"هذه المدينة قادمة على زلزال... انها تقع على صدع ينزلق خمسة ميلمترات سنوياً، وهي حركة تعتبر كبيرة في علم الجيولوجيا. لقد جعلت الزلازل عاليها واطيها... محتها عن الأرض مرتين والثالثة قريبة لا ريب" حارث المياه، لهدى بركات. هذه الملاحظة الصغيرة الجغرافية - الجيولوجية، والتي هي من اختراع الراوية، تشخص في الرواية الجميلة المذكورة لهدى بركات الروائية اللبنانية المقيمة في باريس، والتي كتبت ثالث كتاب جميل لها، ينتمي الى كتب النثر القليلة النادرة التي تُكتب بالعربية وبهذا الحس. وبالاضافة الى النبرة الغنائية لنثر الكتاب، فأكثر ما يثير الانتباه هو هذا التأكيد على "مؤقتية" أو "عدم أبدية" المدينةبيروت، بتلك الجملة التي تثير الفضول، والتي ليست لها علاقة بزلزال أو بدمار الحروب: "هذا وهم... وهم ما ترينه". ليس من الخطأ القول، بل من الأرجح، أن كل شيء بدأ مع الفيلسوف الأغريقي أفلاطون، الذي هو أول من أسس لنظرية أو موقف: الخيال - الحقيقة. فالحوار في كتابه "الصوفي" مبني كله على استحالة التمييز بين ما هو حقيقي وبين ما هو مصنع، زائف، مختلق، وبشكل ما، وفق ما يقوله أفلاطون، ان من يملك الحقيقة، من حقه أن يكذب أيضاً، أو أن الكذابين هم وحدهم من يعرف الحقيقة. على أساس هذا المنهج خلق افلاطون من العدم قارة ومدينة أكثر حضارية معارضة لأثينا، التي، رغم ذلك، كما يقول أفلاطون، التهمها البحر: "أتلانتيكا". تلك المدينة، كانت المدينة الفانتازية الأولى في الأدب، وكذبة وجودها عبرت كل العصور حتى وصلت لنا لتصبح في النهاية مثل حقيقة. "مدينة الشمس"، هي مدينة أخرى، مدينة شيوعية وتيوقراطية اخترعها الشاعر توماسو كامبانيلا في القرن السادس عشر، وهي مدينة فانتازية أيضا، مثل "يوتوبيا" التي اشتق منها اصطلاح "اليوتوبيا" - مدينة الفيلسوف الانساني توماس مور، والتي صوّرها هو على شكل جزيرة ومدينة فانتازية تماماً، تصل ذروتها حتى الحدود القصوى، حدود الوضع النموذجي الذي يستند على التسامح: المدينة التي تحولت الى رمز مثالي في الأزمان التي تلت وحتى زماننا، رمز لن نتوصل إليه، بسبب ما دمغ كل هذه الأزمان من استبداد، وحروب ودمار وحكم بالموت: مدينة "هيلسينغور"، التي تقع في شمال الدانمارك، قبل العبور للسويد عبرتها شخصياً عشرات المرات، بقلعتها، رغم انها موجودة بالفعل، تحولت الى مكان فانتازي لأنها القلعة التي وقف عندها هاملت شكسبير، حيث رأى شبح أبيه. بنفس القوة، هي صورة الخيالات العجائبية التي تثيرها البلاد كلها التي زارتها "أليسيا"، وماذا عن "بابل"؟ بابل المكتبة وبابل الحظ، التي رسمها بورخيس، وماذا عن "ماكوندو" غارسيا ماركيز، التي صاغها على خط المدينة المخترعة الأخرى لمعلمه صاحب "الصخب والعنف" الأميركي الشمالي وليم فوكنر؟، وماذا عن المدن الجيوميترية لل"مدن غير المرئية" لإيتالو كالفينو؟ وبالتوازي مع تلك المدن التي اخترعتها الخيالات، تتأسس مدن أخرى يمكن تسميتها "مدن الرغبة"، والتي هي بالحقيقة مدن واقعية ومعروفة، لكنها بعيدة، وغالباً لا تكون في متناول اليد، يمكن تمييزها بنوستالجيا العودة المستحيلة التي لا تدع المرء ينام. تلك المدن المغلفة بنوع من الاستعارة الاصطناعية الساحرة تجعل هيئتها تتغير يومياً، كل لحظة، حتى تصل الى حدودها القصوى، التي يختلط فيها الخيال بالحقيقة. فالمدينة الصغيرة "كومبري" لبروست، ليست هي في الواقع بعيدة جداً عن باريس، هي في الوقت نفسه مدينة "فانتازية" لأنها تمثل "البحث عن الزمن المفقود" الذي تحول الى إحدى أكبر روايات القرن العشرين. "الاسكندرية" الفانتازية لكفافي، هي دون شك تحمل الأروما الأصلية لمكان ولادته، لكنها في الوقت نفسه، تحمل صفاء يوتوبياً، رغم انه يمنحها الجمال ذاته التي منحه لها لورينس داريل، إلا أنه يصنع منها مدينة تختلف عن "الاسكندرية" - رباعية الكاتب الانكليزي الذي عاش فيها ومات في مدينة أفينيون في فرنسا. وفي النهاية أليست كل المدن مدنا تنتمي للحلم، مثلها مثل مدينة هدى بركات، التي لن ينفعها حتى عندما تشكر في نهاية الكتاب أصدقاءها المقيمين مثلها في باريس عدنان وزينب وابراهيم وجوزفين ورُلى وأرليت وجوزيف وحسن... لأنهم ساعدوها في استذكار أمكنة ما عادت موجودة، فالمدينة تكتسب جمالها بسبب ذلك الصوت الذي يقول: "هذا وهم... وهم ما ترينه". هكذا هي البصرة، بيروت، دبلن، باريس، لشبونة، الاسكندرية. فربما كانت اكثر المدن جمالاً وعشقاً بالنسبة الينا، تلك التي تعيش من حراثة نوستالجيا خيالنا.