منذ ان انضمت كيبيك، المقاطعة الفرنكوفونية اليتيمة، الى الاتحاد الفيديرالي الكندي 1 تموز/ يوليو 1867، لم تزل تعيش وسط عالم انكلوفوني استحال عليه ان يتكيف معها او ان تنصهر هي فيه اسوة بغيرها من المقاطعات الاخرى. فعلى مدى تلك السنين وإلى اليوم لم تغب النزعة الوطنية الكيبيكية الانفصالية من ذاكرة الكيبيكيين، على رغم امساك معظم قادتهم بها ومحافظتهم على ستاتيكو المقاطعة داخل المنظومة الاتحادية، من دون المساس بسيادة كندا ووحدتها السياسية. إلا ان هذا النهج المحافظ سرعان ما تغير في مطلع الستينات من القرن الماضي ليتخذ على يد بعض الحركات السياسية وبعض الزعماء الكيبيكيين منعطفاً جديداً تجلى بظهور "جبهة تحرير كيبيك" عام 1962 و"الثورة الهادئة" عام 1964 وتأسيس الحزب الكيبيكي عام 1967. كانت "جبهة تحرير كيبيك" اول حركة تحرير فرنكوفونية في كندا والشمال الاميركي نشأت على هدي الايديولوجية الماركسية ونهجها الثوري وكان جل اعضائها ومناصريها من منابت طبقية شعبية ومتوسطة من سكان المدن والأرياف. وجاء في بيانها التأسيسي الاول "انها حركة سياسية اجتماعية اشتراكية مناهضة للبورجوازية المدعومة من الامبريالية وتسعى للاستيلاء على السلطة بالعمل الثوري لتخليص كيبيك من رموز الاستعمار القديم". اما "الثورة الهادئة" التي اطلقها الأب الروحي للوطنية الكيبيكية رينه ليفيك فكانت نقيضاً لها ثورة بيضاء و"حركة تغيير سلمي شاملة" انجزت بالوسائل الديموقراطية ما عجزت الجبهة عن تحقيقه بحد السيف وباتت كيبيك في حينه اكبر من مقاطعة وأصغر من دولة مع انها لامست حدود الدولة الى قدر كبير. ومن رحم "الثورة" وتداعيات "الجبهة" التي اجهضت وحظر نشاطها رسمياً عام 1970 ظهرت بعد ذلك التاريخ مرتين احداهما على موقع للإنترنت عام 1987 والثانية في بيانات في الصحف الكندية بعيد استفتاء عام 1995 كانت ولادة الحزب الكيبيكي الذي حمل منذ تأسيسه مشروعاً انفصالياً لم يقيض له ان يرى النور، على رغم وصوله الى حكم المقاطعة ثلاث مرات وقيامه بإجراء استفتاءين فاشلين عامي 1980 و1995. تلك كانت ابرز الخلفيات التاريخية التي شكلت الارضية الفكرية لنشوء ما يسمى اليوم باليسار الجديد. واللافت ان القوى والحركات والاحزاب المنخرطة بهذا اليسار الصاعد ظلت خامدة ساكنة غائبة عن المسرح السياسي لم يسجل لها اي تحرك بارز حيال القضايا المطلبية اليومية الملحّة التي تشكل عادة مادة دسمة لإمساك اليسار بها الى ان قفزت فجأة من مكامنها في الاشهر القليلة الماضية لتحدث صدمة قوية في اوساط الرأي العام الكيبيكي والكندي. فمنهم من يؤكد وجود هذا اليسار ويشيد بفاعليته، ومنهم من يستخف بحضوره وتأثيره، ومنهم من يرى فيه نموذجاً مغايراً لليسار التقليدي. تشير المعطيات المتداولة حالياً الى ان هذا اليسار ليس حزباً واحداً موحداً ولا تحالف احزاب تنضوي في مؤسسة جامعة ولا يستند الى خلفية فكرية مشتركة، انما هو نسيج غير متجانس لمجموعات وقوى وأحزاب صغيرة لكل منها افكاره ومناهجه وأساليبه الخاصة به. والواقع ان ما يسمى باليسار الجديد اطل برأسه حديثاً من نافذتين واسعتين متجاورتين في الزمان والمكان هما "قمة الاميركيين في كيبيك" والانتخابات الفرعية في دائرة "ميرسييه" وكلتاهما جرت في اواخر شهر نيسان ابريل الفائت. ففي قمة كيبيك تفجرت البؤر اليسارية التي كانت "تحت الارض" دفعة واحدة: فوضويون، خضر، شيوعيون، اجتماعيون ديموقراطيون، مستقلون، تقدميون، نقابيون، حركات نسائية ومنظمات طالبية. ويعزى الى تلك الفئات انها كانت، خلافاً لمثيلاتها التي انتفضت ضد العولمة في الاعوام السابقة، الاعنف في المواجهات والخسائر المادية والبشرية، وهي الى اليوم ما زالت موضع مساءلة رسمية وشعبية حتى من بعض اطراف اليسار. اما انتخابات "ميرسييه" التي أجريت في دائرة تعتبر معقلاً تقليدياً للحزب الكيبيكي، فقد احرزت قوى اليسار ذاتها "انتصاراً تاريخياً" بنيلها 24 في المئة من اصوات الناخبين، أي اكثر من ضعفي مما كانت تمني النفس بالحصول عليه حوالى 10 في المئة كحد اقصى. ورأى المراقبون في هذا التحول دلالات مهمة بينها انها المرة الاولى التي تأتلف فيها قوى اليسار وتخوض موحدة اول معركة انتخابية مشتركة ضد الحزب الكيبيكي تحت شعار اليسار وفي اطار برنامج مرحلي قوامه دعم المطالب الشعبية والعمالية والنقابية رفع الاجور والحد من البطالة وتحسين الخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية وغيرها. والى ذلك احرزت انتصاراً سلبياً آخر بتحييدها حوالى 60 في المئة من الاصوات ما اعتبر انه "موقف اعتراضي" على نهج الحزب الكيبيكي وسياسته الاجتماعية. ولعل الأهم من ذلك عزم القوى اليسارية على خوض الانتخابات الكيبيكية المقبلة قريباً سعياً الى "تغيير تدريجي في جوهر المعادلة الحزبية والسياسية وفي موازين القوى الاخرى في البلاد"، بحسب ما اعلنته مرشحة اليسار بول كليش، من جماعة الفوضويين. وينعت اهل اليسار اليوم في كيبيك وغيرها يسار الأمس بالتقليدي والمتطرف والفوضوي والذي بات من مخلفات الماضي او من لزوم ما لا يلزم. فما كان مشروعاً للنضال حينذاك تجاوزه الزمن الراهن في ظل التغيرات الايديولوجية والفكرية والتحولات السياسية الدولية على غرار سقوط المرجعيات العالمية لليسار وانتصار الديموقراطيات الغربية وانهيار الأنظمة والمنظومات التوتاليتارية وتحطيم جدار برلين وقيام النظام العالمي الجديد وصولاً الى العولمة احدث الشعارات الرأسمالية المعاصرة. في هذا السياق كانت "جبهة تحرير كيبيك" اولى الحركات اليسارية التي سعت الى احداث تغيير جذري في مفاهيم الحكم ومناهجه البورجوازية والاستيلاء على السلطة بالعمل الثوري المسلح. حينها لم تكن الجبهة في المعيار التاريخي لتلك المرحلة، حركة شاذة او غير مألوفة إلا، ربما، لأنها غرّدت خارج سربها في الشمال الاميركي، ذلك ان العديد من الحركات المماثلة لها ضجّت بها حقبة الستينات والسبعينات في كثير من بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وعلى رغم ما يؤخذ على الجبهة شدة تطرفها وعنفها ولجوئها الى اعمال القتل والخطف والنهب، فانها ارست الاساس النظري على الاقل لمتابعة الصراع ضد الرأسمالية وأنها اسست لدولة الرفاه التي لم يقدر لها انجازها. الى ذلك كانت تستند الى مشروع اقتصادي اجتماعي سياسي متكامل قائم على العدالة والمساواة وتنضوي تحت قيادتها مختلف القوى والحركات اليسارية، خلافاً ليسار اليوم الذي يفتقر الى كل ذلك. يقول احد اليساريين المخضرمين فرنسوا مايان الذي عاصر اليسار القديم في صعوده وانكساره ان "الحركات اليسارية كالماركسية واللينينية والماوية والتروتسكية كانت من خلال الأمر اليومي اكثر دقة وتنظيماً وقدرة على التحرك والمواجهة. إلا انه في السبعينات ارتدّ كل فصيل الى نفسه وكانت بداية الانهيار". ويشير احد اعضاء الحزب الديموقراطي الاجتماعي اليساري النزعة بيار فورتن الى ان "يسار الستينات والسبعينات كان يتحرك باتجاه المجتمع العادل في حين ان يسار الثمانينات والتسعينات كان غائباً، على رغم وقوع البلاد في الفقر وعدم المساواة". وإزاء تراجع اليسار القديم وانكفائه عن الساحة الكيبيكية والكندية وتشتت عناصره ومؤيديه وانخراط العديد منهم في الاحزاب السياسية، لا سيما المناوئة للحزب الكيبيكي يبدو ان اليسار بعد انهيار جبهة تحرير كيبيك ما زال الى اليوم يقف موقفاً مناهضاً للانفصال عن كندا، يرى دايفيد ماركز احد المفكرين اليساريين ان "انطلاقة اليسار في كيبيك كانت كغيرها من حركات اليسار العالمي التي انتعشت عام 1994 بفضل الانترنت الذي اطلق حركة تضامن سريعة باتجاه التغيير الاجتماعي والسياسي بغية جعل الرأسمالية اكثر ليبرالية وإنسانية وأقل توحشاً وعدوانية". ويتابع: "ومن ميزات هذا التحرك انه ديموقراطي ذو توجه عالمي برز بقوة عام 1997 من خلال ولادة منظمة العمل العالمي للشعوب التي خرجت منها حركات احتجاج عالمية ضد العولمة والدول الصناعية الثماني الكبرى في لندن عام 1999 وضد المنظمة العالمية للتجارة الحرة في سياتل وواشنطن وبراغ ودافوس وكيبيك". وسواء كان منشأ اليسار الجديد في كيبيك امتداداً تاريخياً لليسار القديم وإن في نسق مختلف، او نتيجة ظاهرة العولمة وتداعياتها، فإن مظاهر البطالة والفقر والجوع والأمراض ما زالت هي هي من ابرز المبررات لنشوء اليسار وامساكه بها "وخلع ما امكن من اضراس الرأسمالية الكاسرة". إلا ان ما يؤخذ على اليسار الجديد هو حداثة عهده وقلة خبرته في النضال ومراهقته في العمل السياسي والحزبي وهزالة امتداده في الاوساط الشعبية والعمالية والنقابية والشبابية وخلوّه من برنامج الحد الادنى المشترك، فضلاً عن تراشق اطرافه بشتّى النعوت والتصنيفات يسار متطرف، يسار طوباوي، يسار وصولي. ولئن اجتمعت فصائل اليسار على بعض الثوابت السياسية والفكرية كالأخذ بمبدأ الديموقراطية سبيلاً الى الحوار والتغيير ونبذ العنف في اشكاله كافة، فإن الوقائع الميدانية تبدو مغايرة لذلك، فزعيم حركة الفوضويين جاك سينغ الذي اعتقل في تظاهرات كيبيك الاخيرة وسجن 17 يوماً، يقول: "نحن حركة رفض للرأسمالية المتوحشة ولسنا ثوريين، انما ما جرى في كيبيك كان نوعاً من الرياضة المتطرفة التي لم يألفها بعض حلفائنا". في حين يأخذ الناطق بلسان حزب الخضر فرنسوا دايفيد على الفوضويين والشيوعيين نزعة العنف التي تستبد بهم وميلهم الى التطرف". وبعيداً من هذه السجالات الشائعة في اوساط اليسار ثمة من يتوقف عند انجازاته واخفاقاته واستحقاقاته المستقبلية. فالمفكر سيمون بليفين المقرب من اليسار يرى ان مستقبل هذا الاخير "يرتبط بنضاله من اجل العدالة الاجتماعية اكثر من صراعه ضد العولمة". في حين يعتقد هنري بليز الباحث في العلوم السياسية في جامعة لافال "اننا نشهد تنامياً لحركة اليسار الراديكالي لكن قنوات اليسار الاكثر فاعلية ما زالت مطمورة تحت التراب"، وبالتالي يرى "ان يسار اليوم اجمالاً هو يسار مناسبات ليس إلا". اما مونا جوزيه غانيون استاذة العلوم الاجتماعية في جامعة مونتريال فتقول: "لاحظت كمدرّسة تغييراً كبيراً منذ بعض السنوات في انعطاف الشباب نحو العمل السياسي، خصوصاً لجهة تضامنهم مع الحركات اليسارية المناهضة للعولمة"، كما تعتبر "ان نوعاً من اليقظة يُحرك اليسار الناشئ الذي اصبح لديه قضية يندفع من اجلها، علماً انه لا يملك اي مشروع اجتماعي او سياسي منظم، ولكن لديه رغبة اكيدة في ان يقوم بشيء وهذا امر طارئ لم نشهده من قبل". ومهما يكن من امر فان ثمة وثبة لليسار الكيبيكي في مناخات محلية ودولية مواتية من اهمها بقاء مسألة استقلال كيبيك قيد التداول وتراجع شعبية الحزب الكيبيكي وتزايد المطالبة بأنسنة النظام الرأسمالي الكندي نتيجة تأثره بتداعيات العولمة. * كاتب لبناني مقيم في كندا.