طالعنا محمد جابر الأنصاري في مقالاته المنشورة في "الحياة" في 23 و24 و25 تشرين الاول اكتوبر 2003 بجملة من الآراء النقدية الشجاعة التي طالما تميز بها في مؤلفاته ومقالاته، حيث رأى ان المشكلة الاساسية في هذه اللحظة التاريخية تكمن في شخصية العرب المعاصرين وفي ذهنيتهم وسلوكهم مع انفسهم ومع العالم، اذ لم يتمكنوا على رغم كل الجدل الذي طغى على الخطاب السياسي منذ الربع الاخير من القرن المنصرم من فك مسألة المراوحة النظرية بين الأصالة والمعاصرة التي لا تزال تعاني اختلالاً عميقاً "علماً ان ما يجب النظر اليه هو طبيعة البنى المجتمعية التحتية في القاع السوسيولوجي العربي وعلاقتها بمتغيرات التاريخ والعصر". هذه البنى تم طمسها باسم مقولات كبرى كالأمة والذات القومية والشخصية العربية التاريخية والوجدان العربي الجماعي حتى تفاقمت الفجوة في الكلام العربي بين "ضجيج وادعاء وكذب وتزوير وبين واقع نقيض مختلف نتهرب من حقائقه ووقائعه". ونحا الأنصاري نحواً نقدياً شجاعاً إزاء التعميمات التي سقط فيها مجمل الخطاب العربي حول "الهوية" و"الرسالة الخالدة" و"الشخصية القومية" فرأى ضرورة إنزال هذه التعميمات الى الارض وإخضاعها الى المساءلة والنقد الذاتي الشجاع. وكان الأنصاري شجاعاً في دعوته الى "صحوة عقل" تسند الصحوة الاسلامية، وفي قوله بأهمية العامل الاقتصادي في إعادة تشكيل الهوية العربية المستقبلية، كما في دعوته الى البحث العلمي اللازم عن وسائل البقاء والتقدم والصمود، على الضد من معظم المحاورات الفكرية في المنابر العربية التي هي صرخات شعرية لتأكيد الذات كلاماً ضد تحديات الواقع، ما مثَّل أكبر إعاقات الخطاب العربي السائد الذي يلخّص كوارث العرب السياسية والقومية من فلسطين الى العراق. هذه الأفكار والآراء الشجاعة التي طرحها الأنصاري والتي تشكل في حد ذاتها تحدياً للخطاب السياسي العربي ودعوة صريحة الى تجديده في العمق تجديداً يطاول آلياته ومضامينه وأهدافه، تحاصرها من جديد الأنماط الايديولوجية التاريخية السائدة التي انساق اليها الكاتب، في ما يمثل تناقضاً في العمق مع ما طرحه ونادى به، شأنه في ذلك، شأن كثيرين من الكتاب والمفكرين العرب الذين ما إن يبتعدوا عن العقل الايديولوجي المهيمن حتى يسقطوا من جديد في أسر مقولاته. إن المراوحة بين الفكاك من هذا العقل وبين الترنُّح في ظله واستعادة قيمه وأنماطه ومقولاته، هي احدى السمات المميزة للخطاب العربي الراهن المترجح بين الأصالة والحداثة، بين الأمانة للفكر الايديولوجي الموروث من القرن الماضي وبين التطلُّع الى صيغة جديدة وفاعلة تنتشل العرب من قاع ترديهم التاريخي وتزجُّهم في صميم العصر الذي يبدو وكأنه في سباق محموم مع ثورة الفكر والعلم والتطور. يستعيد الأنصاري مقولة الجابري في "الذات العربية" في زي يحمل كل ملامحها وسماتها، يقول: "فنحن لو استبعدنا التعبيرات الوجدانية والايديولوجية في شأن الهوية - كالقومية العربية والوحدة العربية وما اليهما - فإننا علمياً وموضوعياً وتاريخياً نبقى امام "ظاهرة عربية" حية لا يستطيع احد ان ينكرها. ظاهرة عربية بشرية وجغرافية تنطق بلغة واحدة، وبالتالي ذات ثقافة مشتركة... واللغة الواحدة ليست مجرد لغة. انها ثقافة وفكر ووجدان". ويضيف واثقاً: "يمكننا ان نقرر ان العرب أمة موحدة الوجدان مفرقة الكيان... ففي لحظات الكوارث القومية تجد الشعور العربي واحداً من المحيط الى الخليج يقطر ألماً وحزناً". وهكذا يكون الأنصاري استعاد مجدداً العموميات النظرية التي دعا الى الهبوط من سمائها. فبماذا تختلف "الظاهرة العربية" التي يقول بها عن "الذات العربية" التي نادى بها الجابري أو "الرسالة الخالدة" التي قال بها عفلق؟ ألسنا في كل هذه الحالات امام مقولة متعالية مسحوبة من الواقع والتاريخ بينما الحقيقة على الارض أقطار وقبائل وطوائف وعشائر؟ أليست اللغة التي يعوِّل عليها الأنصاري هي ذاتها التي استقر عليها الجابري جامعاً وحيداً بين العرب لا يطاوله الشك؟ لقد بالغ الأنصاري في المراهنة على وحدة الثقافة والوجدان العربيين بينما لو تأمل في عمق الواقع العربي لألقى بين العرب من التناقضات في هذا المجال ما قد يتجاوز أحياناً ما بينهم وبين غيرهم من الأمم. حتى ان محمد عابد الجابري ذهب عن حق الى ان ثمة انشطاراً في الثقافة العربية. فهناك في العالم العربي ثقافة البادية وثقافة المدينة وهناك ثقافة التقليد وثقافة الحداثة وهناك الأصوليون والتغريبيون والعلمانيون والحداثيون وهناك المشرقيون والمغاربة. فهل يفكر اللبناني مثل السوداني أو السوري مثل السعودي أو العراقي مثل الليبي؟ أليس ثمة اختلاف ثقافي ووجداني بين العرب تبعاً لانتماءاتهم الدينية أو الطائفية أو القبلية أو الفطرية". هذه الاختلافات من جميع وجوهها لا يمكن تجاوزها والقفز فوقها لتأكيد الوجدان الواحد والهوية الواحدة الموحِّدة للعرب من المحيط الى الخليج. اما توحُّد العرب إبان الكوارث القومية الذي يأخذه الأنصاري برهاناً على وحدة العرب الثقافية والوجدانية فقد أسقطته التجارب والكوارث إياها. فهل كان العرب مثلاً موحدين إزاء العدوان على الكويت؟ هل قضَّت مضاجعهم فعلاً مآسي حصار العراق وآلام الشعر الفلسطيني في مواجهة الوحشية الاسرائىلية؟ وما معنى أن يتظاهر الملايين في اميركا وأوروبا وأوستراليا ضد الحرب على العراق بينما لم نشهد سوى تظاهرات خجولة ومبرمجة في العالم العربي الذي ظل اكثره صامتاً لا مبالياً كأن الأمر ينتمي الى عالم آخر؟ إن الأنصاري الذي تنبَّه أخيراً بعد كل تأكيداته الى وحدة الوجدان العربي والظاهرة العربية الى ان ثمة انتماءات تتنازع الانسان العربي قد اوقع نفسه في ما وقع فيه الخطاب السياسي العربي من تناقض وازدواجية، وهو ما انساق اليه الجابري قبله: القول بالذات العربية والقول في الوقت ذاته بانشطار الثقافة العربية وصولاً الى الشك والارتياب بكل مقومات الوجود القومي العربي. هذا التناقض الذي انتهى اليه الأنصاري ميّز الخطاب القومي العربي عموماً حتى ان من القوميين العرب من أخذ منذ تسعينات القرن الماضي يعيد النظر في كل المقولات القومية التي أهرق عقوداً في التبشير بها والنضال من أجلها من دون ان يتغير شيء نحو الأفضل في واقع الانسان العربي. فهل كان الخطأ فعلاً في التطبيق كما تصور الأنصاري؟ بل انه في رأينا في صلب النظريات التي هبطت على الواقع العربي من فوق من دون ان تأخذ في الحسبان تعقيداته وخصوصياته وتكويناته التاريخية وقابليته على التكيُّف مع ما طرحته من أفكار وتصورات وإيديولوجيات. ومن هنا نقول ان الأمة العربية الواحدة ليست واقعاً قائماً بذاته نعيد اكتشافه وتأكيده، بل انها هدف يجب ان يحققه العرب بارادتهم ولمصلحتهم ومن اجل اجيالهم القادمة. اما الاستسلام لنظريات "الذات العربية" و"الظاهرة العربية" فلن تكون نتيجته سوى ابتعاد الخطاب القومي عن الواقع وتناقضه مع ذاته، وبالتالي، تأجيل وحدة العرب الى ما لا نهاية. * كاتب لبناني.