المسار السوري - الاسرائيلي مؤجل. في حين ان اسرائيل منشغلة كلياً بالانتفاضة الفلسطينية وانعكاساتها الداخلية والاقليمية والدولية، ويبدو أيضاً ان سورية غير مستعجلة لإجراء أي مفاوضات قد توصل الى سلام نهائي مع اسرائيل طالما أن الانتفاضة الفلسطينية مستمرة، ومشكلة القدس ما زالت عالقة. قيل الكثير من الجانبين الأميركي والاسرائيلي عن استعداد دمشق للوصول الى اتفاق نهائي مع اسرائيل بصرف النظر عن مجرى المسار الفلسطيني. ربما كان ذلك صحيحاً عندما كان يشاع ان هناك اتفاقاً فلسطينياً - اسرائيلياً وشيكاً. ان سورية التي ما زالت تنادي بوحدة الصف العربي في مفاوضات السلام مع اسرائيل قد لا تريد البقاء وحدها في مواجهة اسرائيل المتصالحة مع جيرانها العرب. ويمكن تلخيص الموقف السوري من مفاوضات السلام بالمطالبة الدائمة بموقف عربي موحد من أي مفاوضات أو أي معاهدة سلام مع اسرائيل. ولذلك عارضت سورية بشدة انفراد مصر في عقد معاهدة سلام مع اسرائيل في ربيع 1979، وذلك قبل أن يتقرر الوضع النهائي للقضية الاساسية، أي فلسطين. وفي عام 1982 أفشلت سورية محاولة أميركية مبادرة الرئيس رونالد ريغان للأول من أيلول/ سبتمبر التي دعت اسرائيل الى البدء بمفاوضات مباشرة مع الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية أميركية ينتج عنها انسحاب اسرائيلي من غزة ومعظم الضفة الغربية. وأشيع وقتذاك أن وزير خارجية أميركا جورج شولتز حصل على موافقة فلسطينية قبل اعلان تلك المبادرة. وكذلك افشلت سورية لاحقاً محاولة أميركية أخرى وهي اتفاق 17 أيار مايو بين لبنان واسرائيل، الذي رعته واشنطن ووقعته. لكن الضربة الكبرى للاستراتيجية السورية الداعية الى وحدة الصف العربي لمواجهة اسرائيل أتت من منظمة التحرير الفلسطينية عندما وقّعت في واشنطن اتفاق أوسلو مع اسرائيل في أيلول 1993. وبعدما وقّع الأردن في خريف 1994 معاهدة سلام مع اسرائيل، لم يبق من وحدة المسار العربي بالنسبة الى دمشق سوى لبنان لأنه على رغم القتال الفلسطيني - الاسرائيلي القائم حالياً وسعي الفلسطينيين الى الحصول على دعم عربي مادي وسياسي، فإن السلطة الفلسطينية ستعود الى مفاوضات مباشرة ومنفردة مع اسرائيل عندما تسمح الظروف بذلك. ولا بد هنا من التساؤل عن الأسباب التي تدعو سورية الى التمسك بمبدأ "وحدة الصف العربي" و"سلام شامل بين كل العرب واسرائيل"، خصوصاً بعدما قامت الدولة العربية الكبرى مصر بالانسحاب من الصراع، وشقت الصف العربي، وانفرد لاحقاً أصحاب القضية الأساسية بعقد اتفاقات انتقالية عدة مع اسرائيل وكادوا أن يصلوا الى اتفاق نهائي معها خلال العام الماضي. وكل ذلك من دون مشاورة الدول العربية المواجهة التي ساندت الفلسطينيين خلال صراعهم الطويل وخسرت أرضها وأكثر بسبب هذا الصراع. تُتهم دمشق بمحاولة تحقيق حلمها البعثي من خلال الاصرار على وحدة الصف العربي في المفاوضات مع اسرائيل. ويتهم قسم من اللبنانييندمشق بأن استراتيجيتها ذريعة للهيمنة على لبنان اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. وأيضاً ادّعى أردنيون وفلسطينيون ان سورية تحاول تحقيق "سورية الكبرى" بعدما خسرت امكانية وحدة الصف العربي عندما انفردت مصر بمعاهدة سلام مع اسرائيل، خصوصاً أن مسؤولين سوريين رددوا مراراً ان فلسطينوالأردن هما جنوبي سورية. وبمنأى عما اذا كانت هذه الاتهامات أو بعضها صحيحاً والآخر باطلاً، لا يمكن تجاهل ان حزب البعث الحاكم في سورية يؤمن بالوحدة العربية ويبشر بها، ومن ثم فإن المطالبة بموقف عربي موحد من اسرائيل ليس مستغرباً، انما العكس يجب أن يكون مستغرباً. ويمكن أيضاً تفنيد هذه الادعاءات والاتهامات سلباً وايجاباً، لكن التمسك السوري بالموقف العربي الموحد تجاه اسرائيل وعقد سلام شامل معها يعود ايضاً الى مرتفعات الجولان المحتلة. لقد جلت اسرائيل من شبه جزيرة سيناء المصرية بموجب اتفاق سلام. وكان العذر المخفي/ المعلن للانسحاب الاسرائيلي انه يحيّد مصر ويبعد احتمال شن حرب عربية ضد اسرائيل، بالاضافة الى فصل المسارات العربية واضعافها. كذلك فإن انسحاب اسرائيل من المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بموجب اتفاق أوسلو وتوابعه كان بسبب الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت في خريف 1987، وأيضاً خرجت اسرائيل من معظم جنوبلبنان في أيار مايو 2000 بسبب المقاومة اللبنانية التي استطاعت أن تجعل الاحتلال الاسرائيلي للجنوباللبناني مكلفاً. بكلام آخر، ان اسرائيل، كأي محتل خلال التاريخ، لن ترحل عن أي أرض عربية محتلة من دون حرب أو مقاومة أو انتفاضة تجعل كلفة بقائها باهظة بشرياً ومادياً. والسؤال هنا، كيف تستطيع سورية استعادة مرتفعات الجولان من اسرائيل في غياب إمكان شن حرب عربية بعد تحييد مصر، وعدم امكان قيام مقاومة بسبب طوبوغرافية هضبة الجولان الخالية من وديان وتلال وجبال وغابات تحتاج اليها أي مقاومة، واستحالة نشوب انتفاضة بسبب انعدام الكثافة السكانية في الجولان حيث يبلغ عدد السوريين حوالى 12 ألف نسمة، وهو يساوي عدد المستوطنين اليهود، وانفراد كل من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية باتفاقات سلام ومفاوضات مباشرة ومنفردة مع اسرائيل؟ تبقى الحدود اللبنانية - الاسرائيلية المنفذ الوحيد للبنان وسورية لاستعادة مزارع شبعا اللبنانية ومرتفعات الجولان السورية. ان وحدة المسارين التي نادت بها الحكومات اللبنانية منذ اتفاق الطائف تعني قبل كل شيء ان المقاومة اللبنانية في الجنوب ستستمر بدعم سوري الى أن يتحرر الجنوباللبناني بكامله ومرتفعات الجولان السورية لغاية بحيرة طبريا. من هنا يبرز التناقض في مواقف بعض اللبنانيين، رسميين وغير رسميين من الذين يرحبون بالوجود السوري في لبنان ويريدون في الوقت نفسه اغلاق جبهة الجنوب، أو الذين يصرحون بأنهم مع سورية قلباً وقالباً لاسترجاع أرضها المحتلة لكنهم يعارضون أعمال المقاومة أو يطالبون سورية بإعطاء لبنان "سند ملكية" لمزارع شبعا تلبية لطلب الأممالمتحدة. والتناقض الأكبر هو في الموقفين الأميركي والفرنسي اللذين يتسامحان مع الوجود السوري في لبنان، لكنهما يعاقبان لبنان اقتصادياً وسياسياً لعدم ارسال جيشه الى الجنوب المحرر لكف يد المقاومة ومن ثم عدم التعرض للاحتلال الاسرائيلي لمزارع شبعا. من الواضح ان انهاء المقاومة اللبنانية بعد الانسحاب الاسرائيلي من معظم الأراضي اللبنانيةالمحتلة يجعل الجيش السوري في لبنان بمثابة الجيش المحتل. ان اغلاق جبهة الجنوب في الظروف الاقليمية الراهنة يعني في آخر الأمر اعترافاً غير رسمي بضم اسرائيل للجولان ومزارع شبعا، لأنه لن يكون هناك حافز لاسرائيل للانسحاب من هذه الأراضي المحتلة بغياب المقاومة اللبنانية والتضامن العربي. في ضوء ذلك، أصبح على اللبنانيين ان يقرروا بين طريقين: الطريق الأول هو في تقليد مصر التي فصلت مصيرها عن الصراع العربي - الاسرائيلي، فيغلقوا جبهة الجنوب ويدعموا سورية سياسياً وديبلوماسياً لاسترجاع الجولان تماماً كما تفعل مصر. والطريق الثاني هو في أن يوحدوا فعلاً مسارهم ومصيرهم مع سورية فيبقى الجنوب مسرحاً للصراع مع اسرائيل الى أن يتم سلام نهائي تعود بموجبه مزارع شبعا والجولان الى أصحابهما، فيستقر لبنان كاملاً وتنتهي بذلك مرحلة "الضوء الأصفر". لكل من هذين الطريقين أنصارهما الأقوياء بين اللبنانيين. وللطريقين أيضاً مخاطرهما الكبيرة. لكن المطلوب قرار لبناني واحد وشامل يستند الى إرادة شعبية وتنفذه الدولة اللبنانية. السيادة التي خسرها لبنان في أوائل السبعينات عندما فشل اللبنانيون في أخذ قرار واحد بشأن الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، يمكن أن يبدأوا باستردادها إذا استطاعوا اتخاذ قرار واحد وشامل بشأن فصل المسارين اللبناني والسوري أو توحيدهما، وبدعم عمليات المقاومة في الجنوباللبناني أو وقفها. وهنا يجب التنبيه الى ان فصل أو توحيد المسارين غير معني بتاتاً بالتجاوزات أو التدخلات السوري في الشؤون اللبنانية الداخلية والتي ترفضها الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. والخلاصة ان الدعوة الى حوار لبناني - لبناني، التي اطلقها "بيان قرنة شهوان" بحماسة هي عين الصواب، خصوصاً باقتراحه دعوة الدولة الى قيادة هذا الحوار. لكن الأولوية في أجندة حوار كهذا يجب أن تُعطى لفصل أو توحيد المسارين اللبناني والسوري، لأن قرار الدولة توحيد المسارين يبقى ناقصاً في غياب الدعم الشعبي الشامل. فباستثناء الدولة والمقاومة اللتين تؤمنان وتعملان لوحدة المسارين، هناك تأييد معظمه صامت أو معارضة معظمها صاخبة لهذه القضية المصيرية، وهذا يضر بمصلحة لبنان وسورية. من هنا المطلوب من الدولة اللبنانية انتزاع المبادرة واجراء مشاورات وحوار شاملين مع الأفرقاء اللبنانيين وبينهم كافة حول هذا الموضوع، من أجل توحيد الرأي اللبناني والبدء بالعد العكسي لاستعادة السيادة التي لن تتحقق من دون وحدة القرار الشعبي والرسمي حول القضايا المصيرية وأهمها توحيد أو فصل المسارين اللبناني والسوري. ان السيادة ليست فقط انسحاب القوة العسكرية غير اللبنانية أو غيابها عن الأراضي اللبنانية، انما هي ايضاً وحدة الرأي والقرار اللبنانيين بالنسبة الى القضايا المصيرية التي تواجه الوطن، بالاضافة الى الرؤية المشتركة الى المصلحة الوطنية العليا. وهنا يجب التذكير بأن غياب وحدة الرأي والقرار اللبنانيين في أوائل السبعينات أفقدت لبنان السيادة وأفرزت مجيء واستدعاء جيوش عربية وأجنبية وجماعات مسلحة الى الأرض اللبنانية. * سفير سابق في واشنطن ومسؤول سابق في البنك الدولي وحالياً مستشار نائب رئيس وزراء لبنان.