عند رحيله مقتولاً عام 1975، كان في الثالثة والخمسين من عمره. رحل قبل الآوان بحسب الجميع، الا ان بيار باولو بازوليني ترك الى جانب افلامه السينمائية، اعمالاً ادبية تتضمن الشعر والرواية والمسرح والمقالات والابحاث النقدية وعدداً كبيراً من اللوحات التشكيلية. وها هي ايطاليا تحتفل بالذكرى ال25 لرحيله، بإقامة مهرجانات سينمائىة وندوات وأمسيات شعرية. وأبرز ما سيقدم في ذكرى اغتياله التي صادفت امس عرض خمسة مخرجين شباب خمسة أفلام سينمائىة يتفاوت طولها ما بين 4 دقائق و60 دقيقة، مأخوذة عن بعض افلامه السينمائىة برؤية فنية جديدة، يسعون من خلالها الى بورتريه شخصي لهذا الرجل الذي كلما طالت سنوات رحيله كبرت شخصيته وعظم ابداعه. انها رحلة في اعمال بازوليني السينمائىة والشعرية والكتابية، كأنها رحلة مع "قديس متمرد" لكنه حالم على الدوام. سيقدم هذه الاعمال كل من الفنانين تاتي سانيونيتي وساندرو فيرونيزي. والمخرجون هم برونو بيكوني الذي سيقدم فيلماً قصيراً بعنوان "احتفالات في العشق" مأخوذاً عن فيلم لبازوليني صوره عام 1963 عن ظاهرة الجنس والاثارة الجنسية في ثقافة المجتمع الايطالي ومكانته الاجتماعية في الطقوس والعادات والاخلاق لأناس كانوا يعيشون حياة قلقة مهددة على كل المستويات في مجتمع يمر بمرحلة انتقالية وتختلف امكاناته ويختلف قلقه امام واقع المتغيرات. الفيلم الثاني "الميت الذي يتكلم" من اخراج دانيله فيكاري، مأخوذ عن فيلم بازوليني الذي يحمل اسم "لا ريكوتا" جبنة زهرة الحليب الذي اخرجه عام 1963، وهو رحلة رجل من الطبقة العاملة الرثة يقوم ببطولته عامل بناء اسمه ماريو شيبرياني، اختاره بازوليني ليمثل الدور، وبعد انجاز الفيلم عاد عامل البناء الى ممارسة مهنته الاولى. القصة تعتمد محاولة هذه الشرائح الاجتماعية ممارسة طقس التأهيل من مرحلة العدم الى مرحلة الغنى والثراء. والمخرج فيكاري يجلب عامل البناء العجوز شيبرياني ليقوم بالدور نفسه مرة اخرى. الفيلم الثالث "تجارب صغيرة من اجل مجزرة" للمخرج كويدو كيزا، مأخوذ عن آخر افلام بازوليني "سالو" الذي اثار ردود فعل عنيفة في نقل اقصى صور البشاعة على سطح الشاشة معتمداً رواية الكاتب الفرنسي الماركيز دي ساد 120 يوماً في سادوم. ويتناول فيه حياة مجموعة من القادة الفاشيين الايطاليين المقيمين في احد القصور الريفية المنعزلة، ليمارسوا تعذيب الصبايا والفتيان بهدف ارضاء نزواتهم المريضة والشاذة. الفيلم الرابع "سيان سواء أكانوا أحياء أم أمواتاً". وهو فيلم قصير جداً من اخراج جان لويجي توسكوفوندو، يعتمد مجموعة من قصائد بازوليني الذي استطاع ان يحقق مزواجة رائدة بين السنما والشعر. وعلق كثير من النقاد على ان من لا يقرأ اشعار بازوليني لن يكون قادراً على فهم اعماله السينمائىة، بل ستضجره هذه الافلام. وبالفعل استطاع بازوليني ان يحقق هذه المزاوجة التي اعتدمت الاساطير ورموزها. والشعر عند بازوليني "كتابة للتغيير دائماً". وبهذا تميز عن غيره من شعراء عصره من الايطاليين، بالانفلات من الحدود الزمنية، لأنه سعى الى تجسيد قضية الانسان الايطالي ضمن واقع متشابك. الفيلم الخامس "الغضب"، وهو العنوان نفسه لأحد افلام بازوليني، لدافيد فيراريو الذي اخرجه مع مجموعة من شباب احدى الضواحي الشعبية في روما. ويرى هؤلاء تجاربهم الحياتية وسط عالم متغير لا يسوده استقرار. والفيلم موجه ضد الثقافة التي تشيعها البورجوازية في جيل بازوليني. وبعد جيلين على رحيله، يجيء المخرج الشاب فيراريو ليقدم عملاً جديداً بالمضامين القديمة نفسها وليصور الواقع الراهن وهو يحمل معان التعصب والبربرية. ظل بازوليني منذ تجربته السينمائىة الاولى في فيلم "اكاتونه" الذي كتب له السيناريو واخرجه عام 1961، وحتى آخر افلامه "سالو" عام 1975، يزاوج بين اقتناعاته الايديولوجية ذات الطابع الغرامشي، ومعتقداته الدينية، ويناضل من اجل انقاذ الانسان من الانحدار والخطيئة. ولم تكن شيوعيته شيوعية المكاتب الحزبية، ولم يكن ايمانه قبو الكنائس والكاتدرائىات. كان رجلاً غارقاً في حقائق زمانه، وقد جسد ذلك في فيلم "انجيل متي" عن حياة السيد المسيح وقد جعل امه تقوم بدور مريم العذراء، فيما اوكل دور الى شاب عادي جداً ذي ملامح شرقية من احدى الضواحي الاكثر فقراً في مدينة روما. وظلت السينما له بمثابة ترجمة لاجواء قصائده الشعرية لتكون نصوصاً مرئية، وقد افلح في اشاعة هذا التأثير، إذ وضعنا افلامه على الدوام في مواقع قريبة جداً من عوالمه الشعرية، وساعدتنا على ان نتلمسه وهو يرينا ضراوة البورجوازية وعلاقاتها المتعفنة كما في فيلم "حظيرة الخنازير".