أميركا يجب أن تستمع إلى الآخرين، هذه العبارة صار يرددها عدد متزايد من قادة العالم، وتزدحم بها صحف ومجلات قليل منها داخل الولاياتالمتحدة والكثير خارجها. يريد هؤلاء الذين يرددون هذه العبارة ويؤكدون عليها أن يقولوا إنه لو استمعت اميركا لما وقعت الواقعة، ولما تعرض العالم بأسره لأشد الأوقات عسراً منذ الحرب العالمية الثانية. ويبدو أنه في ظن هؤلاء القادة والمحللين أن اميركا من الآن فصاعداً ستستمع. والدرس الذي يفترض تعلمه متعدد الجوانب. فقد قرأت لمن يقول إن واشنطن لن تُقدم بعد حادث الثلثاء "الأسود" على قرار مهم في السياسة الخارجية إلا بعد أن تستشير بقية الدول العظمى في العالم. وأن واشنطن ستعيد النظر في أولويات سياستها الخارجية ومصالحها القومية فتنقل التركيز من قضايا عائدها ضار أو ضئيل على اميركا والعالم الى قضايا عائدها مثمر وكبير على الرخاء العالمي والسلام بين الدول. وفي الدرس أيضاً، أو في الدروس بمعنى أدق، أن حكومة الرئيس بوش لن تذهب الى أبعد مما ذهبت اليه في تنفيذ خيار درع الدفاع الصاروخي، فقد أثبتت طائرة تجارية مدنية، بل أكثر من طائرة صدق وصحة ما كان يحاول مختلف الأطراف إسماعه لأميركا، أثبتت أن دفاعات الفضاء لن تحمي بناية اساساتها ممتدة في الأرض، أو تحمي إنساناً يدب على هذه الأرض. ولم تستمع اميركا، ولا ألقت بالاً إلى الذين حذروها من عواقب نقص الفهم في موضوع خطير كالإرهاب. فقد قيل مراراً، وما زال يتردد القول ذاته وإن بصياغات مختلفة على ألسنة خبراء اميركيين، أن الاختلاف على تعريف الإرهاب كلّف وقوع كارثة، وقد وقعت. ولن يستقر بعد الآن أمر يتعلق بالإرهاب، ولا قرار في شأنه، طالما استمرت اميركا تسمي المقاوم في فلسطين ضد احتلال اسرائيل ارهابياً، ولا تسمي الاسرائيلي الذي يقاتل هذا المقاوم ارهابياً، أو تسمي اعمالاً قامت بها "الساندينستا" في نيكاراغوا ارهاباً وأفعال "الكونترا" مقاومة، وتتعامل برفق مع مفجري القنابل والقتلة في ايرلندا الشمالية وبوحشية مع الفرق المسلحة وغير المسلحة التي تناهض الاستعمار الجديد في أشكاله الاستيطانية والاحتكارية كافة. ولم تستمع اميركا الى الأصوات التي ملأت الدنيا من سياتل في اقصى الغرب الى ملبورن في اقصى الشرق تندد بوحشية ممارسات الشركات والمصالح المتعددة الجنسية، وبخاصة شركات الأدوية والدخان، أو استمعت ولم تفهم الرسالة والشكوى، أو - وهو الأقرب - استمعت ووعت وفهمت وقررت ان هذه الاصوات في شوارع العالم "الحر" إنما تقلد أو تردد أصوات الارهاب الصادر من العالم غير الحر. بل انها سمعت وبوضوح تمنيات كثير من المعتدلين والواقعيين الحريصين على منع انفلات البشرية نحو الفوضى. هؤلاء تمنوا على الولاياتالمتحدة أن تحاول قدر الامكان تضييق الفجوة بين المبادئ التي تبشر بها والممارسات التي تقوم بها أو تشجع الآخرين على فعلها. قيل لأميركا، وما أكثر ما قيل، أنتِ توجهين الدعوة الى توسيع دائرة المشاركة في صنع السياسة والقرار وتصرين على اتخاذ القرار الدولي منفردة، بل تعاقبين الدول التي تعلن عن اختلاف في الرؤية وفي القرار وفي السياسة. تنادين بالحوار بين الخصوم وبين الحضارات وبين الأجناس والطوائف والشعوب، وعندما يطرح بقية العالم، أو الخبراء الأعظم فيه، قضايا خلافية تنسحبين من الحوار، أو تضعين شروطاً تنسف فكرة الحوار حتى وإن كانت عواقب هذا الموقف تحمل في طياتها غضب الآخرين أو رغبتهم في الانتقام عند أول فرصة سانحة. كان هذا بالضبط ما حدث في مؤتمر ديربان الذي انتهى كما لم ينته مؤتمر دولي آخر منذ سنوات طويلة، انتهى واميركا محط انتقاد عميق في احسن الاحوال واستنكار شديد أو خيبة أمل في أسوأ الأحوال. اختارت قضية اسرائيل لتخفي وراءها نيتها في التهرب من مناقشة قضية الاسترقاق وتعويضاتها فكان خطأ مثلثاً، حصدت كراهية معظم الوفود الشعبية العربية والاسلامية، وجلبت لنفسها غضب معظم الوفود الشعبية الافريقية، وفقدت بعض ولاء وفودها السوداء. خرجت من المؤتمر وقد تأثرت وحدتها الوطنية، وكانت بؤرة التركيز في أول خطاب للرئيس بوش في أعقاب الثلثاء الأسود. وكتب كثيرون في اميركا وخارجها قبل الواقعة عن الغطرسة المتزايدة لممثليها وقياداتها، وبخاصة المقيمين تحت قبة تل "الكابيتول" واشتكى الاوروبيون من الممارسات الديبلوماسية الاميركية سواء في المسائل التجارية كما في المسائل الدفاعية، واشتكى الروس والصينيون، كل هؤلاء طالبوا بأن تؤخذ آراؤهم قبل أن تتخذ واشنطن قراراً في شأن يخص مستقبل العالم ومستقبلهم في هذا العالم، ولم تستمع واشنطن واستمرت تجمد معاهدات دولية وتتجاهل قواعد قانون دولي، استمرت في طريق مرسومة أو هكذا بدت. *** "استمعت اميركا أو لم تستمع، لن يتغير شيء في السلوك السياسي الاميركي"، لن يتجاسر مراقب متأنٍ فيجاهر في هذه المرحلة المبكرة بتنبؤ على هذا القدر من الخطورة. فالأيام المقبلة معبأة بأفعال وردود فعل محلية، أي اميركية، وعالمية ليس من السهل التكهن بها أو بمسارات تداعياتها، ولكن الشيء الذي يستحق أن يهتم به رجال الحكم في دول العالم كافة، وكذلك المعلقون والاكاديميون، هو محتوى ومصير الجدل الدائر منذ مدة، وإن خافتاً، في الولاياتالمتحدة تحت عناوين من نوع "نحو امبراطورية اميركية"، أو من نوع "الاعتراف بالوضع الامبريالي الاميركي". بدأ الجدل منذ فترة غير قصيرة، ثم تصاعد فجأة وزاد عدد المشتركين فيه مع الاختراقات العظمى التي حققتها مسيرة العولمة، كان واضحاً أن الولاياتالمتحدة صارت تعاني، من سلبيات العولمة. ففي جانب القيم اشتدت المواجهة وفي أحيان وصلت الى حد الصراع غير المكتوم وبخاصة حول جوانب معينة في الثورة في مجال التكنولوجيا عموما والتكنولوجيا الحيوية خصوصاً، وحول العنف في الفن والإعلام، وحول الفساد في الانتخابات وتدهور الممارسات الديموقراطية واختلال توازنات السلطة في اميركا وصعود الاصولية الدينية والتيارات اليمينية، وغيرها. غطى بعض النقاشات على الجدل الدائر حول "الامبريالية الاميركية"، وإن كان هو الأهم، انطلق الجدل مما يشبه الإجماع بين الاكاديميين الاميركيين، على أن السؤال العلمي الذي يجب أن تتعامل معه الجماعة السياسية الاميركية هو "ليس أن نكون دولة مهيمنة أم لا نكون وإنما أي هيمنة سنختار؟"، يكاد فعلاً لا يوجد مسؤول اميركي يجد خطأ أو خطيئة في الفكرة القائلة إن واشنطن يجب أن تعمل بكل مثابرة، ومهما كان الثمن، لتستمر اميركا القوة العسكرية "الأقوى" في العالم. ويقول توماس دوناللي نائب رئيس "مشروع القرن الاميركي الجديد" في بحث مثير للانتباه والجدل، إن اميركا ستتخبط في سياساتها الخارجية الى أن يأتي يوم تعترف فيه بصراحة، أمام نفسها والعالم، بأنها تلعب "دوراً امبرياليا". أما اذا اعترفت بهذا الواقع فإنها قد تبحث بجدية اكبر وعزم أوفر عن خيارات أخرى، فالاميركيون لن يصبروا طويلاً على الكراهية المتصاعدة ضدهم في الخارج، هذا ما يقوله دوناللي. ولن يقبلوا لمدة طويلة أن يقوم الجيش الاميركي بوظيفة الشرطي، وهي الوظيفة التي قام بها الجيش الامبراطوري البريطاني في القرن التاسع عشر، ويقوم بها حاليا الجيش الاميركي ولكن من دون مزايا وحوافز الوضع الامبراطوري. إن الشعب الاميركي في غالبيته لم يعد يجد مانعاً في أن تمارس الولاياتالمتحدة دور القيادة ووظيفة ادارة شؤون العالم، وقد لا يوافق على طلب التخلي عن هذه الوظيفة، فلا صحة كبيرة في الادعاء بأن التيار الانعزالي قوي وأن العودة الى اميركا - القلعة المحصنة ما زال حلم معظم الاميركيين. هذا ما أذاعه "مركز أبحاث القرن الاميركي الجديد" ونشرته إحدى الصحف الاميركية الكبرى في صفحتها الأولى واحتل الموقع الاهم في الصفحة، وكان هذا قبل الواقعة بثلاثة اسابيع الهيرالد تريبيون 22/8. وها هو الشعب الاميركي في غالبيته الساحقة يؤكد بعد الواقعة ما جاء في بحث دوناللي، حين قال لا للانعزال، ونعم لقيادة العالم.. ولو بالقوة واستخدام اقصى درجاتها. ولم يكن دوناللي الوحيد الذي طالب من الحكومة والجماعة السياسية في اميركا الاعتراف بأن اميركا دولة امبريالية، إذ قال شالمرز جونسون المتخصص في شؤون اليابان ورئيس معهد بحوث اليابان إن الولاياتالمتحدة تسير على النهج الامبريالي، وأن سيرها على هذا النهج هو السبب في أن دولاً كثيرة بدأت تتقرب من بعضها البعض وتتقارب في أحلاف أو ما يشبه ذلك لإحباط هذا النهج والضغط على اميركا لتعود دولة اعظم تقود بالمشاركة والمشورة، أي من خلال موقع "الأولى بامتياز بين اطراف متساوية". وينضم جونسون الى عدد آخر من المفكرين الاميركيين والأوروبيين وآخرين في العالم الثالث الذين يعتقدون أن العالم يتفكك متفلتاً من الهيمنة الاميركية أو غاضباً عليها ورافضاً لها، ولكن في غياب بديل يحفظ الاستقرار ويمنع الفوضى. سواء كنا على مشارف "حالة امبراطورية" أو في غمارها يظل التوقع قائما أن واشنطن بدأت مسيرتها الامبراطورية ولن تتوقف. والأدلة متزايدة خصوصاً بعد واقعة الهجوم المثلث على نيويوركوواشنطن. يكفي أن يقول أحد أشهر معلقي اهم صحيفة اميركية إن القضاء على الارهاب لن يتحقق إلا بالحرب ضد "هذا النسق الآخر الذي تختلف قوانينه وثقافته عن قوانين وثقافة النسق الاميركي". ولسنا بحاجة الى ذكاء كبير لنعرف ان العدو المقصود هو النسق الاسلامي، ويثير الأسى أن يصدر عن الرئيس بوش شخصياً تصريح يستخدم فيه كلمة "الصليبية" في غير وقتها أو محلها إلا اذا كانت زلة لسان حاول بعدها تخفيف أثرها بجملة كلامية لطمأنة مسلمي اميركا وعربها. ولكنه منزلق خطير هذا الذي تنحدر اليه المفردات والسلوكيات السياسية الاميركية في وقت عصيب. اذ أنه مهما كان حجم الحاجة الى وحدة وطنية تنقذ الولاياتالمتحدة من أزمتها الاقتصادية ومشاكلها الاجتماعية والسياسية، وكلها سابقة على واقعة الهجوم المثلث ومتفاقمة بعده، فإن الأخطار التي ستعود على اميركا والعالم من وراء التدحرج نحو ديموقراطية أقل ورقابة اعلامية وسياسية أشد ستكون أقسى من أي دمار وقتل يحدثه الارهاب والارهابيون. الحديث بإعجاب عن مقولة "المشتبه مطلوب للعدالة حياً أو ميتاً"، كالحديث عن حرب صليبية جديدة، والتصرف بمنطق "شنق المشتبه فيه على جزع أقرب شجرة قبل محاكمته"، وصحوة ظاهرة الانفعال الجماعي، أو "الرعاعي" كما كان شائعاً في الغرب الاميركي، كلها تطورات، أو انتكاسات، خطيرة، أعود فأقول، إنها أشد خطراً على اميركا من الارهاب وأعتى الارهابيين. العالم في ورطة لا سابقة لها، ستحل به الفوضى إن تخلى عن الولاياتالمتحدة وتركها تتصرف منفردة، وستحل به الفوضى إن انضم اليها وسار في ركابها بغير ميثاق يحدد الحقوق والواجبات والأهداف. والمشروع الامبراطوري جنين في رحم هذه الورطة. * كاتب مصري.