الحروب العديدة التي شنتها الولاياتالمتحدة الأميركية، منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين وحتى أيامنا هذه، جعلت مفردة "الحرب" تتردد على كل الألسن، وترد في صيغ متعددة. مثل "الحرب على الارهاب"، "الحرب الاستباقية أو الوقائية"، "الحرب العادلة" وغير ذلك، واكتست بذلك هذه المفردة معاني متباينة ومتعارضة في غالب الأحيان، حتى أمست الحرب أم الحقائق في الخطاب السياسي الأميركي، خصوصاً بعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001. إذاً، هناك تسويق لمفردة الحرب وتصريف لها، بما يعني اشتقاق الحروب من بعضها بعضاً، ثم محاولة توجيهها بما يتناسب و"المصالح القومية الأميركية" التي تعني مصالح من القوى المهيمنة والموجهة للقرار السياسي الأميركي. ومن ذلك التناسل المريب لمفردة الحرب يسدل الستار عن المشاكل الحقيقية التي تواجه عالم اليوم، أمماً وشعوباً، وجماعات وأفراداً. لقد صارت مفردة "الحرب"، خصوصاً إذا الحقت ب"على الإرهاب"، قناعاً يخفي ما تعبّر عنه، والحاقها باللازمة "على الارهاب" يعني اطفاء طابع الشرعية على ما يصاحبها من قتل وتدمير وترويع وضحايا، ويصبح الهدف هو اضفاء طابع الاعتياد على ويلاتها، بوصفها أقرب الى "عملية جراحية"، هدفها استئصال "الارهابيين"، وتدمير أوكار "الارهاب" أينما وجدت! وانبرى عدد من الكتاب الحربيين، الذين يروجون للحرب، خصوصاً من المحافظين الجدد، الأميركيين منهم أو من يردد مقولاتهم من المحافظين العرب. ونمت الأدبيات الحربية التي جهد أصحابها في افراغ الكلمة من محتواها، وفي حمل الناس - خصوصاً في أميركا - على فهمها فهماً سلبياً، لا يثير التفكير لديهم، ولا يحرّض الوعي. فحين تتسلل كلمة الحرب الى كل التحليلات، وتتردد فوق كل المنابر، فإن المواطن الأميركي سرعان ما يستأنس بها، ويتقبلها بصفتها تسمية لشيء قدري لا مناص منه، وكأنها بلاء يوحد الأمة. فما دامت خطب أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب تردد كلمة الحرب، وتحث على شنها ضد الارهابيين، وما دامت مختلف أجهزة الإعلام تنقل أصداء لهذه الكلمة، فإن جميع المواطنين الأميركيين يؤثرون استخلاص ما يراد له أن يستخلصوه، وهو أن المصيبة إذا عمت هانت، وتلك هي الحكمة البالغة لمنظري خطاب الحرب ومروجيه. ترافق كل ذلك مع عبور العالم الى لحظة جديدة من الحكم والسيادة، لحظة تغايرت معها المفاهيم بتغاير المعيارية والحدثية، وشهدت تحول الولاياتالمتحدة الأميركية الى امبراطورية جديدة، إذ باتت تتسيد المجال العسكري برمته في العالم، وهي تتطلع اليوم الى امتلاك الكلية المكانية والزمانية فيه، فحلّت بذلك مرحلة كاملة من الأفكار والأحداث والتحليلات حول الحروب الاحتمالية لهذه الامبراطورية التي تحيل الى لغة الصواريخ والدبابات مهمة كتابة الوقائع على الأرض، ساعية الى أن تحقق حروبها قطيعتها الكارثية مع كل أسباب ومسوغات الحروب السابقة، سواء المفترضة منها أم المتخيلة، وقاطعة مفهوم الحرب عن ما تحقق له من مركبات وحمولات سابقة تراكمت عبر السنين، حتى غدت الحرب في معيارية الخطاب الامبراطوري الجديد رسالة الأمة الأميركية الجديدة الى العالم، والتي يدعي الامبراطور المغرور المتوج عليها انه كلف بها تكليفاً إلهياً، بما يحقق له - كأصولي - الحسنة بأضعاف أمثالها، مع أنها في حقيقة الأمر رسالة نفعية المحتوى، تكلف البشرية إزهاق ارواح الآلاف، بل الملايين من الأبرياء. كانت الحرب حرباً رادعة، أي ردع عدوان، أو دفاع عن أرض أو حق مغتصب، لكن في المعيارية الجديدة للنظام الامبراطوري صارت الحرب وقائية أو استباقية، تتحكم في وقائيتها نفعية ومصالح المحافظين الجدد والشركات التي يعملون لمصلحتها أو معها في المركز الامبراطوري، فإذا كان هناك ثمة احتمال ما لتعرض المصالح الامبراطورية في أي بقعة من العالم، توجب شن حرب على من يسبب ذلك التهديد، أو حتى على من تكون له النية في ذلك. لكن الحروب الأميركية تبقى غير شرعية، قبل كل شيء، بصفتها فعلاً يتناقض مع القانون الدولي، حتى ولو أتت بنتائج مرجوة منها، كخلع مستبد وسفاح مثل صدام حسين مثلاً، وعليه فإن المقدمة الكلية لكل ما يتبع مفهوم الحرب على الصعيدين المفهومي والجيوسياسي صارت تخضع لمنطق القوة الامبراطوري، الذي غلب الإرادة على العقل، ولم يسعفه في ذلك غير امتلاك النظام الامبراطوري لأقوى جيش في العالم. جيش تكمن قوته في قدرته على الانتشار السريع في أي مكان محتمل على وجه الأرض، وبالتالي فإن منظري منطق القوة، وصانعي حروب النظام الامبراطوري، باتوا أسرى وقائع وأحداث معياريتهم العدوانية في شن الحروب. وبالتالي لن تنفع أصوات الحركات المناهضة للحرب، ولا ركام خطابات السلام، في منعهم عن تنفيذ خططهم العدوانية، فهم يرون الى الحرب وكأنها استعراضاً لعبقرية القوة المعلوماتية والالكترونية ولأدواتها العالية الدقة والكفاءة في إحداث الخراب والمجازر. وفي الوقت نفسه امتلاك التفوق التكنولوجي لمحو آثارها الهائلة والمدمرة. لكن هل يمكن الحديث عن الحرب اليوم من غير الإحالة الى الواقع الدولي الجديد؟ وهي ليست إحالة بسبب الطابع الكوني لمفهوم الحرب، بل لأن مسألة الحرب تقتضي موقفاً منها، وهو موقف يتجه نحو رفضها بصفتها حرباً، وبالأخص حين تفقد صفة الشرعية أو العدالة، مع أن هذا الموقف الرافض يكتسي اليوم أهمية مميزة، خصوصاً أن عالم ما بعد الحرب الباردة، كانت أمامه فرصة كبيرة للتعايش السلمي والتعاون في بناء الفضاء الكوني المشترك الذي يتسع للجميع. ويضمر خطاب الحرب، كما برهنت حروب أميركا العديدة، نزعة عدوانية: فاشية المحتوى، ترفض التعدد والاختلاف والغيرية، وتمجد الأصل الطبيعي، وما يتناسل منه من ادعاءات ودعوات، كما تنظر الى الحياة بصفتها صراعاً دائماً ما بين محورين أو معسكرين: الخير والشر، أو عالمين منفصلين، الأول يسكنه الطيبون، والثاني عالم الأشرار، من ثم تمجّد الحرب والدعوة الى خوضها. وهذا ما يتجلى واضحاً في الايديولوجية الراديكالية للمحافظين الجدد في أميركا التي تستند الى ميتافيزيقا الفصل والإحالة والإرجاع. لكن الحرب مهما حاول دعاتها، تبقى غير عقلانية، وهي ليست استكمالاً للسياسة، ونعتذر هنا من "كلاوزفيتز"، كونها، أي الحرب، صارت تتخذ من السياسة امتداداً لها وبطرق مختلفة، فحروب أميركا العديدة لم تؤد الى سياسة وسلام، بل الى نوع من حروب مؤجلة، من خلال هدنة تتبعها حرب أخرى في امتداد قد لا ينتهي. * كاتب سوري.