لم يعش سرغاي بارادجانوف طويلاً بعد حلول البريسترويكا ثم انفراط الاتحاد السوفياتي، لكن يعرف ما الذي حل بأوطانه الثلاثة: الاتحاد السوفياتي نفسه، أرمينيا التي ينتمي اليها بالهوية والثقافة، وجيورجيا التي ترعرع وعاش فيها. ولو عاش، لكان من أول السينمائيين والفنانيين الذي يستغلون الفرصة للإمعان في تحقيق أفلام متمردة، شكلاً ومضموناً، على القوالب الجاهزة. رغم قلة عدد أفلامه، يعتبر بارادجانوف من أبرز السينمائيين العالمين الذين برزوا خلال الربع الثالث من القرن العشرين. وللتيقن من هذا، حسبنا ان نشاهد واحداً من أفلامه الأربعة "أشباح الجدود المنسيين" 1964، "سايات نوفا" 1969، "اسطورة قلعة سورام" 1984 وأخيراً "عاشق غريب" 1988. وهذه الأفلام تعرض خلال شهر حزيران يونيو الجاري، في لندن بمبادرة من "المعهد الفرنسي" وذلك ضمن اطار تظاهرة تكريم متكاملة لهذا الفنان الذي كان سينمائياً وشاعراً ورساماً وروائياً وباحثاً في الفولكلور في الوقت نفسه، علماً بأن السلطات السوفياتية اضافت الى صفاته في تلك الأزمان، صفة "سارق" و"مهرب". وهما - على أية حال - التهمتان اللتان التصقتا به لكي يسهل سجنه، حين تبدت أفلامه ممعنة في تمردها. "تمرد" أفلام بارادجانوف آت، من اختياره لمواضيعه. فالرجل المشرب بالأصالة الأرمنية وبالفولكلور الجورجي، ناهيك بالأساطير الشرقية حكاية "قيس وليلى" مثلاً، جعل أفلامه مرآة لذلك الولع. ولئن كانت السلطات سكتت عنه لفترة من الزمن، ولا سيما حين كبرت سمعته العالمية، فإنها لم تعد قادرة على تحمله حين حقق فيلم "سايات نوفا: لون الرمان" ذلك الفيلم الذي رأت فيه دعوة انفصالية أرمنية. كل هذا قد أصبح من قبيل الذكرى اليوم. لكن أفلام بارادجانوف باقية بطقوسها وألوانها ومواضيعها وقسوتها. وكذلك باقية رسومه التي حققها داخل السجن.