تدشين مسار «لامة مدر» التاريخي بحائل بالشراكة بين البنك العربي الوطني و«درب»    مقتل 21 مسلحا ..وأردوغان يهدد أكراد سورية    المسعودي رئيسا للاتحاد السعودي للشطرنج حتى 2028    استشهاد فلسطيني متأثراً بإصابته في قصف إسرائيلي شمال الضفة الغربية    مساعد وزير التعليم يدشن في الأحساء المعرض التوعوي بالأمن السيبراني    تركي آل الشيخ يتصدر قائمة "سبورتس إليستريتد" لأكثر الشخصيات تأثيرًا في الملاكمة    بسبب سرب من الطيور..تحطم طائرة ركاب أذربيجانية يودي بحياة العشرات    تدشين أول مدرسة حكومية متخصصة في التقنية بالسعودية    ميدان الفروسية بحائل يقيم حفل سباقه الخامس للموسم الحالي    "التخصصي" يتوج بجائزة التميز العالمي في إدارة المشاريع في مجال التقنية    "سعود الطبية" تعقد ورشة عمل تدريبية عن التدريب الواعي    عائلة عنايت تحتفل بزفاف نجلها عبدالله    "رحلات الخير" تستضيف مرضى الزهايمر وأسرهم في جمعية ألزهايمر    الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد اتفاقية تاريخية لمكافحة الجرائم الإلكترونية    الإحصاء: ارتفاع مساحة المحميات البرية والبحرية في المملكة لعام 2023    ندوة "التدريب المسرحي في العالم العربي : التحديات والفرص" في مهرجان الرياض للمسرح    الفرصة ماتزال مهيأة لهطول أمطار رعدية    "الرأي" توقّع شراكة مجتمعية مع جمعية يُسر بمكة لدعم العمل التنموي    هل هز «سناب شات» عرش شعبية «X» ؟    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائنًا مهددًا بالانقراض    رغم ارتفاع الاحتياطي.. الجنيه المصري يتراجع لمستويات غير مسبوقة    إيداع مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر ديسمبر    السعودية واليمن.. «الفوز ولا غيره»    إعلان استضافة السعودية «خليجي 27».. غداً    أخضر رفع الأثقال يواصل تألقه في البطولة الآسيوية    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    أهلا بالعالم في السعودية (3-2)    العمل الحر.. يعزِّز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    انخفاض معدلات الجريمة بالمملكة.. والثقة في الأمن 99.77 %    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    أمير الرياض ونائبه يعزيان في وفاة الحماد    رئيس بلدية خميس مشيط: نقوم بصيانة ومعالجة أي ملاحظات على «جسر النعمان» بشكل فوري    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير تعليم الطائف ويدشن المتطوع الصغير    وافق على الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة.. مجلس الوزراء: تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    أمير الرياض يستقبل سفير فرنسا    تقنية الواقع الافتراضي تجذب زوار جناح الإمارة في معرض وزارة الداخلية    لغتنا الجميلة وتحديات المستقبل    أترك مسافة كافية بينك وبين البشر    مع الشاعر الأديب د. عبدالله باشراحيل في أعماله الكاملة    عبد العزيز بن سعود يكرّم الفائزين بجوائز مهرجان الملك عبد العزيز للصقور    تزامناً مع دخول فصل الشتاء.. «عكاظ» ترصد صناعة الخيام    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    زوجان من البوسنة يُبشَّران بزيارة الحرمين    تهديد بالقنابل لتأجيل الامتحانات في الهند    إطلاق ChatGPT في تطبيق واتساب    القهوة والشاي يقللان خطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق    القراءة للجنين    5 علامات تشير إلى «ارتباط قلق» لدى طفلك    الدوري قاهرهم    نقاط على طرق السماء    «عزوة» الحي !    أخطاء ألمانيا في مواجهة الإرهاب اليميني    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    عبد المطلب    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    سيكلوجية السماح    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"خان زاده": بيروت مدينة مفتوحة كسائر المدن وأهلها الأكثر انغلاقاً على أنفسهم
نشر في الحياة يوم 28 - 08 - 2010

["انظر الى اضواء بيروت التي تتلألأ عن بعد... بيروت الساحرة من فوق الجبل تتوهج... كيف قويتُ على مفارقتها يوماً؟؟... بيروتية قديمة مثلي تعرف عن المدينة المتوسطية ما لا يستطيع القادمون عليها أن يكتشفوه ولو سكنوا بيروت عشرين عاماً... أهلها غير أهل بقية المدن لا يرحبون بالقادمين الجدد بل يعتبرونهم عبئاً عليها. كم يفرحون عند حلول الأعياد حين يعود هؤلاء إلى قراهم... فيشعرون أن بيروت نظيفة وحقيقية..."]
إن تسمية هذه الرواية ب"خان زاده"، للينة كريدية (عن دار الآداب، في 126 صفحة)، تعطي انطباعاً خاصا للقارئ تدفعه للوهلة الأولى إلى التخيّل بأنها رواية تدور أحداثها حول شخصية تاريخية، نظراً إلى قدم هذا الاسم الذي ينحدر من جذور فارسية، فإطلاق هذا الاسم على الرواية لعب دوراً جذاباً وأضفى عليها رونقاً خاصاً.
لم تلعب خان زاده (الشخصية)، ورغم مكانتها الكبيرة في قلب الراوية، ذاك الدور المؤثر ولم تبدُ، رغم صبرها وحنانها، بأنها كانت "قديسة". بدت خان زاده ككثيرات من "بنات بيروت" اللواتي لم يتزوجن وبقين في بيت العائلة.
ولكن بعد الفراغ من قراءة الكتاب (الرواية الأولى للينة كريدية)، يتساءل القارئ عن السبب الذي دعا مؤلفته، إلى إطلاق "خان زاده" على عنوان روايتها، علماً ان كأس النبيذ، مثلاً، الذي بالغت كريدية في ذكره واستحضاره، احتل حيزاً أكبر من ذلك الذي خصص لعمتها خان زاده... ثم أي قديسة هذه التي لا تترك أثراً يذكر.
بدا التناقض (ولعلّه تناقض بنّاء من جوانب كثيرة)، بدا واضحاً في كمّه ونوعه، إما من خلال الراوية الثملة التي هي نفسها تستشهد بقول لابن القيم الجوزية في مؤلفه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، وإما من خلال حياة العم أسامة الذي قادته الأيام إلى السكنى في منطقة "الزيتونة" ذات الصيت السيء في بيروت آنذاك، بمدى كبير من الانفتاح وصولاً إلى تسكعه وتهتكه، وبين أسلوب حياة أخواته المحجبات.
الراوية التي تنازعها حب خان زاده وتحرر أسامة، هي نفسها التي كرهت الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي. أكان ذلك بسبب بعدها عن "الفضيلة"؟ فالكاتبة صورت العم أسامة بأنه ذلك الرجل الطيب المحب، مع أن الرجال الآخرين الذين كانت لها علاقة معهم أو مع صديقتها صورتهم بطريقة سلبية، فهي لم تبرر مثلاً تصرفات نضال "النسونجية" (بالنساء) المولع بتصوير أصابع أقدامهن.
ثم إن كثرة ترداد موضوع ارتشاف النبيذ والتدخين، تشعر القارئ بأن غرفة الراوية التي تقضي فيها سهرتها في سوق الغرب (من المصايف اللبنانية) تعمها الفوضى وتعبق بضباب السجائر ورائحة النبيذ المتبقي في أعقاب الزجاجات الفارغة.
أكثرت الكاتبة الحديث عن المغامرات الجنسية بشكل مفصل كوصفها الابتكارات الجنسية التي كانت بينها وبين رامي قائلة "... العسل والشوكولا السائلة والكريما الطازجة التي أمرغها على عريه وألعقها بشغف جامح..."، أو وصفها قضيب باسم - الذي كانت صديقتها جيهان على علاقة به - بأنه "متعرج على شكل زيغ زاغ... وأنه هذا الشيء الثعباني الملتوي النحيف".
فجاءت تلك العلاقات في الكتاب جنسية أكثر منها علاقات حب بكل ما للكلمة من معنى، فتعدد العلاقات عند جيهان، مثلاً، أظهرت بأنه نوع من الجنس لا الحب. ولعلّ بيروت الكوزموبوليتية في ستينات القرن العشرين وسبعيناته، والنزوع إلى التحرر والمجاهرة به، هي من الأمور التي أضافت التباساً على الحب والجنس، إلى درجة "انتفاء" العلاقة بين شاب وشابة، آنذاك، في حال غياب أحدهما. ولم يكن مفهوم "الأصدقاء"، friends، على الطريقة الأميركية دارجاً بعد، في هذه البقعة من العالم التي كانت تنشد التحرر بكل نواحيه. وهذا ما نجحت كريدية بنقله.
وتساءلت الكاتبة سؤالاً يدعو إلى الاستغراب: كيف يمكن أن يكون موطئ المرأة مصدراً للذة ومنبعاً للأمومة في آن؟ ولم لا؟ ما المشكلة، في ما لو كان شبق المرأة وأمومتها من موطئ واحد؟ فلو لم يكن هناك شبق لما كانت هناك أمومة (!). أوليست هذه العلاقة وحدها هي التي تمنح المرأة الأمومة؟ وقولها في الصفحة 20 "عندما رفضت خلق طفل" أهي التي تخلق الطفل أم تنجبه؟
هناك بعض الاتهامات أو التهكمات التي أطلقتها الكاتبة تنطوي على شيء من الإجحاف غير المقبول في حق الآخرين، كقولها إن صديقتها روعة التي التقت مرة برامي مع زوجته وابنته - الرجل الثاني الذي كانت الراوية على علاقة معه والذي سبق وأن وصفته بأنه الشاب الهوليودي - وصفت زوجته لمجرد أن لون شعرها أشقر بأنها تشبه داعرات ال10 دولار. فكيف تكون زوجة رامي تشبه الداعرات الرخيصات لمجرد أنها شقراء، في حين تبقى جيهان، لكونها صديقة الراوية بمنأى عن هذا الوصف، علماً أنها قالت وبعدما تركها سمير - الرجل الأول في حياتها - إنها "بدأت مرحلة التخبيص"، مشيرة إلى "جميع الرجال الذين عاشرتهم بعد سمير".
ثم كيف توقع الكاتبة اللوم على غسان، ذاك الرجل المتزوج الذي قضى نزواته مع جيهان لبضعة أشهر، ولم تلم صديقتها التي دخلت في علاقة مع رجل متزوج أصلا؟ أو الحديث عن باسم الذي يدلك كعبي قدميه للمحافظة على نعومتهما، فما المشكلة في محافظة الرجل على قدميه ناعمتين، وما العيب في ذلك؟
إن تحسر الكاتبة بطريقة أو بأخرى على تراجع صديقتها جيهان عن أفكارها اليسارية الماضية وتحولها امرأة متعصبة لطائفتها، جاء متناقضاً مع موقف الراوية منها (وقد ذكرت ذلك على لسان أصدقائها) أن تصرفاتها تفوح منها رائحة البرجوازية القذرة كاقتنائها كلبا، "كلبي المدلل جعلني موضوع سخرية أصدقائنا اليساريين السابقين بحجة أنه معلم من معالم البرجوازية القذرة. ومع الأيام تغير معظمهم حتى أصبحوا أكثر رأسمالية من اليمينيين الاصلاء، بينما بقي الكلب وفياً لم يتغير". فهذا نوع من عدم اللياقة، خصوصاً أن جيهان كانت في عداد هؤلاء الذين غيّروا قناعاتهم وانتماءاتهم... وكذلك يمكن وصف الحديث عن صديقات سابقات في المدرسة "هربن من الدنيا ليحلمن بجنات الخلد في الآخرة".
في شخصية الراوية الكثير من الامور السلبية، كعنادها وتشبثها بآرائها التي أوصلتها في نهاية الطريق الى الندم والبقاء وحيدة. فهي نادمة على ذهاب العمر من دون منزل وطفل واستقرار، وخوفها من الشيخوخة والترهل بقولها "ليس عندي أنصاف حلول إما كل شيء أو لا شيء". فأين مبدأ المشاركة هنا الذي لا بد أنها قد اكتسبته من نضالاتها السابقة وانتماءاتها اليسارية، عندما قالت عن جيهان "إنها تراجعت عن الكثير مما حاربنا لأجله في الجامعة". فأين هي من ذلك؟
لم يُعرف، عند حديث الكاتبة لينة كريدية، عن وفيات العائلة، لماذا دُفنت العمة خان زاده في جبانة الشهداء، في حين أن بقية وفيات العائلة دُفنوا في جبانة الباشورة، علماً أن من عادات العائلات البيروتية الشائعة اعتماد مكان من هذين المكانيين، لدفن جميع أفراد العائلة فيه عند وفاتهم. هل لأن خان زادة كانت مختلفة؟
رغم براعة الكاتبة وحذاقتها في وصفها عادات البيارتة وتقاليدهم برزت بعض التناقضات الجلية. اوليست عائلتها من تلك العائلات البيروتية؟
في صفحة 55، "واكبت البخل الشديد الذي تتسم به أكثرية العائلات البيروتية"، في مقابل حديثها عن كرم البيارتة ص 67: "كان بيت جدي بيت الضيافة والكرم والفرح برغم ضيق ذات اليد... وتهرول خان زاده وصبحية للاهتمام بالضيف ولو بفنجان قهوة وفنجان شاي".
في حديثها عن "أربعة أيوب"، قالت إن "والدها يعتقد أن اختيار الاربعاء في فصل الربيع أتى من غيرة السنة من فصح الروم" - وهذا الكلام لعلّه شعبي وغير دقيق - وأضافت "كان والدي يسعد في طفولته في غير عيدي الفطر والأضحى،في فصل الربيع حين يلحق بالست خروج (والصحيح حدرج) عيتاني، السيدة البيروتية التي كانت تقرر "أربعاء أيوب"، فيجري وراء عربتها المؤجرة ذات الحصانين، الكبار والصغار ليصلوا الى البحر ويأكلوا المفتّقة. هذه الاكلة التي نادراً ما يستسيغها لثقل محتوياتها، غير البيارتة الذين اعتادوا عليها. كان والدي يحب أكلة المفتقة وهي نوع من الحلوى بالخبز العربي".
أكثر الصور والمواقف التي برعت الكاتبة لينة كريدية في نقلها وتجسيدها هي المرأة التي رغم كل شيء تبقى الضحية أولاً وأخيراً:
فها هي خان زادة وأختها قد عنستا بسبب صهرهما الغني، وربما صيت أخيهما اسامة. وها هي خان زادة تضحي لأجله وتتحمل شتائم العاهرات من أجل حبها له، فيما تأخذ أخنها فاطمة موقفاً مغايراً تماما.ً
وها هي روعة التي لم تبتسم لها الحياة ولو مرة واحدة. علاقتها بالرجل مؤلمة، فهي مضحية حتى آخر حدود التضحية، وصبرها على زوجها : العريس الثري الفاشل غير المتعلم، الذي يعاني سرعة القذف... وهي المتعلمة المضحية من اجل أطفالها، تعمل ليل نهار في مصرف.
تعرّض كل من جيهان وروعة و شقيقتها الصغيرة هبة لاعتداءات جنسية الأولى على يد صبية (سحاقية) أكبر منها سناً، والثانية على يد العمّو (صديق الوالد) الذي كان يضعها على الحصان الخشبي الهزاز و"يشد..."، مع الطلب منهما بالتزام الكتمان وعدم البوح ب"سرنا الصغير".
وها هي جيهان تسقط ضحية قناعاتها وانفتاحها فهي تلك المرأة المناضلة المشاكسة التي ضربت بكل العادات والتقاليد عرض الحائط بإقامتها علاقة جنسية كاملة بعدما هشمت "وهم غشاء البكارة" في زمن كان هذا تحدياً سافرا حتى لو كان بالخفاء عن أهلها (علماً أنه بقي حتى يومنا هذا نوعا من التحدي السافر)، من أجل حبها لسمير الذي سافر ولم يعد. وحالت كرامة جيهان دون الالحاح عليه بموضوع الزواج ليعود بعد ذلك مع زوجته. ثم تدفع جيهان الثمن ثانية حين هددها باسم (الآخر) بأنه "سيفضحها أمام كل عائلتها وسيراسل إخوانها الشباب ليتصرفوا معها، وسيجعل سيرتها النتنة على ألسنة كل اهل بيروت"، وكل ذلك لأنها رفضت البقاء معه. ورغم انفتاح جيهان، فهي مثلا تضطر احيانا إلى الاستتار داخل منزلها، لكي تحتسي الكحول بعيداً من المتطفلين، لأن المرأة تبقى دوما مكبلة.
وها هي زوجة جد الراوية تدفع ثمن العادات والتقاليد وجمالها، فلمجرد خروجها الى السوق يطلقها زوجها (كانت تنتعل القبقاب ذا الطقّة العالية، تفوح من حولها رائحة العطر والبخور وتسبقها رنة خلخالها الفضي تختال بمشيتها المغناج). وها هم اهل الشاب الآخر الذي تقدم ليطلب يدها إثر انقضاء "عدّتها" يشعرون بالغصة لأنها مطلقة. وكأن غشاء البكارة سيؤثر في قيمة المرأة، علما أن الرجل يكون قد خاض آلاف التجارب، وخير دليل على ذلك مثلاً، العم اسامة ونضال وغيرهما من "ذكور" الرواية.
دفعت الراوية نفسها، وبسبب أفكارها، الثمن. فاكتفت بوحدتها، فرامي مثلاً، لم يستطع التخلي عن شرقيته في فكرة "الاستحواذ" على المرأة ، وكيف ان المرأة، ورغم معرفتها بخيانة رجلها لها، بسبب روائح الاخريات التي تفوح من جسده... تبقى لا تملك دليلاً على خيانته.
وها هي جيهان تتراجع عن شعارها القائل "لا ينسى الرجل الا برجل آخر"، واعترافها بصعوبة أن تعيش المرأة مستقلة فهي تجسد "ارتباطية" دائمة بالرجل.
المراة حين تبلغ سناً معينة تصبح غير صالحة للزواج في مجتمعاتنا، مع ان الراوية تقول ان المرأة في سن ال50 تثور شهوتها. وهذا إن دل على شيء فيدل على أن المرأة تزوّج لتنجب أولاً وأخيراً.
المقاطع الأبرز التي تُمتع القارئ، البيروتي والوافد والباحث، تلك التي صورت الكاتبة لينة كريدية فيها العادات البيروتية بطريقة رائعة، وهنا مقتطفات منها نقدمها مادة خاماً، كما في الرواية، للقارئ ومخيّلته:
"أربعة ايوب" وتحضير الكفن والصرما التركي لزوم الموت والدفن، والطبخ القديم بكل أشكاله واللهجة الغميقة التي لم تعد تداريها كما كانت تفعل في ايام الشباب.
انظر الى اضواء بيروت التي تتلألأ عن بعد... بيروت الساحرة من فوق الجبل تتوهج... كيف قويتُ على مفارقتها يوماً.
بيروتية قديمة مثلي تعرف عن المدينة المتوسطية ما لا يستطيع القادمون عليها أن يكتشفوه ولو سكنوا بيروت عشرين عاماً.
فكرة أن بيروت مفتوحة كسائر المدن... لأننا نعرف أن أهلها هم الأكثر انغلاقاً على أنفسهم. بيروت بطبيعتها الجغرافية المحاصرة بالبحر والمطار والجبل والمنطقة الشرقية تعود ضيعة في هذه الأوقات وتتقوقع على عائلاتها وتقاليدها وترتاح من الغرباء الذين يُعرفون على الفور من أسماء عائلاتهم.
أهل هذه المدينة غير أهل بقية المدن لا يرحبون بالقادمين الجدد بل يعتبرونهم عبئاً عليها. كم يفرحون عند حلول الأعياد حين يعود هؤلاء إلى قراهم فيشعرون أن بيروت نظيفة وحقيقية وأنها لنا لأهلها الحقيقيين.
حال الكثير من البيارتة انهم يسعون الى معرفة لقب كل عائلة لمعرفة أصلها ومن ثم المنطقة ورقم السجل لتعرف أقدميتها ومستواها الاجتماعي، وهم لا يحبون التزوج إلا من محيطهم، ويصيبهم الخروج من هذه الحلقة بغصة.
حماة أحد أبواب بيروت السبعة أي أنهم من العيل السبع وهذه مفخرة للبيارتة وإن لم يجاهروا بها.
سبب النفور من غير البيارتة عائد الى نظرية ترييف المدن. النازحون إلى مدينتنا لا يحبونها غالباً ولا يبغون الاستفادة من المدنية. على العكس، هم يريدون تحويل هذه العاصمة إلى قرية أخرى. عند اشتداد الازمات لا يبقى في بيروت سوى اهلها الاصليين. من لا قرى لهم يلوذون بها.
البيت القديم ذو القرميد الأحمر والدار الفسيحة التي تتفرع منها جميع غرف البيت، من غرفة المسافرين وغرف النوم والمطبخ وحديقة تحيط بالدار فيها شجرة أكي دنيا وياسمينة عجوزة تورف بظلالها على جلسة جدتي المفضلة وأصص نباتات أسماؤها متعارف عليها..... كحلق الست ولسان الحماة وفم السمكة، وشجرة الفتنة تسعدها حين تزهر فتزين صحن نارجيلتها بأزهارها البيضاء والصفراء.
تلجأ جدتي الى تدخين نارجيلة تنباك عجمي في الحديقة بظل شجرة الفتنة والياسمينة. كان لجدتي طقوسها في تزيين صينية القهوة من ركوة وفناجين وقماشة بيضاء مفرغة ومطرزة مزخرفة بأزهار منمنمة صغيرة حسب الموسم ياسمين أو زهر الليمون أو فل من شجيرات الاحواض الصغيرة المتناثرة على جوانب السور.
كان جدي بطربوشه الاحمر العثملي يساهم في تعليم فقراء المسلمين في القرى مع جمعية المقاصد الخيرية.
... وتحتل ذكريات الطفولة حيزاً كبيراً في كتاب كريدية
بيروت مدينتي التي ترتفع فيها المباني كالفطر في ليلة استوائية ممطرة لم أعد أميز معالم شارع الحمرا هذا الشارع الذي اصبح يشابه أي شارع آخر حين انقرضت مقاهيه الحميمة الرخيصة وسيطرت عليه السلاسل التجارية العالمية والمقاهي الاستعراضية. حتى منطقة المصيطبة الشعبية اكتظت بالابنية الضخمة والسكان كعلب السردين.
منظر غروب الشمس في بحر بيروت حزين في كل الفصول. في طفولتي كانت اجمل نزهاتي مشوار الروشة والتمشي وصوت البحر صوت ارتطام موجاته على الصخور. كنا نتمشى هبوطاً صوب ملعب كرة القدم الخاص بنادي النجمة ومقهى شاتيلا مروراً بفنادق حديثة ضخمة وفخمة كالريفييرا والكارلتون لنصل الى آخر الخط البحري عند جامع المريسة .
أتذكر ألسنة النار المتصاعدة من فندق الهوليداي إنْ والفينيسيا.
في طفولتي كانت خان زاده تأخذني مع روعة وجيهان الى حديقة الصنائع فتستأجر لنا دراجات هوائية وكانت تحلي لنا سنونِتْنا أي (اسناننا) ب"الصبابيط"، وهي حلوى على شكل حذاء، وبعده بملبس على قضامة وبنبون معلل وعلكة مسكة. تشتري لنا احياناً نعومة وهي غبرة القضامة مع السكر الناعم وتوصينا بالتمهل في اكلها خوفاً علينا من الاختناق.
كان منزل العمات أي منزل خان زاده هو الملاذ لتبديد المال. كلما مر بائع متجول نقرر تجربة مأكولاته. نبدأ العيد بالتجارب مع تحفظ روعة ولكننا نجرها معنا الى بائع "الكلاوي يا فول" بحباته الكبيرة وقطع الحامض السميكة مع اللب. ثم يمر قرب المنزل بائع الكبيس الاحمر خاصة اللفت فنشتهيه ونأكله بتلذذ رغم تنبيهات الاهل الى وساخة الكبيس وتلوث المياه المستعملة فيه، ولكن عبثاً. ثم يأتي بائع الكرابيج وهو يحمل سطلاً أحمر فيه الناطف فننفعه ايضاً. وبائع التفاح المعلل يجذبنا بلون الصباغ الارجواني عل رغم الذباب الحائم الذي يكشه... والفريسكو أي الثلج المبشور فنشتري من البائع ويغشنا بوضع القليل جداً من الليموناضة او أي صباغ آخر من دون طعم... وما ان يأتي موعد الغداء حتى تبدأ أعراض التسمم والالام بالظهور.
كان والدي دائماً المبادر لكل فرحة وفي كل مناسبة يمكن ان تجمع أكبر قدر ممكن من عائلات الأصدقاء فيعلن أن يوم الاحد القادم هو نهار ربيعي جميل ويجب علينا استغلاله سنذهب جميعنا لقضاء يوم في البرية والويل للمتخلف. فتمتلىء السيارات بالكراسي وبلحوم المشاوي وعلب التبولة والحمص بالطحينة وكل لوازم النزهة من فحم ونراجيل وغالونات ماء شرب وما إلى ذلك... حبه لبيروت بكل تفاصيلها منعه من الابتعاد عنها.
كان العم اسامة يطلب من امي الكاتو فتحضر له الصفوف وهي نوع من الحلوى البيروتية.
ولم تبخل كريدية في نقل طقوس الموت والحزن عند البيارتة:
تتحسر أمي منذ فترة على أنها لم تفعل ما تفعله بعض العائلات الكبيرة في بيروت وتشتري كفنها من السعودية لكنها أخبرتني بإمكانية شراء الكفن الدمشقي الفاخر من مؤسسة المقاصد لدفن الموتى وهي المؤسسة الوحيدة المسؤولة عن خدمات موت أفراد العائلة.
أمي مثلها مثل جميع البيارتة توصينا بما يجب أن نفعله بعد موتها.
حتى بعد الموت يحرص السنة على "برستيجهم"، أكثرهم حرصاً وبخلاً يضطر لدفع ثمن باهظ لخدمات الدرجة الاولى حتى لا تلوكه الالسنة.
أمي وبالرغم من حزنها الشديد على الميت تهتم بكل التفاصيل تعمل للمتوفى قيمته. تنبه عمي إلى ان يحرص على الصرما وألا ينساها في المقبرة فهم السابقون ونحن اللاحقون. وتنسق مع عمي الكبير أمور العزاء خاصة ما يتعلق بالطعام الذي اعتاد البيارتة أن يطلبوه من مطعم معين في الايام الثلاثة الاولى من العزاء بالاضافة (ليوم) الأسبوع.
ترمي أمي يميناً معظماً على الأهل والأصدقاء أن يأكلوا من سفرة الميت وبالرغم من حنق معظم البيارتة على غلاء السفر الممدودة لم أعرف عائلة واحدة امتنعت عنها وقرنت القول بالفعل.
عمي الصغير مختص باستخراج وثيقة الوفاة فوراً من الطبيب الشرعي وفتح مقبرة العائلة كذلك طبع ورقة النعوة وهي من اختصاص مطبعة واحدة تقع مقابل جبانة الباشورة بالاضافة الى الاتفاق مع الشيوخ قرّاء القرآن وشراء الكفن.
كل المشايخ الذين يأتون للقراءة عميان فعندما يولد طفل أعمى في بيروت يكون أهله أمام خيارين لا ثالث لهما إما تعليمه تقشيش كراسي السبَيْدران (أي الخيزران) القديمة أو تحفيظه القرآن ليكسب عيشه. تراهم يهزون أكتافهم الى الامام والوراء منشدين بأصوات لا تخلو في أغلبها من نشاز. قديماً كان أغلب البيارتة يشعرون بالعار إذا كان لديهم طفل معوّق ومصاب بمتلازمة سندروم. فيخفونه عن الانظار خشية أن يتردد طلاب الزواج في مصاهرة مثل تلك العائلة، خوفاً على النسل، وبالتالي يبقى معظم بنات هذا المنزل عوانس يخدمن إخواتهن.
يختلف سكان منطقة رأس بيروت وعين المريسة في هذا الأمر حيث يعاني عدد منهم من أمراض متوارثة لأنهم لا يتزوجون إلا في ما بينهم خوفاً على ممتلكات العائلة من الغرباء ويروى عن أهالي منطقة بيروت المواجهة للبحر روايات مضحكة، فأيام احتلال الدولة العثمانية شكّل أهالي عين المريسة وفداً لزيارة الوالي وكان الهدف من الزيارة الشكوى على الشمس فهي تشرق في وجوههم حين يخرجون إلى العمل صباحاً وتغرب في بحر بيروت فتضايقهم في عودتهم. قهقه الوالي حين تلقى الشكوى.
وعندما توفي العم اسامة ابت امي الا ان يخرج نعشه من بناية العائلة بكل الطقوس ال متعارف عليها طقوس الموت البيروتية المتوارثة لحفظ ماء الوجه لم تسمح أن يغسله عمي أبو رامي في مستشفى المقاصد وأصرت أن يعود إلى منزله منزل العائلة الكريمة ولم تسمح أن يكون العزاء في إحدى الخليات لان البيوت للاتراح والافراح. اطمانت امي لكافة التفاصيل اكثر من أي شخص آخر من عائلته وراقبتها بدقة بدءاً من اعطاء المغسلين زجاجة ماء زمزم وانتهاء بالاطمئنان الى ان الكفن من افضل الانواع. ولحقت بعمي ابو رامي ليضع على النعش الصرما التركية القديمة المتوارثة تلك القطعة المربعة من المخمل المطرز بخيوط الذهب، أو ذات اللون البنفسجي الذي بهت لقدمه، والمطرزة على شكل زهرات متصلة ومنفصلة على الزوايا الأربع والتي تدل على مستوى العائلة البيروتية ومدى اصالتها. تم ايضاً وضع الطربوش العثماني الاحمر لمعرفة أن المتوفى ذكر وليس أنثى.
صلوا على جثمانه في الجامع المقابل ووري الثرى في جبانة الباشورة مثله مثل اي فرد من عائلتنا وكواحد من اعيان بيروت.
تذهب امي الى المقبرة، جبانة الباشورة، لتزور والدي كل يوم جمعة حاملة أي نوع من الازهار البيضاء ونبتة الايس التي تزين قبور المسلمين عادة يلحقها دوماً المشرفون على القبور بأباريق الماء فيغسلون لها الشاهد والرخامة البيضاء لتبقى دائماً نظيفة خلال ايام الاسبوع وتمنح الجميع الهبات الكريمة تقرأ له آياتمن القرآن الكريم خاصة سورة يس.
رواية "خان زادة" شريط ذكريات دائرة في خلد الكاتبة لينا كريدية جاءت في استرجاعات مبعثرة، قد تجهد القارئ أحياناً، بانتقالها من حدث إلى آخر دون انتهائها منه لتعود إليه مرة أخرى، ص 124، حين أخبرتنا بوفاة والدها عادت في ما بعد لتحكي لنا عنه: "... عندما يعود الى البيت...). ومع ذلك.....
تبقى "خان زاده" فريدة متنوعة بل باقة ورد متفتحة في بستان مجتمع منغلق حتى أبعد حدود الانغلاق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.