل هواة ارتبكوا واصطدموا في ما بينهم، فحين سقط أحدهم، عبد الوهاب الغريري، تركوه وراءهم، ما مكّن السلطة من كشفهم تباعاً. وكان دور صدام الفعلي ثانوياً، وهو تأمين التغطية لمطلقي النار. الا ان المبالغات اللاحقة التي نقلتها كتب وأفلام سينمائية وتلفزيونية، أسبغت عليه بطولة أسطورية، فكان مما قيل إنه استخرج رصاصة حلّت في ساقه بسكين كان يحملها. وعزا صدام الى ذاته عبوراً موسَوياً للصحراء قاده الى سورية، فيما كانت محكمة المهداوي الشهيرة تصدر عليه حكمها الغيابي بالموت.
وبحسب تحسين معلّة، الطبيب البعثي الذي عالجه، كان جرحه سطحياً نسبياً. وهو ما أكده أيضاً الصيدلي البعثي هاني الفكيكي الذي اعاد تضميد الجرح في سورية. بيد ان البعث الميّال الى الالتحام في الخرافة يعوزه الأبطال بإلحاح لا يتعب. ومن هذا القبيل عززت صلابةُ صدام، الفعلية جزئياً والمصنوعة جزئياً، موقعه في حزب عضلي كحزبه. وفعلاً بدأ يبزّ صديقه عبد الكريم الشيخلي، المتقدم عليه في عملية الاغتيال، وفي البعث، وتالياً في الشلّة التي ضمت ناظم كزار وسعدون شاكر وآخرين.
وعلى خلاف المعايير الصارمة المتبعة، حصل التكريتي الشاب على العضوية الكاملة بعد شهرين او ثلاثة. يومها كان في دمشق وربما أتيح له هناك ان يشاهد عفلق ويتبرّك به، فازداد عتوّاً. ومثلما تفاوت صدام مع تلامذة الكرخ، ممن كانوا أصغر وأنبه، شرع يتفاوت مع الحزبيين ممن كانوا أعرق حزبيةً وأقل عضلية. وهذا ربما فاقم فيه ميلاً الى كسر المعايير والأُطر وإعادة صوغها بما يجافي منطق التدرّج المألوف.
وانتقل صدام الى القاهرة مع عشرات من بعثيي العراق كان في عدادهم الشيخلي. فهؤلاء قرروا استكمال دراستهم هناك، فيما ينتظرون اللحظة الحاسمة في بغداد. ولئن تسجّل في ثانوية قصر النيل في الدقّي، حيث تخرج في 1961، بقي ابان سنواته المصرية لاجئاً سياسياً مأخوذاً بأحداث بلده يعيش، كسائر اللاجئين، على معاش متواضع تقدمه القاهرة. ولم يُعرف الكثير عن دراسته، فيما روي انه طالع بضعة كتب عن سِيَر العظماء، خصوصا ستالين. وقد لاحظ البعثي السوري حسين حلاّق، مسؤول احدى الخلايا التي تعاقب عليها صدام، انه لم يجد فيه ما يسترعي الانتباه. مع هذا ظل نشاطه بين البعثيين شاغله الأبرز، فانتُخب عضوا في قيادة فرعهم في مصر.
وربما تخوفت المخابرات المصرية من ان يكون في حوزته سلاح. وربما عرّضته لمضايقاتها، لا سيما وقد وقف البعث موقفاً ملتبسا من الانفصال. كذلك تردد أن السلطات أوقفته لتهديده بالقتل مواطناً عراقياً وناصرياً يقيم في القاهرة. اما الرواية الرسمية العراقية اللاحقة فتفيد انه أُوقف فترة قصيرة لاصطدامه بمن كانوا يتجسسون عليه لصالح المخابرات.
غير ان صدام الذي اختُصر عالمه في الحزب والحزبيين العراقيين، لم يكسب أصدقاء مصريين ما خلا بوّاب بنايته. حتى الدراسة، حيث تسجل في جامعة القاهرة لدراسة القانون، ما لبث ان تركها. لكنْ في القليل من حياة شخصية عرفها احتفل، خلال 1962، بعقد قرانه على ابنة خاله، المعلمة الابتدائية، ساجدة خير الله طلفاح. وكانت العروس التي تنتظره في بغداد "أعطية أبٍ" وعده بها الخال قبل سنوات عدة. فعندما عاد، في آذار مارس 1963، الى العراق اكتمل الفرح. على أنه، قبل رجوعه، زار الاسكندرية والأقصر، وترك وراءه صُوراً تدل الى اهتمامه بحسن الهندام وبالمظهر امام الكاميرا.
بيد ان قيام حكم الحزب، وهو ما سبق عودته بأسابيع، لم يكافىء طموحه. فالانقلاب الذي كان بعيداً عن مجرياته، حدّ من صعوده البادىء بانتقاله الى دمشق. فهو إذّاك لم يكن بعد من رجالات الصفّ الأول، الأمر الذي غذّى كراهيته للسعدي. وعمل صدام في المكتب الفلاحي التابع للبعث، ويبدو انه تورط في ارتكابات الحرس ولجان تحقيقاته في الجعيفر قبل ان يحتدم خلاف الحرس والعسكر، فيما كان الشيخلي وكزار وشاكر وعمّار علوش وخالد طبرة وعزت الدوري، بائع الثلج المتجوّل وذو التعليم الابتدائي البسيط، من البعثيين الذين نشطوا معه في الجعيفر.
لكن اسمه عاد، أواخر حكم البعث، الى الصدارة مرتبطاً بتأييد أقاربه العسكريين ويمينيي الحزب. فذُكر، مثلاً، أنه أبدى استعداده، ابان استفحال الخلاف، لاغتيال السعدي وإنهاء الموضوع. وكان ممن شاطروه آراءه، محاولين إضفاء قدر من اللباقة عليها، موظف الاذاعة والصحافي البعثي والمسيحي طارق عزيز.
هكذا فحين شنّ هجومه في المؤتمر السادس، كان يستحيل ألاّ يلفت نظرَ عفلق الذي استرعته شجاعة المتحدث وفضائحية الحديث. فقد اتهم صدام اليساريين برشوة العمال والفلاحين، كما عيّرهم بالفساد. ولم يَفتْه التعريض بالسعدي المرهوب الجانب، فعزا اليه الاساءة الى هيبة الحكم والتردد على الحانات والمقاهي.
وقد نُسب الى صدام، قبيل انقلاب عبد السلام عارف ومعه ضباط البعث، أنه شارك في اقتحام المؤتمر القطري في 11 تشرين الثاني نوفمبر. كذلك قيل إنه تسلم الاشراف السياسي على الاذاعة فأذاع، هو وطارق عزيز، بيانات باسم القيادة القومية تحض الحزبيين على عدم المقاومة. وذُكر، في السياق نفسه، ان الحرس القومي في الصالحية احتجزه ورفاقه في المكتب الفلاحي يوم 15 تشرين الثاني، قبل ان يسيطر عارف ويُهزم الحرس.
على ان صعود الشاب التكريتي الى القيادة لم يكن التغيير الوحيد الذي طرأ على بعث العراق. ففي المؤتمر السابع نفسه، قرر عفلق والقيادة القومية تشكيل قيادة قطرية ضمت، الى البكر وصدام، عدداً من الحزبيين السنّة، معظمهم من تكريت، وأكثر من نصفهم عسكريون. وبذا غدا البعث أكثر تجانساً إنما أقل تمثيلاً وأضحى، بالتالي، أقرب الى التماهي مع منطقة وجماعة بعينهما. فبعدما شكّل الشيعة في قياداته القطرية خلال 1952-1963 ما يتعدى النصف، قلّ حضورهم بين 1963 و1970 عن 6 في المئة. ذاك أن تعاظم دور العسكر في الحزب حدّ تلقائياً من نفوذ الشيعة فيه تبعاً لضعفهم التقليدي بين الضباط. وإذ أيّد معظم بعثييهم السعدي وجناحه، انصبّ القمع في عهد عارف عليهم دون رفاقهم السنّة. فالأخيرون حمتهم صلة القرابة برجال الشرطة ذوي الاستعداد التمييزي أصلا.
وتغذّت التوجهات الجديدة، ومنها ولاءات الدم والمنطقة، على ضعف الرابط العقائدي. لكنها رست، كذلك، على درس مثلّث الأضلاع استخلصه صدام من انهيار 1963. فالحزب، أولاً، ينبغي ألاّ يضم أجنحة كالتي عصفت به وقضت على حكمه، ما يستدعي القيادة الواحدة التي تؤمر فتُطاع. ثم ان العسكريين، لا المدنيين، ينبغي ان يكونوا أداته الضاربة، بعد ان يتوافر لهم القائد الذي لم يكن في 1963. أما ثالثاً، فهذه اللحمة بين العسكريين، وبينهم وبين قائدهم، يصعب توطيدها ما لم تؤسس على القرابة والمنطقة وما تيسّر من عقيدة. ولصدام المدني كانت التكريتية وحدها ما يعوّض عدم صدوره عن جيش فشل السعدي في ترويضه.
وهنا تكتسب تكريت معناها. فكثرة العسكريين فيها، وفي الدُوْر المجاورة، ترقى أصولها الى اواخر القرن التاسع عشر: آنذاك أدى تحديث نظام الملاحة النهرية الى تراجع حرفتهما التقليدية، وهي انتاج "الأكلاك" أو المراكب الصغرى المصنوعة من جلود منفوخة. وهذا ما أفضى الى هجرة صوب العاصمة والاقامة في ما عُرف ب"حي التكارتة". ولئن تحول بعضهم عمالاً لبناء السكك الحديد، أو في خط انابيب النفط K2، انتسب كثيرون منهم الى الكلية العسكرية الملكية بفضل مولود مخلص. فالأخير، وهو ضابط فيصلي وسياسي مقرّب من فيصل الأول، استخدم نفوذه لصالح التكارتة، عاملا على تسهيل تنسيبهم. ومولود نفسه كان ابناً لكلكجي صانع أكلاك من تكريت، ومنها تزوج فتاة تمتّ بقرابة الى أحمد حسن البكر. والأهم، ربما، أن الأراضي الخصبة والوافرة التي أقطعه إياها العرش كانت في تكريت.
الا أن تحولات أخرى كانت تتسارع في دائرة السلطة. فحينما استولى عارف عليها، احتفظ بكبار العسكريين البعثيين ممن تواطأوا معه لإطاحة الحرس، ولو أن المناصب والأدوار التي تولّوها بقيت احتفالية. لكنه، في ربيع 1964، استغنى عنهم بهدوء ولياقة، وكان في عدادهم "نائبه" البكر.
وباشر عارف تصليب حكمه بالاعتماد على طرفين: أقاربه من عشائر الجُمَيلات في محيط مدينة الرمادي، وأبرزهم العقيد سعيد صليبي الذي سلّمه "الحرس الجمهوري"، تلك الوحدة النخبوية التي أنشأها وحشد فيها أبناء الجُميلات، وبعض كبار الضباط القوميين والناصريين كعارف عبد الرزاق وصبحي عبد الحميد وعبد الكريم فرحان. أما من البعث فأبقى على من غادروه كلياً منحازين قلباً وقالباً اليه، كطاهر يحيى الذي لم يحمل حزبيته مرةً على محمل الجد.
ولم يتكاسل صدام والقيادة الجديدة ممن كانوا استعادوا عنوة ممتلكات الحزب التي استولى عليها أنصار السعدي. وفعلاً بدأوا التحضير لمحاولة انقلابية في أواخر أيلول سبتمبر أُجهضت في بداياتها، وانتهت به، هو والبكر وبعثيون آخرون، الى السجن. والحال ان التفكير في الانقلاب قبل بناء الحزب دل بصراحة على الاستراتيجية المغامرة المعتمدة طريقاً الى السلطة، حيث الأولوية للجيش و"الأهل"، كائنة ما كانت حال "التنظيم الشعبي" أو البعث. لكن خوفه من تكرار المحاولة التي قد تلقى دعم دمشق البعثية، حمل عارف على طلب قوات مصرية جاءت حمايةً لنظامه. وفيما تزايد ثقل الناصريين العراقيين في السلطة، توصلت القاهرة وبغداد الى تشكيل "قيادة سياسية موحدة" للبلدين في كانون الأول ديسمبر.
وبالفعل فخلال 1964-1965 طُرح عدد من المشاريع الوحدوية، كما اعتمد عارف نسر العربية المتحدة التي تمسكت القاهرة باسمها رغم الانفصال علماً لبلاده، بعدما أنشىء "اتحاد اشتراكي" عراقي على غرار مصر. لكن ما اعتبره النظام تراجعاً في خطر البعث، وكانت منازعات "القوميين" و"القطريين" في سورية تتوالى، دفعه الى الموازنة مع الناصريين. وفي هذا، ارتكز عارف الى قوى متضاربة وكيفما اتفق. فكان في عداد هؤلاء اسلاميون محافظون وقوميون ليبراليون كعبد الرحمن البزاز وزعماء عشائر. ولولا تزايد ريع النفط بفضل اتفاق حزيران يونيو 1965 مع "شركة بترول العراق" أي بي سي، لاستحالت إدامة حكم مفكك كهذا. الا ان تكليف البزاز تشكيل حكومة جديدة أنعش الآمال باستعادة حياة سياسية يتيحها تفكك السلطة وافتقارها الى أي قصد. وبانفجار مروحية جوية بعبد السلام في نيسان 1966 تبدى ضعف النظام وقد فقد رمزه الأوحد، دون أن يبرز في الأفق بديل. هكذا حل في الرئاسة شقيقه عبد الرحمن عارف الذي أعاد تكليف البزاز رئاسة الحكومة. وفاوض البزاز الاكراد للوصول الى تسوية لحرب الشمال، كما حدّ من امتيازات العسكريين وأوجد مناخاً يذكّر بتعددية ما قبل الجمهورية. الا ان العسكريين ممن تألّبوا عليه نجحوا في إبعاده، ما قدّم السلطة في صورة من الهلهلة والتبعثر سمحت للبعثيين ولغيرهم بالتسلل الى مواقع أمنية حساسة.
وتبعا للرواية الرسمية، قضى صدام أياماً صعبة في سجنه، رافضاً وساطات طاهر يحيى للتعاون مع السلطة. لكن زوجته ساجدة أمكنها ان تزوره باستمرار، وكضابط ارتباط مع بعثيي الخارج نقلت اليه رسائل ملفوفة بثياب طفلهما، ابن الأشهر القليلة، عدي. وفي 23 تموز 1966 وبعد عشرين شهرا في السجن، هرب صدام والشيخلي. وكان سعدون شاكر، بحسب رواية أخرى، مُرتّب العملية.
وبفعل تراخيه غض نظام عبد الرحمن النظر ومضى يطلق بعثيين آخرين. لكن صدام، وكما كوفىء قبلا عن محاولة اغتيال قاسم، كوفىء في ايلول باختياره أمينا عاما مساعدا للقيادة القطرية، متفرّغاً لبناء الميليشا الحزبية وتنظيم السيطرة على الشارع، فضلاً عن التوسع في إنشاء الخلايا العسكرية. وكان ممن برزوا في القيادة آنذاك الشيخلي، وكذلك مرتضى الحديثي وعبد الله سلوم السامرائي وعبد الخالق السامرائي وطه الجزراوي، الذي عُرف لاحقاً بطه ياسين رمضان، وصلاح عمر العلي وعزت الدوري. وبدا واضحاً دور الشللية وتجربة السجن في اختيار القادة الذين غدا ولاؤهم لصدام يفوق كل ولاء.
لكن شيئاً آخر كان يجري فيما البعثيون معتقلون، وهو ما عزز واحدية المرجعية. ففي 23 شباط أطيحت القيادة القومية في سورية بانقلاب نفّذه العسكريون و"القطريون" اليساريون، فتمسك بعث العراق بشرعية القيادة العفلقية. ورب ضارة نافعة، إذ عمل خلافه مع انقلابيي دمشق على تحريره من كل وصاية، إيديولوجية أو أخلاقية أو سياسية، قد تمارسها قيادة من الخارج. وبعد عام ونيّف انشق الحزب الشيوعي وخرج "الغيفاريون" بقيادة عزيز الحاج ممن عُرفوا ب"القيادة المركزية" وهذا، بدوره، طمأن البعثيين الى ان المنافسة الشيوعية غدت أضعف من ذي قبل.
لكن هزيمة 67 ما شكّل المناسبة النموذجية لاصابة عصافير عدة بحجر واحد، خصوصاً أن بعث العراق يومها كان أينما ضرب أصاب. فالحزب الذي هُزم في سورية ليس الحزب "الأصيل"، بينما جمال عبد الناصر خصم وحليف للحكم العارفي، فيما الأردن يحكمه نظام "رجعي" أصلاً. اما ما بقي من منافسة شيوعية على استثمار ضعف النظام، فعالجه البعث بشفرة تآمرية لا يردعها رادع.
وبالفعل ففي 6 ايلول قاد رجال صدام مظاهرة ضخمة، داعين الى العمل ضد "الطابور الخامس" المتسبب بالهزيمة. يومها كان السائد في بيئات عربية واسعة أن السوفيات مسؤولون عن نتائج الحرب لمطالبتهم عبد الناصر ألاّ يكون البادىء. ولأن السوفيات غدوا حليف النظام "القطري" في دمشق، أمكن العزف على الوتر اللاسامي القديم الذي يجمع الشيوعية بالصهيونية. وفضلاً عن الشيوعيين بدا من تبقى من يهود العراق هدفاً سهلاً، فاضطر الحكم الى إصدار سلسلة إجراءات ضدهم.
ومع ان العراق لم يخسر في حرب 1967 الا عشرة جنود، نجحت المظاهرة الكبيرة بعزفها على الأوتار جميعاً في إعادة وصل البعث بالمناخ السني العروبي الذي أصابه العهدان العارفيان بخليط من الفتور والدوار. وجاء التركيز على "الخطر الشيوعي" في اليسار، موازياً للهجوم على حكومة طاهر يحيى في اليمين، لقلّة فعاليتها في الصراع مع اسرائيل وفسادها. والحال ان يحيى ظل، في نظر البعثيين، بروتوس الذي وجّه الطعنة القاضية وغير المتوقعة حين فضّل، وهو التكريتي، عبد السلام عارف على الحزب.
وما كان البعث يصنعه فعلاً انما هو فتح أزمة عامة على مصراعيها، وهذا ما نجح فيه إذ أُبعد يحيى، وشرع عبد الرحمن عارف، من دون أن تكون له في الجيش كتلة خاصة، يبحث في نادي رؤساء الحكومات السابقين عن بديل. ولم يُستثنَ البكر نفسه، الا أن ضعف الاجماع في النادي السياسي العراقي بدا طاغياً ومعطّلاً. هكذا راح البعث، وقد استُكمل الانسداد السياسي، يطالب بتشكيل حكومة وحدة وطنية فيما يتهيأ للانقلاب.
والأبعد أن الصراع مع العارفين دار داخل دائرة سوسيولوجية وفكرية واحدة. فباستثناء الهامش الذي أتيح للبزاز، صدرت البيئتان عن مقدمات دينية ومذهبية، اجتماعية وفكرية، واحدة، ولو تمثلت مرةً بأهل الرمادي ومرةً بأهل تكريت. لهذا لم يقسُ عبد السلام عارف على البعثيين، ما خلا الحرسيين والشيعة منهم. واذا صح انه اعتقل البكر وصدام بسبب المحاولة الانقلابية، فهو لم يُجر أية محاسبة على ارتكابات 1963. وقد وجد كثيرون من المرتكبين مقاعد لهم في سلطته. فحينما تولى شقيقه عبد الرحمن وأُطلق سراح البعثيين، ضعفت الحملة على حزبهم وغدا البكر وجها وطنيا مقبولاً.
لقد عجز نظام العارفين الفاتر الهمّة عن انتاج لحمة تربط أطرافه المتضاربة، فافتقرت هذه الاخيرة الى المعنى والعصبية كما أعوزها القصد. وبدا البعث الأقدر على قطف الثمار اليانعة، رغم انه لم يكن في تلك اللحظة أكثر من اسم تمويهي للضباط التكارتة. فعدد الحزبيين لم يكن الا بضعة مئات لا أكثر!
الحلقة الرابعة الثلثاء المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.