(ما رغبتُ في توضيحه بالدرجة الأولى هو أن المجتمعات الصناعية الغربية الحديثة أعادت فرز أساطيرها الموروثة ومن ثم أفرغتها من محتواها الأسطوري والديني والعقائدي تحت تأثير الثقافة العقلانية الرأسمالية الليبرالية المنفتحة على اقتصاد السوق وتحرير التجارة الدولية , وكذلك تحت تأثير هاجس امتلاك المستقبل. يقول عالم الاجتماع أنطوني جيدنز: الرأسمالية الغربية تختلف عن جميع الأنظمة الاقتصادية). الحرب على الإرهاب لم تكن سوى قيثارة أورفيوس ولكن بوضع معكوس , فالأسطورة الإغريقية تؤكد على قيمة الحياة عند الإنسان من خلال الموسيقى وسحرها الأّخاذ , بينما أسطورة الحرب على الإرهاب تسلب حق الحياة من الإنسان بأبشع صور الاستلاب والمهانة اللذين عرفهما التاريخ البشري على الإطلاق . والمفارقة أن كلتا الأسطورتين تتضمنان إيقاعا موقّعا, ففي الحالة الأولى يأتي صوت الموسيقى مؤثرا جماليا في النفوس , بينما الأخرى يأتي صوت انفجار القنابل والصواريخ والرصاص ليقضي على شيء اسمه الكرامة الإنسانية , وكذلك على حق الموجودات والمخلوقات في الحياة على هذه الأرض. لست هنا في صدد المقارنة , وربما ما رغبتُ في توضيحه بالدرجة الأولى هو أن المجتمعات الصناعية الغربية الحديثة أعادت فرز أساطيرها الموروثة ومن ثم أفرغتها من محتواها الأسطوري والديني والعقائدي تحت تأثير الثقافة العقلانية الرأسمالية الليبرالية المنفتحة على اقتصاد السوق وتحرير التجارة الدولية , وكذلك تحت تأثير هاجس امتلاك المستقبل. يقول عالم الاجتماع أنطوني جيدنز (الرأسمالية الغربية تختلف عن جميع الأنظمة الاقتصادية التي سبقتها فيما يتعلق بمواقفها تجاه المستقبل . لقد كانت أنظمة السوق السابقة جزئية وغير منتظمة . فعلى سبيل المثال لم تحدث أعمال التجار أيّ شرخ يذكر في البناء الأساسي للحضارات التقليدية التي ظلت جميعها زراعية وريفية). وعليه فإن الخطورة الكامنة على العالم من خلال تأثير هذه الثقافة - على سبيل المثال- على صناع القرار في السياسة الأمريكية يتمثل عند أغلب المحللين في تحويل هذه الثقافة إلى أنموذج حياة . يقول جيفري هارتمان في كتابه (سؤال الثقافة المصيري) (لقد صارت لدينا ثقافة البندقية يتبناها البشر كطريقة حياة). هذه الإشارة من جيفري هارتمان تؤكدها سياسات الدول الكبرى في حربها ضد الإرهاب , فالثقافة هنا هي نتاج السياسة كما يقول تيري إيجلتون وليس العكس , وهي ثقافة بالتالي تستعين بجملة من القيم المعيارية الفاصلة من قبيل : الأصولية الدينية , سياسات الهوية الطهرانية , غطرسة القوة والهيمنة , الخوف من الآخر في بنائه الثقافي والجسدي , إلى آخر هذه القيم الانبعاثية التي ترتكز على الفعل وردات الفعل . الأمر الذي نستدل من خلاله على وضعية القانون الدولي باعتباره نتاج اتفاقيات دولية جسدت إرادة الإنسان ليكون أكثر تعقلا في علاقاته السياسية بالآخرين , وهي إرادة ارتكزت على خطاب سياسي فكري له جذوره الممتدة في تاريخ الغرب السياسي , ناهيك عن الواقع الفعلي الذي انطلقت منه هذه الخطابات وتحولاتها الفكرية سواء كان ذلك على مستوى الدولة أو المجتمع , غير أن هذا القانون الآن بحصانته الدولية (المقدسة) لم يسلم إطلاقا من التجاوزات والاختراقات , وهذه من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى تدليل , فالدعوات المتكررة من اليمينيين المتطرفين في الإدارة الأمريكية في تغيير أنظمة الأممالمتحدة وقوانينها بما يتوافق والمصالح الأمريكية, وكذلك الأصوات المتطامنة معها من داخل الكنيست الإسرائيلي ,لا تعكس رغبة أمريكا في الانفراد بالقرار السياسي الدولي فقط , وإنما تعكس كذلك أزمة على مستوى الوعي الثقافي , فالنزعة الاندماجية للرأسمالية العابرة للقوميات والتي ثقافتها مصابة برهاب الأماكن الضيقة , يصعب على هذه الثقافة بوصفها ذات قيم علمانية نفعية ومادية أن تنتج قيما تتلاءم مع قيم القوانين الدولية , وهذه هي أجلى صور المفارقة الصارخة التي تعيشها الرأسمالية الصناعية التي لم تكن أبدا بالقادرة على حياكة إيديولوجيا ثقافية مقنعة بالانطلاق من ممارساتها المادية الكارهة للثقافة بالاعتبار الجمالي والقومي للثقافة ذاتها , ولذلك برزت في الآونة الأخيرة خصوصا بعد الحادي عشر من سبتمبر أصوات مثقفة غربية ( نزعة نجدها مثلا عند الشاعر شيموس هيني , وكذلك جورج شتانير) تدعو فيها إلى إحياء التراث المسيحي الإنسانوي اللبيرالي المشترك بين شعوب أوروبا لأنه حسب تصورهم هو الطريقة الأكثر نجاعة في صد (البرابرة الغازين القادمين من بعيد). في هذا النطاق يقول تيري إيجلتون في كتابه (فكرة الثقافة) إن الأحلاف الغربية مثل حلف الناتو , والاتحاد الأوروبي تحتاج في العادة إلى تدعيم روابطها بشيء أقلّ غلظة من البيروقراطية , أو الأهداف السياسية المشتركة أو المصالح الاقتصادية المشتركة , خاصة حين تواجه أعداء مسلمين تمثل الثقافة بمعناها الروحي أمرا بالغ الأهمية والحيوية بالنسبة لهم. هذه الفكرة تجد رواجها الأكثر شعبية في الإعلام الأمريكي الذي له صلة بالخطاب السياسي اليميني المسيحي المتطرف. وليست الحرب على الإرهاب كونها حربا مقدسة, وكذلك مفاهيم الخير والشر المستلة من التراث المسيحي بمعيارية عقائدية, والتي تطفح بها خطابات الرئيس الأمريكي سوى الدليل الأكثر منطقية على الوعي الايديولوجي المثقل باللاهوت في سياق تبريره في حربه على الإرهاب. وإذا كانت جميع الاصوليات الدينية في العالم تتسم بنزعة الاحتماء بالهوية التراثية, وذلك في ظل الظروف الحياتية الطبيعية, فكيف يمكن ان تتسم بها هذه النزعة في ظل ظروف دولية متغيرة, وفي ظل حرب مستعرة لا تهدأ على الإرهاب؟ هنا السؤال التالي الذي سنجيب عنه لاحقا: كيف احتمت الاصولية الإسلامية بنزعتها إلى الهوية في سياق الحرب على الإرهاب؟!!.