تشكل تظاهرة تكريم المخرج الأرميني سيرجي بارادجانوف، ضمن التظاهرات الموازية للمسابقة الرسمية في مهرجان دمشق السينمائي المقبل، فرصة طيبة لرؤية افلام هذا المبدع السينمائي الكبير، فمشاهدة افلامه تعد متعة للعين. وليست افلامه مجرد لوحات تشكيلية منفصلة، بل نماذج تدل على قدرته على استلهام الشعر والأسطورة والحكاية الرومانسية من خلال نظرته الشخصية ورؤيته التشكيلية الخاصة. سيرجي بارادجانوف الذي توفي يوم 27 تموز يوليو 1990 في يريفان - ارمينيا عن 66 عاماً إثر إصابته بالسرطان، ولد العام 1924 في تبليسي، وهو ارميني الأصل عاش في جورجيا. وهو مخرج ذو ثقافة عالية وإحساس خاص تجاه الجمال وذو اهتمام كبير بالأساطير المحلية وبالتقاليد الشعبية. درس الغناء في كونسرفاتوار تبليسي، ثم حاز دبلوماً في الإخراج من معهد موسكو السينمائي، وعمل سنة 1951 مساعداً لأستاذه سامنتشكو في آخر فيلمين له، وأكمل وضع اللمسات على الأخير بعد وفاة المخرج، ثم عمل مع المخرج الكبير ألكسندر دوفجينكو، ثم في استوديوهات كييف في اوكرانيا. اول فيلم قصير اخرجه كان "اندريش" في اقتباس للشاعر "موكوف" وهو حكاية خيالية عن فتى راعي غنم يمنحه جني ناياً سحرياً، حينما كان الفتى يلعب عليه يدخل السعادة والأمل على المستمعين ما يزعج ساحراً شريراً. فيرسل عاصفة تطارد أغنام الفتى ويحيلها الى حجر. ولكن الفتى يستطيع مع رفاقه التغلب على شر الساحر. ثم اخرج ثلاثة افلام تسجيلية، وبعدها اخرج "الصبي الأول" عام 1957 و"ملحمة اوكرانيا" عام 1961 و"زهرة صغيرة فوق حجر" 1963. لكن انتصاره الروائي الأول كان مع فيلم "ظلال الأجداد المنسيين" أو "أحصنة النار" عن عمل للكاتب الأوكراني الشهير ميخائيل كودزيونيسكي الذي يقدره المخرج جداً، ويعتبر "ظلال الأجداد" من ابرز الإنتاجات السينمائية السوفياتية لعام 1964، وحاز جائزتين في مهرجان مارديل بلاتا السابع عام 1966، واعتبره اكثر من 70 ناقداً سينمائياً من احسن عشرة افلام عالمية لعام 1966. من خلال قصة حب ايفانكو وماريتشكا يعرض الفيلم التفاصيل الخاصة بالحياة اليومية لرعاة القبائل الأوكرانية. الذين عاشوا في بداية هذا القرن. وتبدأ القصة بمشادة في الكنيسة بين والد ماريتشكا ووالد ايفانكو، حيث يموت الأخير. وأثناء الجنازة تتولد قصة حب بين ايفانكو وابنة قاتل ابيه، ويقوى هذا الحب مع الأيام إلا ان الظروف القاسية للحياة تضطر ايفانكو الى الرحيل بحثاً عن العمل. وتخرج مارتشكا لملاقاته في اماكن عمله وأثناء بحثها المتلهف عنه تغرق في النهر، ليعود ايفانكو ويرى جثة حبيبته. سنوات عدة تمر برتابة. وإيفانكو يرفض ان يعيش متع الحياة مفضلاً البقاء مع ألمه وحزنه الخاص، وحتى عندما يتزوج، فإنه يبقى مخلصاً للحزن الخاص الذي يحمله في قلبه، وتبقى صورة مارتشكا لا تفارق خياله يراها خلف زجاج البلور وفي صفحة الماء، وعبر ظلال الأشجار اصبحت صورتها صديقة خياله، وتتخذ زوجته من ساحر القرية عشيقاً لها، ويموت ايفانكو ببلطة الساحر في بار القرية في النهاية. "ظلال الأجداد المنسيين" قصيدة شعرية تتحدث عن حياة القبائل وقيمهم وتقاليدهم وأخلاقهم وتحمل عبراً فنية راقية، فيما حركة الكاميرا وزوايا التصوير والاهتمام الخاص بالديكور علاوة على استخدام اللون والرمز وتوظيفهما درامياً، تجسد اسلوباً شعرياً في اللغة السينمائية. وفي مقال كتبه بارادجانوف عام 1968، شرح كيف توصل الى رؤيته في فيلم "ظلال الأجداد المنسيين" قائلاً: "انني اتناول الفرشاة باستمرار، إنه نوع آخر من التفكير، وبالتالي افتح امام نفسي طرقاً مختلفة للاستقبال والتعبير عن الحياة". ثم بعد فيلمه الرائع "لون الرمان" 1968 عن حياة الشاعر سايات نوفا يقدم بارادجانوف فيلمه "اسطورة قلعة سورام" الذي لاقى اهتماماً واسعاً. وتبعه فيلمه المتميز "عاشق قريب" 1988، من وحي قصة ليرمنتوف. وكعادته يبحث بارادجانوف هنا عن فانتازيا مشوقة، وجميلة للأسطورة. مع نهاية الفيلم نجد حمامة بيضاء تطير، ثم تقف على كاميرا صغيرة. وتقرأ الكلمات "الى ذكرى اندريه تاركوفسكي". كان تاركوفسكي 1933 - 1986 قد اسند إليه دوراً صغيراً في فيلمه "سولاريس" 1972 خلال محنته ومنعه من العمل، لكن علاقتهما تمتد ابعد من هذا. فقد تأثر بارادجانوف، بفيلم تاركوفسكي "طفولة ايفان" الذي يقول عنه: "كان اول من تعامل مع صور من الأحلام والذكريات. لكي يقدم الاستعارات والكتابات السينمائية، لقد اصبحت اقوى بعد ان درست تاركوفسكي وقمت بعزف تنويعات اخرى مختلفة على لحنه". ويعتبر بارادجانوف مع تاركوفسكي ابرز المخرجين السوفيات الذين عانوا الاضطهاد والقهر. بارادجانوف الذي امضى خمسة عشر عاماً من حياته في السجن، وأطلق سراحه بعد تدخل مثقفين وكتّاب اوروبيين يساريين في مقدمهم الشاعر الفرنسي أراغون، عام 1978، تحدث لمجلة "دفاتر السينما" الفرنسية عن نظرته الى تلك السنوات. من حديثه نقتطف ما يلي: "إنني المخرج الوحيد في العالم الذي قاسى ثلاثة عذابات في السجن بتهمة الحق العام، ثلاث مرات وجدت فيها نفسي في شروط احتجاز قاسية. كتبت اكثر من عشرين سيناريو في السجن لم أستطع نشرها ولن أصورها ابداً، اذاً توصلت في ما تبقى لي من الحياة، الى تحقيق فيلمين على الأقل، فسأكون راضياً لو لم أكن أملك إجلالاً حقيقياً للفن، ولبلادي، كما لمعبود، كما للمسيح فكيف كنت سأبدو بعد ثلاث مراحل من العزلة التي عشتها؟!". ويضيف: "هذه رؤيتي للأمور: ليحيا هواء الحرية والعدالة، عبر كل العذابات التي لا اعتبرها إحباطاً خرجت فناناً، اهديت قسماً من السيناريوهات التي كتبتها في السجن الى يوري الينيكو المخرج عالي النبل وبتفريغه ما سجلته. وضع كتاباً من سبعة سيناريوهات اعاد ترتيبها في سيناريو واحد، اعطاني إياه لأوقعه، وهو بعنوان "الحشرات تغادر الجسد" في السجن وتؤكد بمغادرتها الوفاة الطبية للسارق او المجرم، حملت معي من السجن 800 رسمة ومئة حكاية، خرجت من السجن كما يخرج آخرون من اوكسفورد الجامعة، في حديث لي مع تاركوفسكي قلت له: "انك صديق كبير إنما ينقص فنك شيء ما ربما، ان تكون امضيت سنة واحدة في السجن، في العتمة التامة جائعاً مملوءاً بالحشرات، تشرع بالتفكير في العالم في شكل مختلف وتقدر الشمس والحياة بطريقة اخرى. موت تاركوفسكي خسارة كبيرة للسينما السوفياتية. واضطراره الى مغادرة بلاده للعمل مأساة، اود الذهاب الى زيارة ضريحه حيث تركنا نحن السينمائيين السوفيات في مأتمه جزءاً من قلوبنا".