إلى أي مدى تتطابق الروايات في وصفها المدن مع ما يُعتقد ب"حقيقة" المدن التي نشأت فيها؟ هل هي مدن واقعية بالفعل، أم أنها هي الأخرى مدن تنتسب الى الخيال الروائي، تولد من رحم المدن الموجودة على الأرض، تأخذ منها بعض ملامحها، ثم تنمو وتصنع حياتها هناك على الورق اللاهث بين أيدينا؟ وإلى أي مدى نستطيع الاستدلال على المدن بكل ما تحويه من تفاصيل عبر الروايات التي تتحدث عنها؟ هل هي رغبة الروائي بتأسيس مدينة خاصة به، تجعله يأخذ من المدينة اسمها فقط، ليؤسس مدينة لها علاقة برغبته وخياله أصلاً، أم هما عينا الراوي، اللتان تريان ما لا يراه الآخرون الذين يعيشون روتين إيقاع حياة المدينة؟ وهل تتبادل المدن المواقع "الخيالية" و"الواقعية" بحسب قوتها، ودرجة تعرفنا إلى أنفسنا فيها، لدرجة تخيلنا أننا نعيش هناك، نسير على شوارعها، ونتنفس هواءها؟ تلك هي بعض الأسئلة التي تحاول ورقتي إثارتها وحسب. وبقدر ما التصقت في ذاكرتنا بعض المدن "الواقعية" التي خلدها الأدب، نقشت بعض المدن "الخيالية"، الفانتازية، اسمها على جدران ذاكرتنا. كم تملك المدن "الواقعية" من قوة "خيالية" في تصويرها، حتى أننا نشك بأنها كانت موجودة بالفعل، بل نشعر أنها مدن تنتمي الى الخيال أكثر من انتمائها الى الواقع. صحيح أنها مدن واقعية ومعروفة، لكنها بعيدة، وغالباً ليست في متناول اليد، يمكن تمييزها بنوستالجيا العودة المستحيلة، التي لا تدع المرء ينام" انها تلك المدن المغلفة بنوع من الاستعارة الاصطناعية الساحرة التي تجعلها تتغير يومياً، في كل لحظة، وتصل إلى صورتها القصوى، التي يختلط فيها الخيال مع الحقيقة. فالمدينة الصغيرة "كومبري" لمارسيل بروست، ليست هي في الواقع "الجغرافي" بعيدة جداً من باريس، لكنها في الوقت نفسه مدينة "فانتازية"، لأنها تجسد "البحث عن الزمن الضائع"، الذي تحول إلى إحدى كبريات روايات القرن العشرين. "دبلن" جيمس جويس، المدينة التي أحبها صاحب "يوليسيس" وكرهها بالقوة نفسها، هي قريبة وبعيدة جداً لمن يعرفها، وهي بمعنى ما "فانتازيا" تحمل الإيرلنديين، والدبلنيين بالذات على تحويل يوم 14 حزيران يونيو من كل عام إلى يوم عيد قومي، والتجول عبر الأماكن نفسها التي مرّ بها مستر بلوم. في الشكل نفسه تبدو مدينة "سانت بطرسبورغ" كما صورها دوستويفسكي، على شكل رمز لمدينة القاع، مدينة تحتية كل شيء فيها معتم، فقط سماؤها بيضاء. أما براغ، فتتحول إلى المدينة الرمز للماكنة البيروقراطية الحديثة، ولكل الأوضاع المرعبة التي ستحمل صفة "كافكوية"، على رغم أن كافكا يذكر المدينة في أي من نصوصه، باستثناء مرة واحدة في "القضية"، عندما يذكر اسم شارع "يوليوس"، الذي كان آنذاك مركز الحي الصناعي لمدينة براغ. وماذا عن "الإسكندرية" الفانتازية لكونتستين كافافيس، التي تحمل من دون شك الأرومة الأصلية لمكان ولادته، والتي تحمل عنده في الوقت نفسه صفاءً يوتوبياً؟ هل هي الإسكندرية ذاتها، التي تحدثت عنها رباعية لورنس داريل، والتي هي خليط من تأنيب الضمير والضغائن، خليط يمتزج فيه الحب مع الحنين؟ وماذا عن "كيوتو" الياباني ياسوناري كاواباتا؟ وإذا تساءلنا عن العلاقة الخفية بين تلك المدن "الواقعية" وهذه المدن "الخيالية"، فلأننا نعرف أن الأدب والفلسفة، لم يبطلا على مر تاريخهما من تأسيس أو وصف المدن "الخيالية" الفانتازية، والتي كثيراً ما تحدثنا عنها، وكأننا نعرفها، وكأننا زرناها مرات عدة، من دون أي بادرة شك من جانبنا، بأننا في الحقيقة لا نتحدث عن مدن موجودة، وهي درجة قناعتنا التي تنفخ في هذه المدن روحاً، تجعلها تحيا. أعتقد أن الفيلسوف الإغريقي افلاطون هو أول من تحدث عن استحالة التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مصطنع، زائف، مختلق" وبحسب قوله: ان من يملك الحقيقة، من حقه أن يكذب أيضاً، أو: الكذابون هم وحدهم الذين يعرفون الحقيقة. على أساس هذا المنهج خلق افلاطون من العدم قارة ومدينة أكثر حضارية معارضة لأثينا، التي على رغم ذلك، يقول افلاطون، ابتلعها البحر: "اطلنطا". تلك المدينة، كانت المدينة الفانتازية الأولى في الأدب، وكذبة وجودها عبرت كل العصور حتى وصلت إلينا، وهي تملك قوة مدينة "حقيقية". "مدينة الشمس"، هي مدينة أخرى، مدينة مشاعية وتيوقراطية، اخترعها الشاعر توماسو كامبانيلا في القرن السادس عشر، وهي مدينة فانتازية أيضاً، مثل "يوتوبيا" التي اشتق منها الاصطلاح "يوتوبيا"، مدينة الفيلسوف الإنساني توماس مور، التي صورها على شكل جزيرة، تتحول إلى مركز للتسامح والعيش السعيد، قبل أن تصبح لاحقاً في الأزمان التي تلت وحتى زماننا رمزاً مثالياً، رمزاً لن نتوصل إليه مهما بذلنا من جهد، بسبب ما دمغ كل هذه الأزمان من استبداد وقهر وحروب ودمار وموت. مدينة "هلسينغور" التي تقع في شمال الدنمارك، والتي ما زالت ماثلة بقلعتها، فعلى رغم أنها موجودة بالفعل، إلا أنها تحولت لزوارها القادمين من كل أنحاء العالم إلى مكان فانتازي، يقفون عنده لكي يردد كل واحد منهم مع نفسه أشهر جملة في تاريخ الأدب: "أن تكون أو لا تكون تلك هي المسألة"، مثلما قالها الأمير هاملت، بعد أن رأى شبح أبيه، يتجول عبر القلعة نفسها، وبقوة تلك الخيالات نفسها، الخيالات التي تثيرها البلاد التي زارتها "اليسيا"، والمدن الفانتازية الأخرى: "بابل" مثلاً. هل هي بابل المكتبة؟ بابل البرج؟ بابل رطانة الألسنة واللغات المتعددة؟ أم بابل القدر كما وصفها "لويس بورخيس"؟ وماذا عن "ماكوندو" غارسيا ماركيز، التي صاغها على خطى أستاذه وليم فوكنر ومدينته الفانتازية؟ وماذا عن المدن "الجيومترية" ل"المدن غير المرئية" لإيتالو كالفينو؟ انه الأمر ذاته، كل مرة، ما إن يقرأ المرء كتاباً جيداً، حتى تعبر أمامه صور القصة في الرأس، صور الأماكن التي تصفها الرواية والبشر الذين يتحركون عليها. ليس من العجيب إذاً أن يتساءل المرء: هل لتلك الانطباعات التي تنشأ عندنا، علاقة بالحقيقة أم بالخيال؟ أليس معنى "إيتاكا" يكمن أكثر في رحلة "يوليسيس" نفسها، وبالذات بالمعنى الذي أوحى لنا به كونستانتين كفافيس "الشيخ الجليل" كما سماه داريل، عندما كتب "إيتاكا تهديك رحلة جميلة، من دونها لن تكون عرفت الطريق. على رغم ذلك، ليس عليها أن تمنحك شيئاً". كثيراً ما تساءلت في رحلاتي لهذه المدن، أليست هي قوة خيال الأدب التي تضفي على هذه المدن كل بهاء السحر هذا وتجعلنا ندور وندور فيها، وفي دائرة صغيرة في الغالب، بحثاً عن شيء نتخيل وجوده أو إنسان نعتقد أننا عرفناه أو رائحة ما زالت تلتصق بالذاكرة، أو عن بيت يحمل سراً نود الكشف عنه، ولكن لأنفسنا فقط؟ لماذا نشعر بقرابة شخصية وبمثل هذه القوة مع أشخاص عاشوا هناك، من غير المهم مدة إقامتهم، إذ يكفي أن خطواتهم طبعت آثارها الأرض التي تطأها الآن أقدامنا، نحن الغرباء، الذين صحيح أنهم يزورون المدينة للمرة الأولى، إلا أنهم رأوها مرات عدة عبر عيون أخرى؟ نحن الغرباء، الذين لا يريدون أن يشعروا بأنهم غرباء، فيلجأون الى التفتيش عن أسلاف لهم، أصدقاء في المكان الغريب، حتى وإن ركزوا البحث في مكان صغير، يتحول بالنسبة إليهم، إلى روح المدينة، حانة كان أم مقهى، شارعاً كان أم بيتاً. أليست تلك هي الحكمة الحزينة التي تعلمتها في كل زياراتي، وفي كل تلك البيوت التي شعرت بأنها بيوتي؟ في بيت دوستويفسكي في سانت بطرسبورغ، في بيت لوركا في فوينتا ديل الباكيرو، في بيت فريدا كالو في نيو مكسيكو، في بيت داريل في الإسكندرية، في بيت كفافيس في الإسكندرية وفي اسطنبول، في بيت كافكا في براغ، في بيت ماركيز في آراكاتا، في بيت رافائيل البيرتي في بويرتا دي سانتا ماريا، وفي كل تلك الأماكن التي مررت بها، أتنقل مثل "بحار على اليابسة"، الجملة المحببة التي خطها رفائيل ألبرتي عنواناً لديوانه الأول، ومثلما رددها عشرات المرات أمامي. إذاً، أليست هي الأماكن ذاتها، التي ما زالت تتغذى من مجد اللحظة "الخيالية" الغابرة، لكي تحيا في دواخلنا أبداً؟ ألا يقول لنا تاريخ الأدب والفلسفة، ان كل تلك الأماكن، كل تلك المدن، واقعية كانت أم خيالية، هي الرمز الذي تأسس عليه الأدب؟ ألا يكمن معنى الأدب في النهاية، في "فن الهروب"؟ أوليست كل المدن بهذا المعنى، هي مدن تنتمي الى الحلم الذي نهرب إليه؟ وماذا سيحدث لو قمنا بالرحلة ذاتها عبر تلك المدن، نقارن بين النص الأصلي وبين المدينة؟ ألا تتشكل للمدينة خريطة جديدة؟ ثم أليست هي رغبتنا بتشكيل مدن جديدة هي التي تجعلنا نهرب من مدننا ونرحل إلى دبلن أخرى، إلى غرناطة أخرى، إلى قاهرة أخرى، إلى بيروت أخرى، إلى بصرة أخرى... الرحيل إلى كل تلك المدن التي لا توجد على الخريطة... المدن التي يؤسسها الأبناء الملعونون والهاربون من خدمة العلم، أبناء تلك المدن في الأراضي البكر للذاكرة... في الأراضي البعيدة.