من الصعب القول اليوم، إن في الإمكان اعتبار فيلم «أوديب ملكاً» للإيطالي الراحل بيار-باولو بازوليني، واحداً من اهم افلام هذا السينمائي/ الشاعر/ الناقد، الذي عرف كيف يشغل الحياة السينمائية والثقافية، بل حتى السياسية الإيطالية طوال عقود، امتدت الى ما بعد رحيله ضحية لجريمة وحشية أواخر العام 1975. فالحال أنه حتى وإن ظلّ «أوديب ملكاً» الأشهر بين أفلام بازوليني، فإنه ليس الأفضل بأي حال من الأحوال. ومع هذا، للفيلم مكانته الأساسية، ليس تحديداً في فيلموغرافيا مخرجه، بل في سياق الأفلام السينمائية التي اقتبست في القرن العشرين عن مسرحيات تنتمي الى الأدب اليوناني القديم. ويأتي هذا خاصة من كون معظم ما اقتُبس في هذا السياق جاء بعيداً من الروح الحقيقية لتلك الأعمال. اما مع بازوليني، فإنه بمقدار ما ابتعد العمل، ظاهرياً، عن مسرحية سوفوكليس العتيقة، بدا مقترباً من القرن العشرين، في اعادة تفسير خلاّقة تذكِّر في السياق عينه بما فعل بازوليني نفسه حين حقق فيلمه الرائع «آلام السيد المسيح بحسب القديس متى»، حيث من المعروف ان المبدع السينمائي استخدم السياق التاريخي ليقول من خلاله اختيارات معاصرة. ولئن كان ثمة من بين اللحظات البصرية التي تميِّز فيلم «أوديب ملكاً» ما يبقى منطبعاً في ذهن المشاهد وذاكرته الى فترة من الزمن طويلة، فإنما هو ذلك المشهد الذي إذ يصل فيه أوديب الى مدينة طيبة بعد غربته الطويلة، يجد الشوارع خالية من السكان، وهؤلاء خائفين، فيسأل عما يحدث ويقال له على الفور بأن وباء يستشري ناتجاً عن الوحش (أبوالهول) الذي يرعب الناس ويدمّرهم بطرح لغز عليهم لا ينقذهم من الهلاك الا الإجابة عليه (وهو اللغز الشهير حول الكائن الذي يمشي على أربع ثم على اثنتين ثم على ثلاث)... وطبعاً نعرف ان لا أحد تمكّن حتى لحظة وصول أوديب من حلّ اللغز. فما الذي يفعله أوديب هنا ؟ في المسرحية يحلّ اللغز، أما في فيلم بازوليني، فإنه يركض ويركض حتى يصل الى مكان مرابطة الوحش، وما أن يصل اليه حتى ينقفه نقفة بسيطة بإصبعيه، يقع الوحش على أثرها وبفعلها مهزوماً فتنقذ منه المدينة. لقد أردنا هنا ان نبدأ حديث الفيلم بهذا المشهد، لأنه – في عرفنا – يشكل تبديلاً اساسياً بازولينياً في السياق، يضع الفيلم في اطار مغاير تماماً لإطاره القديم. حيث بالنسبة الى بازوليني ليس المطلوب حل اللغز بقدر ما أن المطلوب هو قهر الخوف، وذلك بكل بساطة لأن حل اللغز حتى وان خلّص المدينة من الوحش معناه الخضوع لمنطق الخوف، فالخوف وليس اللغز هو المشكلة والمأساة، وعلى هذا، وبالسياق الذي اختاره بازوليني هنا، تكمن عصرنة اساسية- وإعادة تفسير للعمل القديم تضعه في الخط السياسي والإنساني الذي كانته الفكرانية البازولينية . ومهما كان من الأمر هنا، من الواضح ان تفحصاً لهذا الفيلم بالمقارنة مع النص الإغريقي القديم، سيضعنا امام ذلك النوع من الفروقات الجذرية التي ستقول لنا في نهاية الأمر إن بازوليني (مثل غيره من كبار مبدعي السينما، الذي فعلوا ما فعل عندما اقتبسوا أعمالاً روائية او مسرحية او حتى أحداثاً تاريخية)، لم يكن همه ان يستقي تلك الأعمال كي يحوّلها الى الفن الجديد الذي كانته السينما، بل كان همّه اولاً واخيراً ان يدخل في روح العمل القديم، معيداً الاشتغال عليه ليس شكلياً او أسلوبياً فقط، بل في المضمون الفكري والرسالة أيضاً. وفي الأحرى، قد يكون علينا ان نقول هنا أيضاً إن «أوديب» بازوليني لا ينتمي فقط الى العصور الجديدة، بل كذلك الى محاولات التفسير العديدة التي طبعته في العصور الجديدة، ولا سيما محاولات المحلل النفسي المؤسس سيغموند فرويد، الذى بنى جزءاً اساسياً من نظرياته في التحليل النفسي على اعادة تفسيره الخاصة لأسطورة أوديب، مركِّزاً على ما سوف يشتهر طوال القرن العشرين باسم «عقدة أوديب»، بل إن بازوليني لم يكتف بهذا، اذ نراه في مشاهد الفيلم الافتتاحية، وكذلك بعد قرابة الساعتين، في مشاهد الفيلم الختامية، يصل الى حد إدخال أوديب كشخصية وحكايته في الزمن الراهن، حيث نجده، بعد ختام مغامرته ومأساته المعروفة، وقد فقأ عينيه بنفسه عقاباً له عمّا اقترف من قتله أباه واقترافه المحرّم مع امه، نجده مصحوباً ليس بابنته أنتيغون كما في المسرحية والأسطورة القديمتين، وليس في طيبة الإغريقية، بل في روما المعاصرة، متجهاً الى أحياء العاصمة الإيطالية المعاصرة برفقة الصبيّ الصغير. ان من الواضح هنا ان بيار باولو بازوليني، الذي حقق هذا الفيلم في العام 1967، اي في قلب الزمن الذي كان، من ناحية، يشهد اندلاع ثورات الشباب والطلاب والطبقات المهمشة، نضالياً وسياسياً وفي الذهنيات ايضاً (ضمن إطار ما بات يُعرف لاحقاً بصراع الأجيال)، كان يريد من فيلمه هذا ان يكون – كما حال تحفته عن آلام السيد المسيح وقد عُصرِنت بدورها لتعطي مؤسس الديانة المسيحية سمات المناضل الثوري الذي يدور من بلد الى بلد في فلسطين القديمة داعياً الى الثورة على الظلم وعلى تجار المعبد- اداةً نضالية على المستوى الفكري على الأقل. وفي هذا السياق، لا بد من القول إن نجاح السينمائي المناضل كان كبيراً طالما اننا نعرف ان رسالته وصلت، غير ان ذلك النجاح الفكري والنضالي لم يواكبه نجاح جمالي وسينمائي يجدّد من خلاله النجاح الفني الذي كان من نصيب افلامه السابقة. ولعل السبب الأساس هنا يرتبط بمبالغة بازوليني مخرجاً، وكاتبا ايضاً، في إضفاء ذلك الطابع التفسيري الفرويدي على العمل، إذ بالنسبة الى كثر من النقاد – ومن المتفرجين ايضاً طالما ان جمهور متفرجي ذلك النوع من الأفلام كان ولا يزال جمهوراً نخبوياً، حتى وإنِ اتسعت النخب كثيراً منذ ذلك الحين -، اتت العصرنة مفتعَلة غائية اكثر مما اتت عفوية كما كان يجدر بها ان تكون. وعلى هذا النحو، حتى وإن اتت عصرنة المسرحية وأسطوريتها فكرة جميلة وخلاقة، فإنها اتت في الوقت نفسه خطّية تكاد في كل لحظة تبدو من خارج السياق المنطقي لروحية الفيلم ومضمونه، ولاسيما في البداية والنهاية (اي في مشهد الرجل الذي إذ يصل الى الشاشة يرفع سيفه ليقتل الطفل الذي يرافقه، والذي كما في الحكاية سيكون أوديب لاحقاً، الى مشهد النهاية في الضاحية الرومانية الحديثة). مهما يكن من امر، فإن «أوديب ملكاً» لن يكون الفيلم الوحيد الذي اقتبسه بازوليني عن عمل مسرحي قديم، بل حتى عن اعمال ادبية اكثر او اقلّ قدماً. وفي هذا السياق، لا بد من ذكر الفيلم الذي اقتبسه عن مسرحية «ميديا « خصوصاً كي يدير صديقته مغنية الأوبرا الشهيرة ماريا كالاس في واحد من ادوارها السينمائية النادرة، فكان في هذا الفيلم أكثر توفيقاً بكثير مما كان في «أوديب ملكاً». اما التوفيق الأكبر الذي كان من نصيب عمله السينمائي، فكان مع الثلاثية التي حققها في السنوات الأخيرة من حياته، والتي أطلق عليها اسم « ثلاثية الحياة»، وهي تتألف، كما يدل اسمها، من ثلاثة افلام اقتبس بازوليني كل واحد منها عن واحد من اعظم الأعمال الأدبية الشعبية في تاريخ الفكر الإنساني: «ديكاميرون» الإيطالية، «حكايات كانتربيري» الإنكليزية، و «ألف ليلة وليلة» العربية. عاش بيار باولو بازوليني، الذي ولد في بولونيا في الشمال الإيطالي، بين العام 1922 والعام 1975، العام الذي قتل في خريفه ضحية لجريمة ارتكبها رفيق له في أحياء اوستيا البائسة غير بعيد من روما، وهي جريمة ضجت لها ايطاليا في ذلك الحين. وكانت شهرة بازوليني كبيرة في وطنه كما في العالم كله في العديد من انواع الإبداع التي خاضها. غير أنه كان كسينمائي اكثر شهرة منه في اي مجال ابداعي او فكري آخر. وهو بالإضافة الى ذلك، كان يكتب مقالات صحفية بصورة منتظمة يغلب عليها الطابع السياسي والفلسفي. ومن بين افلام بازوليني التي تعتبر علامات في تاريخ الفن السابع في ايطاليا وفي العالم، اضافة الى ما ذكرنا: «أكاتوني» و «ماما روما» و « الموت» و «عصافير كبيرة وعصافير صغيرة» و «سالو»، الذي كان من آخر ما حقق ويُعتبر من اهم الوثائق السينمائية الروائية ضد النازية والفاشية. [email protected]