تواجه الايديولوجيا القومية العربية في آخر القرن تساؤلات محرجة تطاول بنيتها ومفاهيمها ومسلماتها، وتضع على المحك كل تلك اليقينيات والبداهات التي ميّزت الفكر العربي منذ أواسط القرن. فقد دأب هذا الفكر على اعتبار القومية العربية والوحدة العربية حقائق لا يرقى اليها الشك أو التساؤل بناء على تصورات وأوهام وايديولوجية قادت احياناً الى تبرير الديكتاتورية والعنف الجماعي وتسويغ انتهاك حقوق الانسان العربي. ولعلّ ما قاله نديم البيطار في ندوة "النظم العربية والديموقراطية" ليبيا 1985 نموذج معبّر عن ذلك النسق من التفكير الايديولوجي الذي أوصل العرب الى أفدح الكوارث في تاريخهم الحديث انتهاءً باجتياح الكويت وحرب الخليج. قال البيطار: "مقياس نجاح التجربة الثورية ليس تحقيق المثل ... بل الغاء النظام القديم وتجاوزه. إن كانت التجربة الثورية قادرة على هذا، وجب اعتبارها ناجحة وفعالة على رغم كل ما قد يترتب عليها من عنف جماعي ومن قمع للحريات والحقوق ... طالما ان النضال العربي الوحدوي يرمي الى اقامة دولة الوحدة ... فان هذا النضال يحتاج الى ديكتاتورية وحدوية ثورية". الا ان هذه اليقينية القومية أخذت في التراجع والانحسار والتبدد مع الاعوام الاخيرة من هذا القرن ليطغى التساؤل والشك والمراجعة النقدية على الخطاب القومي الذي بدا انه يعاني من أزمة مفهومية ليس في وسع شعارات المد القومي المنكفىء ان تغطي حرجها وتناقضاتها. وليس أدلّ على ضغط هذه الازمة المفهومية على الفكر القومي في آخر القرن من تناقضات الايديولوجيا القومية في ما كتبه المفكر القومي العربي محمد عابد الجابري في السنوات الاخيرة. فبعد ان كان قد جعل اللغة في "الخطاب العربي المعاصر" 1982 "العنصر الرئيسي، ولربما الوحيد الذي يجمع بين الشعوب العربية التي تزخز بالاقليات الدينية والعرقية ولا تتمتع اقطارها بوحدة طبيعية واقتصادية كافية"، عاد واعتبر في "المسألة الثقافية" 1994 ان الثقافة هي الجامع القومي المؤكد ثم جعل الدين مقوِّماً اساسياً من مقوّمات الوحدة العربية والثقافة العربية. ولم يلبث ان تراجع عن رأيه هذا في "مسألة الهوية" 1995، فرأى انه "لا معنى لان يوضع سكان المنطقة التي تمتد من المحيط الى الخليج امام الاختيار بين ان يكونوا عرباً أو يكونوا مسلمين. انهم جميعاً عرب وعروبيون، لا بالفصاحة ولا بالنسب ولا بالدين، بل باللغة والثقافة والتاريخ والمصير الواحد والمصالح المشتركة ... الانتماء الى وطن والى قومية شيء واعتناق دين من الاديان شيء آخر". وفي حين يتحدث الجابري في "المسألة الثقافية" 1994 عن انشطار في الثقافة العربية يكتسي في الظرف الراهن صورة صراع خطير يكرّس التمزّق والتشرذم ويغذي الحرب الاهلية في المجتمع العربي، قفز الى اعتبار "الوحدة العربية على المستوى الثقافي قائمة بصورة طبيعية". وان ما يعوق الوحدة العربية هو "غياب الارادة السياسية". وبينما رأى في "إشكاليات في الفكر العربي المعاصر" 1989 ان "تحقيق الوحدة عملية تمر ولا بد عبر عملية تحقيق نفي الدولة القطرية العربية" عاد وانتهى في "وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر" 1992 ان الدولة القطرية لم يعد من الممكن القفز عليها حتى على صعيد الحلم، وان كل تفكير في الوحدة العربية لا ينطلق من واقع الدولة القطرية العربية الراهنة هو تفكير ينتمي الى مرحلة مضت وانتهت. هذه التناقضات في ايديولوجية الجابري القومية تنفجر دفعة واحدة في "المشروع النهضوي العربي" 1996 في شك يخلخل كل المفاهيم والاطروحات السابقة ويحشرها ازاء تساؤلات تبدو عاجزة عن الاجابة عليها. يتساءل الجابري: ما الذي يجمع الدول العربية ويجعل التفكير في "مستقبل واحد" لها أمراً مشروعاً وممكناً؟ فالعلاقات الاقتصادية التي كانت قائمة بين الدول العربية طوال هذا القرن كانت دوماً أضعف من ان تبرر التفكير في "المستقبل العربي" من خلال المدخل الاقتصادي. والعلاقات السياسية بين الدول العربية كانت أقل متانة بكثير من علاقاتها منفردة بدول اخرى غير عربية، والعلاقات الثقافية بين الاقطار العربية كانت وما تزال علاقات تنتمي الى ماضي هذه الثقافة. اما شعار "القومية العربية" فقد اصبح يصنَّف على رأس الشعارات التي توصف اليوم بكونها "سقطت" وفشلت. ويذهب الشك بالجابري الى حدّ التساؤل: "ما الذي يبرر اليوم استعمال اسم "العرب" ليزاحم اسماء اخرى، مثل المصريين والسوريين والفلسطينيين والمغاربة والموريتانيين؟". ولعل هذا المأزق الايديولوجي الذي انتهى اليه الجابري هو ما وصل اليه المفكر القومي العربي قسطنطين زريق، اذ قال في "ما العمل، حديث الى الاجيال العربية الطالعة" مركز دراسات الوحدة العربية 1998: "علي شخصياً ان اعترف اني كنت في الماضي أتكلم وأكتب عن "الأمة العربية" فاذا أنا الآن أتجنّب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش ... بل إني غدوت أشك في صحة التكلم عن "المجتمعات العربية القطرية أو عن "المجتمع" العربي العام نظراً الى قصور أهل كل منها وأهلها جميعاً عن تكوين ما يصح ان يدعى "مجتمعاً" أو "شعباً" أو "وطناً" والى استمرار خضوعهم لنزعات ضيقة مفرقة ولمطالب فاسدة مخربة، وبالتالي الى عجزنا جميعاً عن تحقيق التكتل الوطني أو القومي، وهو الشريط الاول من شروط البقاء". وبالمعنى ذاته تقريباً يقول غسان سلامة في "المستقبل العربي" 1994: منطق "القطرية" له في الواقع الملموس أساسات لا يمكن نفيها والتعامي عنها. بل ان القبول بها والتعايش معها هو السبيل الوحيد لاعطاء الفكرة العربية اي بعد علمي وعملي ... الأمة العربية أمر غير موجود الا في الذهن والمخيلة، انها مجرد مشروع يجب بناؤه، لانه غير موجود في ذاته ولذاته". ولهذا لاحظ للفكرة العربية بالنجاح والخروج الى حيز العلم الا ب"فعل وإرادة ذاتية واعية". لاقت هذه الأطروحات جدلاً واستنكاراً واسعين حين نادى بها المفكر الراحل كمال يوسف الحاج في الستينات والسبعينات. ولكنها الآن بدأت تصبح من بداهات الفكر القومي ومسلماته، في ادانةٍ شبه كاملة لأطروحات الايديولوجيا القومية في مرحلة الصعود والثورة. وفي ما أورده عبدالكريم غلاب في "أزمة المفاهيم وانحراف التفكير" 1998، تعبير صادق عن هذا التطور وعن الحاجة الى اعادة نظر جذرية في الفكر القومي العربي، يقول: "لا أبالغ حينما أزعم ان كل هذه الهزائم التي منيت بها القومية العربية جاءت من اهتزاز المفهوم في الفكر العربي وفي السياسة العربية ... وقد أصبحنا الآن في البلاد العربية مضطرين اضطراراً فكرياً وزمانياً لان نواجه مشاكلنا بفكر جديد ومنظور جديد لا يعتمد على القومية". وربما كان محمد جابر الانصاري من أهم الذين تصدوا في السنتين الاخيرتين لمثل هذه المراجعة النقدية والمفهومية باعادة النظر في المفاهيم والمسلمات القومية. ففي "النزاعات الاهلية العربية، العوامل الداخلية والخارجية" 1997 و"العرب والسياسة، أين الخلل" 1998، طرح الانصاري رؤية مختلفة ل"القطرية" و"القومية" حيث رأى ان الجسم العربي يعاني من تعدديات متغايرة بداخله لا تتصل بالتعددية المذهبية أو الدينية وليس من السهل ائتلافها الى الآن، حتى في اذار "الملة" الغالبة ذاتها. ولا بد من عقل سياسي متحرر يمتلك القدرة على استيعاب ظاهرة الثنائيات والتعدديات دون تأثيم الظاهرة "الوطنية" أو "القطرية"، بإلقاء التبعية على الصهيونية والاستعمار، اذ ان "التجزؤ السياسي الداخلي قد بدأ في تاريخنا القديم والدولة الاسلامية من أقوى دول العالم، وليس ثمة من إمبريالية أو صهيونية بعد". فالتجزئة ترتبط بعاملين خطيرين أحدهما طبيعي جغرافي، وثانيهما سوسيولوجي تاريخي قد أسهما على المدى الطويل في تهيئة الظروف الموضوعية لحالة التعدديات العربية: العامل الجغرافي يتمثل في الفراغات الصحراوية التي باعدت بين مناطق التواجد البشري العربي، اما العامل السوسيولوجي التاريخي فيكمن في تعددية الكيانات القبلية والعشائرية التي ظلّت عبر التاريخ العربي والى يومنا هذا العائق الاول أمام دعوات التوحيد الاسلامية والعربية. من هنا يطرح الأنصاري الدولة الوطنية القطرية التي اعتبرها الفكر القومي أصل البلاء في التجزئة، طريقاً وحيداً للعرب في اتجاه "الوحدة". فلقد حان الوقت لوقوف العربي على السطح الطبيعي والعملي والواقعي لوجوده في هذا العالم وهو سطح الأرضية الوطنية، القابلة وحدها عملياً، قبل كل شيء، للتطوير والبناء. اذ لا يمكن تصوّر إمكانية تحقق الوحدة القومية بين أية أقطار لم تتحقق وحدتها الوطنية ولم ينضج مشروعها الوطني. ان الدولة الوطنية العربية هي اول تجربة للعرب في الوحدة وما لم تتمكن هذه الدولة من صهر العصائب والبنيات التقليدية في بنيتها الوطنية، فان الوحدة القومية العربية ستبقى حلماً بعيد المنال. هل سيؤدي هذا التصدع في الايديولوجيا القومية وهذه المراجعات النقدية الى أفول الفكرة القومية العربية وسقوط الأمل في الوحدة نهائياً؟ ما نراه وندعو اليه هو عكس ذلك تماماً. بل اننا نرى ان تحرر افكار "القومية" و"العروبة" و"الوحدة" من أوهام الأدلجة وأضاليلها سيقود العرب حتماً الى البحث عن صيغة واقعية، صيغة تعاون وتضامن وبناء اكثر رسوخاً ومتانة، صيغة لا تنطلق من اية مسلمة أو تصور اذ انه ثبت عجز كل المسلمات والتصورات عن تأسيس دولة الوحدة، وانتشال الامة من قاع تنحدر اليه. لقد كتبت الايديولوجيات تاريخاً للعرب ملطّخاً بالصراع والعنف والدم ولم يبقَ أمامهم الا ان يكتبوا تاريخاً قوامه العقل والمنطق، كما انه حان الوقت الآن لان نفكر في ما يجمع العرب حقيقة. وهذه مسألة ليست مكتوبة ولا مقررة. ليست حقيقة جغرافية ولا تاريخية ولا دينية. انها فوق ذلك كله، مسألة وعي وارادة وتطور وارتقاء.