خيراً فعل السيد مقتدى الصدر عندما حدد في إحدى خطب الجمعة الأخيرة، في مسجد الكوفة التاريخي العريق، موقفه من القضايا الأكثر إثارة للجدل، وكان المغرضون قد تقوّلوها عليه في وقت سابق. فرفض أولاً الاحتكام الى السلاح لحل المشاكل القائمة بين العراقيين، أياً كان نوعها، وورثوها من النظام الشمولي البائد، داعياً أنصاره والعراقيين الى تبني شعار اللاعنف في علاقات بعضهم ببعض. ودعا الى نزع السلاح في مدينة كربلاء المقدسة، وكانت قد شهدت قبل أسبوعين مواجهات دموية بين عناصر تقول انها تنتمي الى تيار الصدر، وأهالي المدينة. واستنكر، في الوقت ذاته، تلك الأعمال المخلة بالأمن العام والخارجة على القانون، وتتنافى مع الدين وقيمه وتعاليمه، والمناقضة للأخلاق والذوق العام والأساليب والوسائل الحضارية، متبرئاً من أية أعمال عنف تنسب اليه بصورة أو بأخرى. كما قال ان جيش المهدي، الذي أعلن عن تأسيسه قبل أشهر، هو قوة مدنية منزوعة السلاح. فهو، بعبارة أخرى، تيار مدني غير مسلح يسعى للمساهمة في إعادة اعمار العراق الجديد بطرق سلمية ومدنية مشروعة، على حد قوله. أخيراً، تهجم السيد مقتدى الصدر على فضائيات العربان التي تحاول توظيف حركته ونشاطه وأحياناً تصريحاته، لإثارة الفتن بين العراقيين بما يسيء الى سمعته، بحسب قوله. وعرض استعداده للمساهمة في الجهود الرامية الى وأد الفتن، مبدياً حرصه على إزالة كل ما من شأنه التحريض على العنف أو إثارة الفتنة، بما في ذلك استعداده للتراجع عن أية خطوة أسيء فهم القصد من ورائها، أو كانت قد فسرت بما يوحي كونها خطوة تصعيدية لإثارة الفتنة، كما هي الحال في موضوع الإعلان عن تشكيل حكومة بديلة. وبذلك يكون السيد مقتدى الصدر قد ألقم اعداء العراق، المتصيدين بالماء العكر، والمتربصين به الدوائر، حجراً. ويكون الصدر، بكلامه الآنف الذكر، قد ميز نفسه وتياره عن العناصر التي حاولت، وسعت للتسلل اليه وركوب الموج، مستفيدة من السمعة التاريخية الطيبة التي يتمتع بها الشهيد الصدر الثاني، لتحقيق أغراض دنيئة وأهداف مغرضة لا تخدم العراق بأي شكل من الأشكال، توسلت بأساليب ووسائل لا تنسجم مع التيار الصدري التاريخي المعروف عنه بالركون الى العلم والمعرفة والفضيلة والحوار وقوة المنطق ورصانة الحجة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ورفض كل أشكال العنف والإكراه والفرض والجبر. ووضع الصدر بهذه المواقف حداً لمحاولات الانقضاض على التيار الشعبي الأكبر والأوسع في العراق، من خلال توجيه التهم والافتراءات ضده، موظفاً شائعات وتقولات وتهم أثبتت الأيام انها فشلت في الصمود أمام الدليل والحقيقة. وأغلق كل الأبواب وأحرق كل السفن التي حاولت بعض الجهات من وراء الحدود أن تركبها لاختراق الصف الوطني العراقي. ولا أريد هنا أن أحاكم نوايا السيد مقتدى الصدر على كلامه وآرائه هذه فأتبنى مثلاً الرأي القائل بأنه لجأ الى أن يحني رأسه أمام العاصفة القوية التي ثارت ضده، وواجهته من مختلف الأطراف، بعد تصريحات نسبت اليه وفسرت على أنها نوع من أنواع التحريض على العنف، واثر ممارسات إرهابية قام بها محسوبون على تياره، أو أذهب الى الرأي الذي يقول أن الصدر اختار تأجيل المعركة بسبب الصدود والرفض والاستنكار التي واجهته بعدما صرح به في المدة الأخيرة، حتى من أقرب الناس إليه. ما يمكنني قوله هو أنه أحس بخطئه، فاعترف به، وتراجع عنه في اللحظة المناسبة - هذا على فرض انه كان قد أخطأ، أو ارتكب بالفعل ما يدعو الى الاعتراف بالخطأ الذي يعد فضيلة بحد ذاته فتراجع عنه -. وبذلك يكون قد أكد مرة أخرى حرصه على العراق. فهو بذلك، يكون أفضل حالاً بكثير من أولئك الذين يخطئون ويكروون أخطاءهم، ولا يقبلون الاعتذار اذا نبهوا أو أحسوا بأخطائهم، لأنهم لا يتعاملون بمسؤولية، فلا تهمهم مصلحة العراق العليا، ولا يأخذون بنظر الاعتبار حساسية الظروف الراهنة التي يمر بها العراق وخطورتها، ما يستدعي التصرف بحكمة وتأنٍ وحذر. أما الصدر فإنه بالتأكيد سيفكر بطريقة أكثر عقلانية، وسيتصرف بحكمة أكبر وحنكة أوسع، مستفيداً من آراء وردود فعل العراقيين، سلبية كانت أم إيجابية. فيتأنى في أقواله وتصريحاته ومواقفه وتصرفاته. وبعد هذه المواقف، فإن من سيرفع السلاح من الآن فصاعداً سيواجه بكل قوة، وسنكذب دعواه إذا قال بأنه من تيار الصدر. ومن يلجأ الى العنف لأي سبب كان، سنفضح انتماءه إذا ادعى ارتباطه بالصدر، أو انتماءه الى هذا التيار. فقد رفض السلاح والعنف وإثارة الفتن بين العراقيين ولذلك فإن كل من يحمل السلاح أو يتوسل بالعنف أو يسعى لإثارة الفتنة، فإنه بالتأكيد ليس من جماعته، وان ادعى زوراً، وتقول كذباً، وأبرز لنا ما يشير الى انتمائه. فإننا بالتأكيد سنصدق الصدر، ونكذب من دونه وسواه، توضيحاً لمعالم وحدود التيار الصدري، ولوضع حد للعبة الانتماءات الكاذبة والمخادعة التي يمارسها ويلجأ اليها كل من هب ودب. يجب أن يكون العراق الجديد خالياً من السلاح والعنف والإرهاب والفتن والميليشيات. وبدلاً من أن نسعى لتأسيس الجيوش والعروش وأجهزة الأمن والمخابرات، وبناء السجون والمعتقلات، واستيراد أجهزة التعذيب النفسي والجسدي، ونتاجر بالسلاح، علينا، جميعاً، أن نبذل كل جهودنا من أجل بناء المدارس والجامعات ومراكز البحث والتأهيل العلمي، والمستشفيات ودور الأيتام والعجزة، وبنوك القرضة الحسنة، والمكتبات العامة، والحدائق الغناء، ومدن الألعاب ورياض الأطفال والنوادي المتخصصة لكلا الجنسين على انفراد، والأحزمة الخضراء حول المدن لحمايتها من العواصف الرملية والتلوث البيئي، وكل ما من شأنه أن يعيد السلام والوئام والأمن والاستقرار والطمأنينة والحرية والكرامة والسعادة والتنمية للمواطن العراقي الذي ظل محروماً من كل ذلك، على مدى ثلاثة عقود من الزمن. وأخيراً لي كلمة. فقبل أسبوع نشر بعض مواقع الانترنت خبراً مفاده ان مجموعة من المثقفين العراقيين، وجهوا رسالة الى المعنيين يطالبونهم فيها بإصدار مذكرة اعتقال في حق السيد مقتدى الصدر، لأسباب ساقتها الرسالة، طبعاً من دون أدلة قضائية، منها ضلوعه في تنفيذ عمليات قتل، ودعوته الى العنف، وتحريضه على الفتنة. وفوجئت بإدراج اسمي في قائمة الموقعين. وأخبرني أحدهم ان الأمر لم يعد كونه تصرفاً شخصياً بادر اليه أحد أعضاء الجهة المفترضة من دون علم أو استشارة الأعضاء الآخرين، أو حتى أصحاب الأسماء التي وردت في ذيل الرسالة. فتم سحبها من التداول والنشر، وتسوية الأمر الى هذا الحد. ولكن الذي صدمني وأدهشني، بعد أيام، هو أن عدداً من ذوي الأفواه العريضة، من الذين يحبون أن ينفخوا دائماً في النار، ويصبوا الزيت عليها لتزداد اشتعالاً وخطراً، سربوا الرسالة، مرة أخرى، الى عدد من مواقع الانترنت، بأسماء الموقعين تارة، ومن دونها تارة أخرى. عندها شعرت وكأن أيادي خفية تسعى للعبث بمستقبل العراق وإثارة الفتنة وتوريط الآخرين والتصيد بالماء العكر. ألا يكفينا ما ورثنا من آثار مدمرة لحروب النظام البائد العبثية والتدميرية؟ وشخصياً، لا علاقة لي بالموضوع ولا بفحوى الرساللة، لا من قريب ولا من بعيد. وأنا ضد الاعتقال العشوائي، وضد سياسة التهريج، وإثارة الأجواء ضد الخصم، ومع الحوار لحل المشاكل، وتهدئة الأزمات، وتجاوزها. إنني ممن يدعون الى استقلالية القضاء في العراق الجديد.... نزار حيدر [email protected]