سياسياً، انتهى صدام حسين ونظامه منذ ما يقارب السنة، اي منذ البدء في حشد القوات الأميركية في المنطقة المحيطة بالعراق. حينها اعتبرت اوساط الإدارة الأميركية ان بمجرد صدور قرار الكونغرس الأميركي الذي يجيز للرئيس جورج بوش خوض الحرب، وقبله قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1441، الذي يعتبر ان العراق "كان ولا يزال في خرق جوهري لالتزاماته" والذي صدر آخر العام 2002، فإن الطريق لسقوط النظام من الداخل، قد فُتح... خصوصاً بعدما وافق صدام على هذا القرار. ثم قال العسكريون الأميركيون ان القوى التي ستساعد في إسقاط صدام ستتحرك بجدية فور سماعها قرقعة الدبابات الأميركية وهديرها، إما من اجل قتله، او من اجل تسهيل دخول الجيش الأميركي بأقل الخسائر. وقد صدقت التوقعات الأميركية في هذا الصدد. والدخول المذهل إعلامياً وسياسياً، للمدرعات الأميركية، من دون مقاومة، الى بغداد في 9 نيسان ابريل الماضي كان دليلاً الى صحتها. والهدف من هذه العجالة في العودة الى الوراء هو القول ان صدام لم يُهزم بمجرد اعتقاله في حفرة الفأر التي كان قابعاً فيها، مساء السبت الماضي، بل انه هُزم قبل ما يقارب السنة... وإلا نكون كمن ينزلق الى تداعيات "البارانويا" الصدامية، التي رفضت التسليم بالهزيمة وقبلها بالخطايا التي لا تغتفر، ثم ابت إلا ان تفاوض الجنود ال600 الذين انتشلوه من جحره المهين. إنها "البارانويا" التي جعلته يقول: أنا رئيس العراق وأريد ان افاوض. ومن دون التقليل من اهمية مشاعر الارتياح والابتهاج، لدى ملايين العراقيين لاعتقال الطاغية، فإن التذكير بأن صدام سقط قبل مدة ولم تعد له قيمة، يهدف الى القول ان بقاءه طليقاً وهارباً منذ ما قبل الحرب غادر قصوره كلها قبل بدء القتال بأشهر لم يكن ليقنع أي عاقل بأنه يمكن ان يعود الى الحكم. ولا حاجة الى التذكير كم كان صدام مفيداً للأميركيين ضد مصلحة شعبه، الى درجة انه افادهم وهو طريد، وها هو يفيدهم وهو اسير. استخدمت ادارة بوش صدام الهارب بوعد الأميركيين بأنها ستلقي القبض عليه، لربح الوقت ازاء تصاعد المطالبة بانسحابها من العراق ما دامت اسقطت النظام ولم تجد اسلحة الدمار الشامل فيه. وضخّمت واشنطن احتمال عودة صدام الى الحكم بقولها انه يتزعم المقاومة لهذا الغرض الذي يحلم به، من اجل ايهام الرأي العام بمبررات استمرارها في إحكام سيطرتها على العراق. واستفادت ادارة بوش من إلقاء القبض على صدام من اجل إعادة رفع نسبة شعبية الرئيس بعد ان تدنت بفعل الكلفة المتزايدة للضربات التي تتعرض لها قواته في العراق واستغلت صورته كرجل كهف على شاشات التلفزة لإيهام الرأي العام بأن ثمة ما يبرر مهمتها "الحضارية" في المنطقة، لتحديثها وإخراجها من "تخلفها". وهي ستستفيد من محاكمته والسجال حولها بعد الآن، لكسب الوقت، إزاء تعثر وعود نقل السيادة الى العراقيين واحتمالات تزايد فشل اعادة الاستقرار والإعمار نظراً الى غياب مشروع ما بعد الحرب. وستسعى الى توظيف المحاكمة ضد حكام عرب ودول اسلامية باستدراج الديكتاتور المريض لبث معلومات عن هذا الحاكم او ذاك، اثناء إدلائه بأقواله... كأن واشنطن لا تعرف ماذا كانت عليه علاقات هذا الحاكم او ذاك بصدام. ستسعى واشنطن الى إغراقنا في "بارانويا" الديكتاتور الذي أفلت من المصحّ، من اجل ان تنسينا اننا اصحاء، خلافاً لصدام.