دعونا نبدأ من جديد... هل كانت غواية الموت هي التي تتجدد في ذكرى مصرع بيار باولو بازوليني الثامنة والعشرين التي تمر في مثل هذه الأيام؟ وهل كان هو من يقف شاهداً وحيداً على مصرعه وهو قريب الى هذا الحد من الوهم الكبير في بحثه عن منعتق في تحرير حساسية التاريخ من زمن مارق ومن صدأ الطمأنينة المخادعة، كما كان يراها، وهو يؤكل بلذة على مائدة الفاشية الجديدة، التي كانت تبحث هي أيضاً في مروقها عن لغة تنخيب غير مقبولة تتجلى في شكل أكثر إيلاماً عبر الميدولوجيا المعاصرة وهي تسهم بهذا القدر في توحّد المظاهر الشبابية في العالم وتوحيدها بصفتها تلك الثقافة الماكرة... والشعبية...!! بازوليني 1922 - 1975 يُقتل قبل ثمانية وعشرين عاماً بطريقة آثمة ووحشية، فتكتمل أعماله السينمائية كلها في لحظة واحدة، هي لحظة الفناء الرمادية التي لم تقبل تفسيراً واحداً لها في حياته، كما كان يرى مدفوعاً بالإلهام الشعري في نظريته الواحدة عن المشهد - الكادر، حتى انه وقف في سيلان الكلام والصورة ضد المونتاج بصفته الدافع لهذه اللحظة الرمادية. لغة الفيلم الشاعري ورموزه المعقدة والدلالية تصبح لغة غير قابلة للترجمة عنده، فهي لغة مهددة بالعصيان، لأنها لم تكن مجرد اختلاقات نظرية ترسم دوائر في الماء الساكن ثم تتلاشى ويعاد انتاجها، فقد رأى أومبرتو إيكو انها لا تقيم أنساقها الصورية بطريقة علمية، بل هي تكتفي بالحدس، وبرهة الأيقونات الحيّة التي طالما نظر اليها بازوليني في كتاباته السينمائية وأفلامه. وإذا كان قلق بازوليني وخوفه المستطير من طوفان الاعلام في المجتمع الغربي الحديث قادا خطاه باتجاه الاستغراق الكلي في بداهات الشرق وتخلفه الى حد انتاج افلام مدهشة فيه "أوديب ملكاً" صور في أجزاء منه في فلسطين - وكذلك الأمر بالنسبة الى "انجيل متى" - أما "ألف ليلة وليلة" فقد صور في اليمن وأثيوبيا - و"ميديا" صورت أجزاء منه في قلعة الحصن في سورية، حتى ان غلور روشا قال ان بازوليني كان يبحث عن عذر لانحرافه في العالم الثالث.....!!، لكن فن بازوليني المقلق يتجاوز أعراف هذا القول، فهو مثل طيب الجسد المعجزة يندفع الى نهاياته القصوى، كما في فيلم "ألف ليلة وليلة"، أو مثل عنف الجسد كما في "سالو"، إذ يصبح الجسد المتخيل هنا مبخرة أمام جوقة فاشية تحكم مدينة مفترضة، وتخرق في لعبها الحيواني الأسود كل ما هو مألوف انسانياً، وكأن بازوليني يندفع بعصابه الجهنمي الى الحد الأقصى، وهو يدقق وحيداً في خواء الفاشية المدرك، والتي تنتقم لنفسها من الثقافة الأصيلة فتصنع كل هذه المظاهر الجماعية التي تنتشر بين الشباب بيسر ويبشر بها أنجيليو الإعلام الحديث. ومع إن إيتالو كالفينو رأى ان اهوال الفاشية لا يمكن تقديمها بطريقة متخيلة كما في فيلم "سالو"، فإن رولان بارت ميّز بين النظام الفاشي بصفته ظاهرة تاريخية موقتة، وبين جوهر الفاشية التي يمكنها الانتشار في أي وقت، فإن بازوليني بخلطه بين هاتين الظاهرتين استطاع تشويههما، وهو يلاحظ - أي بازوليني - في نيسان ابريل 1975، قبيل مقتله بأشهر انه يتجاوز الحدود، ذلك انه سواء أحبّ نفسه كما يرى مورافيا في "ألف ليلة وليلة"، أو عذّب نفسه كما في "سالو"، فإنه يظل ذا حدس شعري فخم ومبجّل وأنويته المتشققة لا تنوي الاستئثار بعداوة متخيلة. ففي ديوانه الشعري "رماد غرامشي" وفي قصيدة "نعي" يحاول أن يؤثث من أنويته بعداً تراجيدياً في النص نفسه لا من خارجه، وهو إذ يصل في نهاية المطاف الى شكلانية مرصودة، فكأنه يضع حداً لعذاباته باكتمال موته المفجع، وهو اعتاد في أفلامه تجاوز اللغة بعنف موصوف ومحاكاة أنويته المهددة دوماً بعدائية صرفة. هذا الحدس المفترس جعله الأكثر اختلافاً بين المخلوقات الحية كما يراه والتر بنيامين، وهو صاحب أكثر الأصوات نبوءة وتطرفاً في قرننا الماضي... حقاً، فقد لعبت والدته سوزان بازوليني دور السيدة مريم في "انجيل متى"، فتبكيه بحرقة، وتخفيه في دموعها ولم يكن لشيء معها ان ينقذه سوى الرغبة في أن يباد... اذاً دعونا نبدأ من جديد، فما أعذب الغرق في البحر..!! كما في خاتمة نعي... هكذا تماماً يبدأ بازوليني ويموت.