يرسم حسن داود صورة امرأة في مونولوغ طويل في روايته الأخيرة "ماكياج خفيف لهذه الليلة" الصادرة عن دار رياض الريس، بيروت. تستفيق فادية من غيبوبة دامت شهرين لتسأل عن زوجها. يخبرونها بوفاته مع شقيقها وشقيقتها في انفجار القذيفة التي نجت وحدها منها فلا تحزن. لا تشعر بشيء وتنسى طفلها وليد وطفلتها كاميليا. عقلها كامل لكنه لا يستجيب عندما يحاول الأطباء وشقيقها المتبقي صدمها بوفاة ثلاثة اعزاء وبجرحها الكبير الممتد من اعلى الرقبة الى الصدر. تقارن بين غيبوبتها التي كانت غياباً للجسم والعقل وغيبوبة صديقتها وداد التي ماثلت الحلم وأبقت على بعض نشاط للعقل. تقول عن ولديها: "فقدت ذلك القسم من ذاكرتي" ص 8، وينصب كل احساسها على نفسها في شكل نادر وطاغ للنرجسية. تعرض صور موتاها الثلاثة في منزلها لا لتمتحن احاسيسها وتثير حزناً ما بل لكي تنساهم بسرعة من كثرة تعرضها لرؤيتهم. تقول اولاً انها تؤجل صدمتها الى وقت تستطيع معه تحملها، لكنها تبقى الموجودة الوحيدة في حياتها بعد مضي سنوات على نجاتها. تعيد ابتكار نفسها وتجمع جسمها الذي بات نصفه اضعف من النصف الآخر في حركات بطيئة منسجمة تخدع الآخرين وتجعلهم يظنون انها عادت كما كانت. جرحها الكبير كشفته دائماً عن قصد كأنها تقول انه لم يغيرها وأنه كان اصابتها الوحيدة. "ماكياج خفيف لهذه الليلة" هي الرواية الثالثة التي اقرأها لحسن داود. في "أيام زائدة" و"سنة الأوتوماتيك" اللتين صدرتا في التسعينات ركز على السلوك وحده لدى الشخصيات، لكن روايته الأخيرة تعنى بالحركة الداخلية لامرأة تتغير حياتها بعد مواجهتها مع الموت. انحصار المونولوغ بصوت فادية وحده يفلت احياناً من القارئ ويعرضه لبعض الملل. وفي محاولته فهمها لا يجد الكثير من حياتها الماضية ليقارن ويجد اجوبة على اسئلته الكثيرة. هل يحدث ان تلغي الغيبوبة الأمومة؟ هل استفاقت فادية مخلوقاً انانياً خالصاً كطفل، وكافأت نفسها على نجاتها بمحاولة البدء من جديد متحررة من اي عاطفة مسبقة؟ كان زوجها المسؤول في "المنظمة" يخونها باستمرار واكتفت بعودته إليها بعد كل خيانة. لكن موظفي منظمته يريدونها حارسة وضحية لصورته في لباس شبه عسكري زين بنياشين كثيرة. يحصرون دورها في التذكير به ونجاتها في كونها امرأة باقية من اثر رجل ميت ص20. "في وعيي او لاوعيي، سعيت الى نسيان ماضيي كله" ص23 لكن طفليها عرقلا البداية الحرة فمحتهما من ذاكرتها. قبلتهما بعد ان أثارا شفقتها عليهما لكنها لم تحس بعاطفة نحوهما. لا يملآن فراغ حياتها بعد فشل علاقتها بيوسف بل يتعبها وجودهما، وشقيقها الوحيد الباقي "ايضاً ليس احداً" ص89. عندما انتهت العلاقة اهملتهما فكانا لا يجدان شيئاً يأكلانه في البيت. لم يعنِ ذلك شيئاً لها فحياتها فرغت بذهاب يوسف "ولم يعد فيها شيء" ص90. الطفلان ابتعدا عنها بدورهما فلم تكترث "بل انني كنت اهيئ لمزيد من الانصراف عنهما" ص97. ليست ضعيفة الأمومة بل عديمتها وإن قامت بواجبها العملي تجاه الطفلين من دون ان تستطيع قرنه بعاطفة ما. كأن الأمومة ليست غريزة بل اكتساباً، فهي كانت تود ان ينتظر طفلاها صحوة امومتها كما صحت رغبتها فجأة او خيل إليها ذلك. كأن الحادث كان فرصة لتأخذ عطلة من كل شخص وشيء ما عدا الأنا، وفي هذا مأساتها التي تنتهي بوحدة موحشة لا عزاء فيها. هل تقنعنا صورة فادية في "ماكياج خفيف لهذه الليلة"؟ هل تعيد تشكيل نفسها وتقديمها جيداً؟ كانت فتاة جميلة في المدرسة لكنها لم تعرف كيف تتصرف مع الفتيان خلافاً لجيهان الأقل جمالاً منها. هل اعتبرت خطابها وقوتها في جمالها وحده؟ نرجسيتها تبقى بعد الحادث، فهي لا تناقش او تشكك في قول موظفات المنظمة أن لا احد يلائمه الماكياج مثلها، ولا قول جيهان انها جميلة وذات رفعة. زينة الوجه الثقيلة قناع يلائم الصورة الشكلية والاجتماعية التي تود الإيحاء بها، وهي سواء كانت خفيفة او كثيفة هاجس عميق يتعلق بالهوية. لكن الشباب والجمال لا يكتملان من دون شهوة استيقظت فجأة في الحلم بعد اربع سنوات على الحادث. حلمت بيوسف وطاردته في رفضها حياة النبتة وتظاهرها انها امرأة كاملة الأنوثة وتستطيع ان تعيش حياتها كاملة. لكن لماذا اختارت فناناً؟ لأنه رسم اختها سعاد التي عاشت حياتها بالعرض؟ كانت سعاد قوية وزوجها كذلك لكنهما ماتا وبقيت هي، فهل انتقت يوسف لأنه عرف اختها ويستطيع المقارنة بين الاثنتين؟ في مطلع شبابها تحدّت قوة شقيقتها بتصوير مجزرة وهي ترتدي ثياباً عسكرية، وها هي الآن تبادر الى الاتصال بيوسف وتصر في كل مرة على اللقاء الجسدي على الرغم من تعبها وتحاملها على نفهسا وقلة متعتها. عرفت انها لم تحبه لكنها رغبت في الجنس معه "بقوة اكاد لا اقدر ان اتحملها" ص58. كانت "ضعيفة، صاغرة وبلا قوة" معه، ص61، وجلست له على رغم الألم والتشنج لتستجدي بقاءها قربه، ص78. عندما رأت نفسها في اللوحات بدت الروح والجسد المتعبين اللذين لم تستطع الزينة سترهما. لم توحِ الشهوة فلماذا نام معها اذاً؟ بدت متعبة، متألمة، ملتوية ذات ساقين هشين وجسد يفتقر الى التوازن. في اللوحة الأخيرة التي لم ينجزها بدت عادية سوية كأنه "اصلحها" وأعادها كما كانت "كما يريدني ان اكون" ص107. لا نفهم هدف صديقتها جيهان من تحقيق فيلم نصف روائي - نصف وثائقي عنها وأن تحول الى رحلة اكتشاف الذات للمرأة الضائعة المهزوزة الصورة بمساعدة الصديقة. ترى نفسها عبر الآخرين ولا سيما منهم ابنتها ولا تحب ما تراه. كان يكفي ان يتحاشاها يوسف وتخبرها جيهان انه ادرك انها لم تبلغ المتعة عندما التقيا لكي تستفيق فجأة وتعيد النظر. تنسحب الى بيتها وتقرر ترك الفيلم وتقول انه كان عليها ان تحس ان ما اصابها جعلها في موقع التائبات: "ان اقبل بما جرى لي، وأن أذعن له، هكذا مثلما تفعل من تتوب عن فعلة ارتكبتها" ص161. بحثت عن يوسف لكي يعيد المتعة الي حياتها، لكنها دفعت نفسها "دفعاً الى ما لا تستطيعه ... توهمت قوة ليست فيّ ورغبة ليست فيّ كذلك" ص164. لم يخرج جسدها اذاً من غيبوبته، وخسرت وهمها بعودتها الى الحياة على ان الحقائق التي ربحتها لم تجلب لها العزاء. لا امل ببناء علاقة مع ولديها اللذين اغلقا حياتهما دونها بسببها، وإذ تفكر بالعودة الى العالم بعد الانسحاب لا تخطر لها سوى العودة الى السهرات. هل هي السطحية ما تمنعها من اعادة ترتيب حياتها والبحث عن معنى ما، او اختلاط الصورة والماضي "الصحيح" الجميل بالهوية؟ داود لا يسهّل مهمته باختيار بطلة لا تثير التعاطف وتمتنع عن التصنيف الحضاري، فهي خليط من شرقية وغربية ولا دور واضحاً لها في ماضيها يسهّل فهم خسارتها إذا استثنينا الشكل. لا نعرف لماذا وضعت نفسها في موقع التائبات، او حددت نفسها بالاعتماد على نظرة رجل واحد، واحتاجت الى حكمه هو لا مشاعرها هي لتعيد النظر في سلوكها. صديقتها وداد اكملت حياتها من دون رجل، لكن فادية لا ترى بديلاً لحياة من دونه إلا السهرات، ذروة التقنع الاجتماعي، لا تفكر بالمحاولة مجدداً مع ولديها، او البحث عن فرص العطاء والإنجاز التي يفترض ان يشعر بها العائد من الموت، او قدرتها على العيش من اجل نفسها. تستحق ذلك بالتأكيد أعطيت فرصة ثانية، لكنها لا تعد نفسها بشيء وتنتهي الرواية بامرأة محكومة بوحدة مطلقة نهائية ومتمسكة بقناع سخيف. يستشف حسن داود المشهد الخارجي والعالم الداخلي بتفصيل موسع، لكنه يلقي عيناً باردة لا ترحم على شخصياته. ليس التعاطف من مهمات الكاتب، ويستطيع الأدب القيام من دون عنصر الشفقة. ربما كان عليه كتابة سيرة السياسيين.