مركز مشاريع البنية التحتية بمنطقة الرياض يعلن تفعيل أعماله في 19 محافظة و47 بلدية    نائب أمير مكة يطلع على أبرز المشاريع المنجزة بمحافظات المنطقة    مُحافظ جدة يُكرّم عدداً من ضباط وأفراد مكافحة المخدرات    2024.. إنجازات سعودية    قوافل مساعدات سعودية جديدة تصل إلى غزة    «العالم الإسلامي»: ندين بأشد العبارات اقتحام مستوطنين باحات المسجد الأقصى    سورية تتطلع لعلاقات "استراتيجية" مع أوكرانيا    الأخضر.. خطوة نحو «الكأس»    «الصفراء» حرمتهم.. والمدرج مكانهم    «الشورى»: الموافقة على مشروع تعديل نظام إنتاج المواد التعليمية وتسويقها    لغير أغراض التحميل والتنزيل.. منع مركبات توصيل الأسطوانات من التوقف في المناطق السكنية    نائب أمير تبوك يقلد مساعد مدير السجون بالمنطقة رتبته الجديدة    الجوال يتصدّر مسببات حوادث المرور في الباحة    القهوة والشوكولاتة.. كماليات الشتاء والمزاج    5 فوائد للشاي الأخضر مع الليمون    الأخضر يختتم استعداداته لمواجهة عُمان في نصف نهائي خليجي 26    الهلال يكسب ودّية الفيحاء بثنائية "نيمار ومالكوم"    جابر: ثقتنا كبيرة في تجاوز المنتخب السعودي    ولي العهد يعزي تشوي سانج في ضحايا حادث الطائرة    «مجلس التخصصات الصحية» يعتمد استراتيجية العام المقبل    القيادة تعزي في وفاة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر    وفاة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر    "الشورى" يوافق على تعديل نظام إنتاج المواد التعليمية وتسويقها    مجلس إدارة هيئة الإذاعة والتلفزيون يعقد اجتماعه الرابع لعام 2024    تركي آل الشيخ يعلن عن القائمة القصيرة للأعمال المنافسة في جائزة القلم الذهبي    استعراض مؤشرات أداء الإعلام أمام الوزير    11 ألف مستفيد من برامج التواصل الحضاري بالشرقية    أمير الشرقية يشدد على رفع الوعي المروري    مغادرة ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    أمير القصيم ينوّه بدعم القيادة لبرامج التوطين    إضافة 122 منتجاً وطنياً في القائمة الإلزامية للمحتوى المحلي    علاج شاب بزراعة بنكرياس باستخدام الروبوت    التغيير العنيف لأنظمة الحكم غير المستقرة    بينهم عدوية والحلفاوي والسعدني.. رموز فنية مصرية رحلت في 2024    هل تفجّر أوابك ثورة إصلاح وتحديث المنظمات العربية    كلام البليهي !    النصر يتوج بكأس الاتحاد السعودي لكرة قدم الصالات على حساب القادسية    مبادرة «عدادي»    حتى لا نخسر الإعلاميين الموهوبين!    الوديعة السعودية أنقذت اليمن    خبراء أمميون يطالبون بمعاقبة إسرائيل على الجرائم التي ترتكبها في الأراضي الفلسطينية المحتلة    توزيع 132 حقيبة إيوائية في ولاية بغلان بأفغانستان    إغلاق عقبة الهدا بالطائف شهرين    وزير خارجية سوريا: نتطلع لبناء علاقات إستراتيجية مع السعودية    الجوازات: صلاحية جواز السفر للمواطنين الراغبين في السفر إلى الخارج 3 أشهر للدول العربية و6 أشهر لبقية الدول    نائب وزير الخارجية يستقبل سفير جمهورية باكستان الإسلامية لدى المملكة    القبض على شبكتين إجراميتين تمتهنان تهريب المخدرات والاتجار بها في الرياض وجازان    ابتكارات عصرية بأيدي سعودية تعزز رفاهية الحجاج في معرض الحج    الإحصاء تُعلن نتائج المسح الاقتصادي الشامل في المملكة لعام 2023م    عزة النفس وعلو الإنسان    الصقور تجذب السياح    معركة اللقاحات    وزيرا «الإسلامية» و«التعليم» يدشّنان برنامج زمالة الوسطية والاعتدال لطلاب المنح الدراسية    بين الأماني والرجاء.. رحمٌ منبثٌ    التعصب في الشللية: أعلى هرم التعصب    ما الفرق بين الدخان والهباء الجوي؟    نائب أمير منطقة مكة يترأس اجتماعًا لمتابعة مشاريع التنمية للمنطقة    السعودية تعزّي كوريا في ضحايا حادث تحطم طائرة ركاب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"تجربة انتخابية" غير مسبوقة على غالبية المواقع القيادية . مؤتمر حزب التجمع تحد جديد لليسار المصري
نشر في الحياة يوم 17 - 12 - 2003

ينطلق المؤتمر العام الخامس لحزب التجمع اليساري المصري اليوم في القاهرة وسط أجواء مغايرة لما استقر عليه منذ تأسيسه عام 1976 متمثلة في اعتزال مؤسسه وزعيمه خالد محيي الدين رئاسة الحزب مُفسحاً الطريق للدفع بقيادات جديدة على المستويات كافة في إطار "تجربة انتخابية" داخلية غير مسبوقة يتبارى فيها المتنافسون على غالبية المواقع القيادية، فيما قررت الزعامات التاريخية الحياد والامتناع عن التدخل ليجد "الجيل الثاني" في الحزب أول فرصة ملائمة لإثبات وجوده في القيادة.
ويكتسب حزب التجمع أهميته كونه التعبيرَ القانوني عن حركة اليسار في مصر بمختلف فصائلها ولاعباً أساسياً في الحياة السياسية المصرية منذ استئناف التعددية الحزبية في البلاد قبل 27 عاماً، تنوع فيها أداؤه من التشدد الإيديولوجي إلى إبداع فكرة جديدة تخلط بين العدالة الاجتماعية والليبرالية السياسية ليجذب بها عناصر وتجمعات مختلفة وينتزع على أساسها صدارة القائمة اليسارية ويحل بديلاً عن كثير من التنظيمات والفصائل التاريخية.
لكن التغيير الحاصل في المشهد العالمي والإقليمي مع انعقاد المؤتمر الخامس للتجمع جاء على النقيض مما كان في منتصف السبعينات. إذ انهارت التجربة الاشتراكية وغابت كتلة جغرافية كان اسمها "أوروبا الشرقية" وتراجعت حركة اليسار أمام عنف الاجتياح الليبرالي وشراسة طموحاته. ووسط هذه الأجواء ظهرت أفكار عن انتهاء عصر اليسار وبلغ البعض مرحلة توقع فيها "ذبول الفكرة" ذاتها. وفي مصر استدل البعض إلى ذلك بضعف الحركات اليسارية بمختلف فصائلها وتراجعها أمام تقدم الحركات الإسلامية والأفكار الليبرالية، وهو ما دفع للسؤال عن مصير "اليسار المصري" وإذا كان حزب التجمع "تعبيره القانوني" قادراً على المواصلة وبدء مرحلة جديدة، فما مدى توافر المقومات المطلوبة لتحقيق ذلك؟
وضع الرئيس السابق أنور السادات اليسار المصري في الزاوية بموافقته على تأسيس حزب التجمع عام 1976 ليفرض على التيار صاحب الخبرة العميقة في العمل السري أحد خيارين: إما القبول بالشرعية القانونية وتغيير أساليبه، أو مواصلة العمل السري وفقاً للرؤى النظرية والسياسية التقليدية من دون تبديل.
وعلى مدار 27 عاماً تبدلت الأوضاع الدولية والإقليمية والمحلية، وانعكست تطورات كل مرحلة على مسيرة الحزب الذي استطاع إثبات وجوده كأقوى ممثل لحركة اليسار التي لم تنضوِ كل فصائلها تحت مظلته وإن أكدت الممارسة إقرارها بنفوذه ودوره وتأثير رؤيته السياسية التي ظلت تراوح بين التقليد والتجديد من دون استقرار لسنوات طويلة. وإذا كانت آمال السادات فرض طابع جديد على حركة اليسار لم تتحقق في عصره إذ صرعته رصاصات الإرهاب قبل أن يؤكد فكرته بتأثير إضفاء الشرعية على أداء الحركات السياسية وأفكارها النظرية، إلا أن السنوات والتطورات أتت بنتائجها عقب مخاض عسير استغرق ردحاً من الزمن.
وتعد تجربة حزب التجمع نموذجاً فريداً وسط حركة اليسار في المنطقة إذ انطلق في بدايته كمظلة ضمت فصائلَ مختلفة بل ومتصارعة، وأحياناً متنافرة، شملت كل ألوان الطيف اليساري من شيوعيين مختلفي المشارب إلى ناصريين وقوميين وديموقراطيين ورموز لأفكار إسلامية مستنيرة لم تجد تعبيرها في الحياة السياسية المصرية ظلت جميعها تحتفظ بهويتها المستقلة حتى اندمجت عبر التجربة الطويلة في رؤية مغايرة لتلك التي انطلقت على أساسها. وساعدت حدة الصراع السياسي في عصر السادات وقبل مقتله، على تقوية عود اليسار وتجميع شتاته في موقف سياسي كاد أن يكون متطابقاً بصورة غير مسبوقة، وعكس نفسه في بروز دور حزب التجمع وسط ظروف دولية وإقليمية مساندة لاستمراره في إطار الرؤى التقليدية من دون تبديل دفعت به للصدام كطرف مناقض للدولة وليس كما اعتقد البعض، آنذاك، بإمكان تبدل أفكاره إلى موقع المختلف من ذات الأرضية الفكرية للدولة.
لكن تواصل مسيرة التجمع في الثمانينات على الأسس ذاتها تسبب في إبعاده عن المشهد السياسي وظل منزوياً بعيداً من قلب الحدث الرسمي في البرلمان بعد إخفاقه المتوالي في الاستحواذ على مقاعد ما دفع به إلى التمسك بكلاسيكياته وتشدده في مواجهة الدولة حتى عام 1990 الذي يمكن اعتباره نقطة تحول في مسيرة الحزب اليساري المصري وتحديداً في علاقته بالدولة قبل أن يتمكن من استثمار اللحظة في تبديل برنامجه وأفكاره ويدفع بكوادر إلى مقاعد القيادة تحمل التوجه الجديد وتسعى إلى ترجمته عبر ممارسات مختلفة.
وظلت العوامل الدولية ذات أثر مهم في مسيرة اليسار المصري الذي، كما غيره، عمل على التناغم مع الواقع الجديد بعد انهيار التجربة الاشتراكية الدولية بانعكاساتها المختلفة. وربما كان ذلك أحد العوامل المهمة التي أسهمت في تحطيم قيود الكلاسيكية وإزالة غبارها عن الفكر الاشتراكي المصري، فانطلق بعدها في عملية تبديل وتطوير عمقت الفجوة بينه ومن بقية الفصائل اليسارية وإن أسهمت في بلورة رؤية وهوية مختلفة أتاحت له فرض نفسه على الساحة على رغم ضعف إمكاناته وانتشاره الجماهيري.
وجاءت هذه التطورات مغايرة ومتناقضة مع توقعات سادت الأوساط في اتجاه اليسار إلى الذبول والتآكل بعد حصاره دولياً واكتساح معسكر الليبرالية الساحة الدولية وسيادة أفكاره وقيمه على المعادلات الإقليمية والتوجهات المحلية في كل بلد. وتمثلت المفاجأة في مصر بنجاح التجمع في احتلال صدارة المنافسة بين المعارضة وتفوق حصته البرلمانية ونجاحه في تولي زعامة المعارضة البرلمانية على رغم المحدودية الشديدة لتمثيل كل أحزاب المعارضة، ومع استبعاد جماعة الأخوان المسلمين من المعادلة لأسباب قانونية.
وعلى رغم التقدم الذي أحرزه الحزب اليساري المصري في التسعينات وحافظ عليه حتى الآن مقارنة بما كان عليه في المراحل السابقة إلا أن ظواهر عدة تشير إلى تضافر عوامل وراء ذلك تتمثل في دور قياداته التاريخية من جهة وتأثير قوة دفع التغيير الحاصل على عناصره، وهو ما يعتبره البعض بمثابة عوامل موقتة ممكنة الزوال في وجه قوة المعطيات الواقعية المعاكسة لأفكار اليسار.
ويقول أنصار التجمع إن التفاتهم المبكر إلى إجراء عملية مراجعة شملت الجوانب الفكرية والسياسية والممارسة اليومية أسهمت في تحصين الحزب من الانضمام إلى معسكر الانهيار الذي أحاط حركة اليسار الدولية لا سيما أن الحزب بدأ مبكراً البحث عن مفاهيم جديدة للاشتراكية ونقد التجربة الدولية التي قادها الأمين العام للحزب الدكتور رفعت السعيد، كما أن الحوار الداخلي بين كوادره أسهم في بلورة رؤية جديدة ساعدت على امتلاك تصورات مغايرة يمكن توصيفها بالخلط بين التمسك بأفكار العدالة الاجتماعية وتبني الليبرالية السياسية مع تنازلات ليست قليلة في الاقتناع بجوانب من الليبرالية الاقتصادية، ليصبح حزب التجمع أقرب إلى مفهوم "الاشتراكية الديموقراطية". غير أن شواهد عدة في المقابل تؤكد ذبول منابع إمداد اليسار بدماء جديدة، يسهم تدفقها في توسيع شرايين حزب التجمع، إذ تشير المعطيات إلى تضاؤل حجم الأنصار الجدد للفكر الاشتراكي مقارنة بالقوى الليبرالية أو الإسلامية المواكبة، بفكرها وتوجهها السياسي، للظروف الموضوعية، ما يمكن معه القول إن الظهور السياسي لليسار على الساحة وتقدمه في البرلمان لا يعكس فعلياً حال انتشار جماهيره ما يؤكد استمراره كنموذج للجذب وقادر على النمو بصورة متسارعة تتواكب مع القفزات التي تحققها القوى الأخرى في هذا المجال.
وفي هذا السياق يقول نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في صحيفة "الأهرام" الدكتور وحيد عبد المجيد إن أي عملية تنشيط داخل الحزب تمنحه حيوية على كل المستويات وتمتد آثارها إلى إمكان طرح أفكار وتطورات جديدة. وعلى عكس ما كان متوقعاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ظهرت حالة تطور ومراجعة وتجديد في الفكر الاشتراكي في العالم كله انعكست في صورة واضحة على القوى الاشتراكية العربية، وقطاعات مهمة في اليسار المصري.
وتشير ملاحظة عبدالمجيد في شأن التنشيط الحزبي للحالة الانتخابية الجديدة غير المسبوقة داخل حزب التجمع تحضيراً لمؤتمره العام الخامس حيث قررت قيادة الحزب التاريخية الامتناع عن التدخل في الانتخابات الداخلية التي انطلقت قبل أشهر من الوحدات الحزبية المحلية حتى رئاسة الحزب. وشهد التجمع تجربة غريبة عن الحياة السياسية المصرية، إذ جال المرشحون للمواقع القيادية على المحافظات المختلفة لتجميع أصوات أنصارهم في منافسات جادة وشرسة أحياناً كما هو حاصل على موقع الأمين العام وغيره من المناصب سواء نائب الرئيس أو في المكتب السياسي والأمانة المركزية واللجنة المركزية. وأمام حدة المنافسة ابتكر المرشحون أساليب مختلفة منها إعلان برامج تنفيذية وتوجيه الرسائل عبر أجهزة المحمول واستخدام البريد الالكتروني في التراسل مع أعضاء المؤتمر العام.
ويعتقد عبد المجيد أن هذه الحيوية الداخلية التي يشهدها التجمع تعطيه قدرة أكبر على تطوير أفكاره والتفاعل مع العالم بما يؤدي إلى انتاجه لبرامج أكثر تطوراً وقدرة على طرح الحلول للتعامل مع المشكلات المفروضة عليه سواء من معطيات الواقع أو الداخل. فما يجرى الآن مختلف تماماً عما حدث في السبعينات والثمانينات حينما استكان اليسار لمفاهيم نظرية مغايرة منها الحتمية والانحياز الجماهيري التقليدي لأفكار اليسار فسادت حالة سكون انعكست على أدائه الفكري وقدرته على التطور النظري. لكن الحيوية السائدة الآن لا تقدم مبرراً كافياً للحديث عن مستقبل مختلف لليسار المصري أو لتوفير متطلبات القدرة على مواجهة الواقع المعاكس. وبحسب عبد المجيد فإن امتلاك الرغبة للوصول إلى رؤية جديدة أهم بكثير، فالأفكار اليسارية الحديثة تجاوزت مفاهيم الصراع الطبقي إلى طرح رؤى مغايرة تتصل بعلاقة الفرد بالمجتمع بعدما كان دور الفرد غائباً عن الفكر الاشتراكي.
ويرى عبد المجيد أن أدوات الانتاج تغيرت وتبدلت عما كانت عليه في الفكر الكلاسيكي ما تسبب في تغيير العلاقة بين الفرد والمجتمع وتبديل أشكال الحراك الاجتماعي. ويوضح ذلك بتحول المعرفة إلى واحدة من أهم أدوات الانتاج بعد انفراد رأس المال بذلك لفترة طويلة وقدرة اليسار على استيعاب هذه المتغيرات من الناحية النظرية يوفر له إمكاناً ملائماً لقاعدة نظرية جديدة تتيح تعاطيه وتعامله مع قطاعات واسعة في طبقات مختلفة واجتذابها بدلاً من التفكير في طبقة واحدة كما كانت تحدد له مفاهيم النظرية من قبل.
وإذا كان اليسار المصري قابلاً للتغيير أو أن هناك إمكاناً لرصد حركة يسار مختلفة يقول عبدالمجيد إن الصراع في مصر يدور بين التجديد وبين الثبات، لذلك ليست مصادفة أن المجتمع المصري في حال تقهقر بسبب تفوق عناصر الجمود، ولو رغب اليسار في دور طليعي حقيقي يدفع به المجتمع إلى الأمام ويستند إليه في تجاوز أزمته ومواجهة المعطيات الواقعية المعاكسة فلا سبيل أمامه سوى هزيمة عناصر الجمود في داخله أولاً متواكباً مع تقديم حالة جديدة لاجتذاب القطاعات الحديثة في المجتمع ولتصبح هذه القوى بمثابة الزخم المطلوب.
ومن الناحية النظرية فإن فكرة العدالة الاجتماعية تظل بؤرة جذب، واليسار كما يقول عبدالمجيد "أفضل من يعبر عن هذه الفكرة"، لكن التطورات التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة فرضت تغيرات وتبدلات على مفهوم العدالة الاجتماعية وأساليب تحقيقها، فلم تعد الدولة بمفردها قادرة على تحقيقها، والمشاركة الشعبية باتت عاملاً مهماً بعدما تقلصت موارد الدولة. ومن هنا فاليسار مطالب "بتطوير العلاقة بين الفرد والمجتمع وفي تقويم فكرة الاعتماد على الدولة بمفردها في توفير الخدمات" ولذا يظل اليسار "الأكثر تأهلاً في هذا الجانب كون العدالة الاجتماعية هدفه وفكرته الأساسية" كما يظل مواصلة اليسار لدوره "رهناً بالقدرة على استيعاب المتغيرات المجتمعية وتطوير أفكاره".
وإذا كان محللون سياسيون يعتقدون أن اقتران فكرة العدالة الاجتماعية باليسار مبرراً كافياً لاستمراره على رغم التطورات الكونية والتكنولوجية التي وجهت العالم ناحية مختلفة عما كانت عليه ورسمت خريطة إيديولوجية وسياسية جديدة قضت على آمال كثير من المفكرين اليساريين بمختلف مدارسهم، إلا أن آراء أخرى تعتبر أن هذه الفكرة ليست وحدها الضامنة لاستمرار اليسار وأن عوامل عدة أهم وأبرز ستكون لها آثار سلبية على المستقبل إذا لم يضعها اليساريون في رسمهم لصورتهم المستقبلية.
وفي هذا السياق يقول القيادي الأخواني البارز الدكتور عصام العريان إن "الأفكار لا تموت" وهذا في حد ذاته كفيلٌ باستمرار اليسار. لكن القضية تتحدد في الفاعلية وليس الوجود من عدمه ومشكلة اليسار في جذوره لأنه "تبنى النظرية الشيوعية بحذافيرها وارتبط بالدولة المركز الاتحاد السوفياتي ارتباطاً وثيقاً إلى جانب نشأة الحركة اليسارية المصرية من خلال مجموعات غير عربية فاقدة الثقافة الوطنية بعناصرها الحضارية". ومن هنا يرى العريان أن اليسار المصري أمام مرحلة فارقة أو فاصلة في تاريخه تقتضي منه الارتباط بعقيدة الأمة وثقافتها وهي الإسلام، وذلك بتأكيد الصلة بين "العقيدة والعدالة الاجتماعية وبين مصالح الناس". فمستقبل اليسار يرتبط بمدى اقترابه أو ابتعاده من هذه الفكرة.
ولا يعتقد القيادي الأخواني بوجود عنصر واحد يحكم مستقبل اليسار لكنه يتحدث عن العنصر الجوهري في سياق مجموعة من العوامل المكملة له. وهو ينطلق في تحديد هذا العنصر كونه الأساس الذي "أبقى الحركة الإسلامية فاعلة وقوية وأكثر تأثيراً على رغم غياب الحريات التي تأثرت بها سلباً بقية الاتجاهات السياسية البعيدة عن ثقافة الأمة وحضارتها". ولا يستبعد العريان التأثير السلبي للظروف الدولية والإقليمية على مستقبل حركة اليسار، لكنه يتحدث في الوقت ذاته عن عوامل داخلية فهو يصنف اليساريين الى مجموعتين: "معسكر خان أعضاؤه أفكار الحركة ومبادئها وانضموا إلى قوة الجبروت والهيمنة، وهؤلاء دخلاء على الحركة اليسارية وأهانوها بترويجهم للحكومات المستبدة". أما الفريق الآخر فهم "الأوفياءُ لمبادئهم الواثقون من أن التوسع والانتشار للفكر اليميني سيؤدي إلى بزوغ حركة مضادة يتحركون لتقويتها وهؤلاء هم الامتداد الصحيح لليسار الذي ينتظره مستقبلٌ واعدٌ بانحيازهم ضد التغول اليميني والدفاع عن مصالح الفقراء".
ويبقى السؤال الجوهري هل تطوير الحركة وأساليبها عاملٌ كافٍ لتجاوز أزمة "تقهقر اليسار" على خلفية انهيار النموذج المركزي الكتلة الشرقية. يقول العريان إن "لا سبيل سوى التطوير الفكري، فما كان موجوداً من قبل غير قابلٍ للتطبيق بدليل فشل كل النماذج الانسانية التي سارت في ركابه لأكثر من 50 عاماً وانهيارها". ويرصد في هذا الإطار فشل فكرة تأميم كل وسائل الإنتاج، وانهيار الفلسفة الديالكتيكية واندثار جوهر الفكر الشيوعي بقضاء طبقة على أخرى وفرض حكم طبقة واحدة، ومن هنا يتحدث عن أهمية تحقيق التوازن المجتمعي والاقتصادي والسياسي الذي تترجمه عملياً ثقافة الأمة وحضارتها الإسلامية "فكلما اقترب اليسار من جوهر الفكرة بوسائله الخاصة استطاع امتلاك عناصر القوة والتمييز وتمكن من طرح أفكاره الاجتماعية بنكهة خاصة تجعله مختلفاً عن غيره من الاتجاهات السياسية الأخرى الناشطة في البوتقة ذاتها".
ويعترض فريق من الليبراليين على مقولة "انتهاء عصر اليسار"، فإذا كانت وسائل التعبير عن الفكرة قابلة للتراجع أو الانزواء في الظل لأسباب موضوعية أو ذاتية إلا أن الأفكار تظل قائمة وهي مؤهلة للذبول والانتهاء إذا جمدت وتوقف أنصارها عن تطويرها تفاعلاً مع الواقع المتحرك دوماً.
ومن هنا يرى نائب رئيس حزب الوفد "الليبرالي" السيد محمود أباظة أن "اليسار يجسد المطالبة بالعدالة الاجتماعية وهو أحد عناصر التوازن الفكري ومن دونه لا يمكن تخيل مجتمع قائم على أحادية الفكر أو خاضع للمفاهيم الليبرالية فقط"، فاليسار كما اليمين فكر إنساني يخضع للتطوير الدائم، فالليبرالية التقليدية بدأت بشعار "دعه يعمل دعه يمر" وفي حداثتها تتحدث الآن عن "عدالة التوزيع" باعتبارها واحدة من الأساسيات المطلوبة للتنمية. ويفرق أباظة بين انهيار النموذج الماركسي - اللينيني للحكم في الاتحاد السوفياتي وثبوت فشل تجربته وبين اليسار بمفهومه الواسع الذي يتجاوز المدرسة السوفياتية، وهو يرصد في هذا المجال تجربة اليسار في دول اسكندنافية أو في أوروبا الغربية أو في أميركا اللاتينية أو الهند حيث تتضح أهمية دور اليسار وتبرز الحجج المنطقية لنفي الصلة بين مفهوم اليسار وبين سيطرة التجربة الروسية التي دفعت البعض للاعتقاد بانهيار الفكرة والنظرية الاشتراكية.
ويربط السياسي الليبرالي أباظة، بين مستقبل اليسار وبين القدرة على تطوير أفكاره والتعامل مع الواقع بمتغيراته السريعة، لكنه يشير أيضاً إلى عدم اقتصار ذلك على اليسار وحده إنما يمتد للقوى الليبرالية أيضاً "فوجود معطيات تؤشر لبروز دور قوى فكرية أو اجتماعية معينة ليس كافياً لاستمرارها وإنما قدرتها على التعامل مع الواقع والتفاعل معه سلباً أو إيجاباً من أهم العوامل المتحكمة في استمرار الفكرة من عدمه".
ووفقاً للتطورات الدولية ودخول العالم مرحلة اقتصادية جديدة تبرز دلائل ومؤشرات تؤكد صعوبة الحديث عن انتهاء دور اليسار، بحسب أباظة الذي يعتبر أن استمرار التطور يقوم أساساً على فكرة التعدد الفكري والسياسي، وأن تجربة الاتحاد السوفياتي التي حاولت إنهاء دور الطرف الثاني انهارت في أقوى دليل على استحالة نفي طرف للآخر حتى على مستوى الفكرة، فالتقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي مرهون بالتوازن والتعدد لتفادي الجنوح يميناً أو يساراً.
وعن الواقع المصري يرى أباظة أن حزب التجمع "اليساري" يمر بمرحلة التفاعل مع الواقع والتعاطي مع متغيراته وهو يعتقد في كونها "تجربة ناجحة حتى الآن"، فمن دون قيام حزب لليسار المصري بدور بارز يفقد المجتمع واحداً من العناصر الضرورية لتحقيق التوازن المطلوب في الحياة السياسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.