سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المقاومة في "المثلث السني"... ووثائق النظام السابق مختلطة بحياة البغداديين . اسلاميو الفلوجة وبعثيوها ... وطريق المهربين الذي صار معبراً للمجاهدين العراقيين والعرب 1 من 5
شهد الوضع الأمني في العراق في الأسابيع الفائتة مزيداً من التدهور. فبين العمليات الانتحارية التي شهدتها بغداد والتي سقط على أثرها مدنيون ورجال شرطة عراقيون، وبين العمليات العسكرية ضد الأميركيين والتي أدت في الأسبوع الفائت الى اسقاط مروحيتين أميركيتين وعدد كبير من القتلى والجرحى بين الجنود... بين هذه الأحداث يبدو رصد المؤشرات الصغرى أمراً ضرورياً لفهم ما يجري، خصوصاً أن الأخبار تطاول الحدث بعينه مع مرورٍ سريع على ماضيه ومستقبله. "الحياة" زارت مناطق في المثلث السني غرب بغداد، هناك حيث الأعمال العسكرية تتضاعف، ويتضاعف أيضاً سوء التفاهم بين القوات الأميركية والسكان. وهناك أيضاً يمكن رصد بداية تحول في الميول، مع ثباتٍ على رفض الوجود الأميركي. تحقيقات من الفلوجة والرمادي ولقاءات مع شيوخ العشائر والضباط السابقين. وعودة الى بغداد لرصد بداية تبلور نخبة بغدادية سنية غير صدامية ولكنها أيضاً رافضة للوجود الأميركي. تبدأ "الحياة" اليوم بنشر سلسلة من خمسة تحقيقات عن موضوعات مختلفة من العراق بدءاً من مثلث المقاومة ثم الوثائق التي خلفها النظام السابق وختاماً بتحقيق يتناول أوجه العيش العادي للعراقيين اليوم. السائق الذي اقلنا من بغداد الى مدينة الفلوجة، كان عراقياً من مدينة الحلة في الجنوب. رجل أربعيني خدم في الجيش العراقي نحو تسع سنوات، هي فترة الحرب العراقية - الايرانية، وهو كحال الكثيرين من اهل الجنوب، ولد في بغداد وما زال مقيماً فيها. انه "ابو زينب" كما يحب ان ينادى، على رغم ان بكره محمد، لكن الرجال في العراق يرغبون احياناً في ان يذكروا بأبوتهم للفتيات لا ل"الوْلد"، فذلك يشعرهم بوظيفتهم كحماة للإبنة الضعيفة، ويعزز احساسهم بالنخوة والحمية. ألم يُنادى صدام في السابق ب"ابو حلا"؟ واحياناً ابو العراق. و"أبو زينب" عمل في الجيش سائقاً ايضاًَ، وتنقل بين الجبهات في شاحنة صغيرة ناقلاً الطعام والعتاد الى الجنود والقطعات، ثم سائقاً ومرافقاً لعدد من ضباط الجيش العراقي. وما ان وصلنا الى الفلوجة حتى توجه ابو زينب بسيارته ال"غولف" الحمراء التي ارسلها أخيراً له شقيقه من المانيا، الى منزل الضابط الأخير الذي عمل معه خلال فترة خدمته الطويلة في الجيش. المنزل الواقع شرق المدينة لطالما قصده ابو زينب حاملاً لعائلة الضابط الأغراض التي يرسلها سيده في الجيش. اللقاء بين الجندي الذي يعمل اليوم سائقاً على سيارة جديدة، وبين قائده المسرّح من الخدمة والجالس في منزله مرتدياً الزي العشائري كان مفارقاً. خجل متبادل ولحظات من الحزن والصمت. في هذه اللحظة الضابط كان ضابطاً والجندي جندياً، وابو زينب السعيد بسقوط النظام وقف حزيناً امام الضابط الفلوجي الذي عامله بلطف اثناء خدمته العسكرية وأعفاه من عقابات كان يستحقها حين كان يعود متأخراً من اجازاته. شكل سقوط النظام انفراجاً لأبو زينب وبطالة وانسداداً لأفق العيش لقائده. انقلاب كامل في الأوضاع لم يصحبه حتى الآن انقلاب في المراتب، اذ سأل الضابط ابو زينب ان كان ينقصه هو او عائلته شيء، واجاب ابو زينب ان الأمور تسير معه في شكل جيد، ولكنه في المقابل لم يتجرأ على سؤال سيده السابق عن اوضاعه متفادياً بذلك الحرج الذي يمكن ان يسببه السؤال، فاكتفى بأرسال نظرات حزينة ومتعاطفة. كان موقفاً بالغ التعقيد، ومتفاوتاً بين ازدهار اوضاع الجندي السابق وتدهور حال الضابط، ومترافقاً مع حزن متبادل لما آلت اليه الظروف. في اسواق الفلوجة ستعثر على المئات من هؤلاء الضباط الذين دفع بهم سقوط النظام في العراق الى الأسواق، وهم الآن جالسون في المتاجر الصغيرة لأقاربهم، لا يعملون ولكن قتل الأوقات يقتضي توزيعها بين الأسواق والأقارب. فالمدينة كانت واحدة من اكثر المدن العراقية ولاء للنظام، وقناة الولاء كانت المؤسسة العسكرية واجهزتها المختلفة. ولكن الى جانب هذا التعريف بالمدينة هناك تعريفات اخرى تصب جميعها في تفسير واحد لما تشهده الآن الفلوجة. فهي ايضاً اكبر مدينة في العراق لجهة عدد المساجد المنتشرة فيها قياساً بعدد السكان، وهي ايضاً مدينة العشائر الأولى، فاللحمة العشيرية فيها اقوى وامتن من قريناتها في المدن العراقية الأخرى، وثمة ذروات اخرى تتصل بوظائف تضافر اللحمة العشيرية مع الانتماء الى المؤسسة العسكرية وما رافقها من امتيازات سمحت بتجاوز المحن التي عاشها العراق كله في العقدين الماضيين. النازل الى الفلوجة من الشارع المتفرع من الأوتوستراد الهائل الذي يربط بغداد بالحدود السورية والأردنية ستلوح له المدينة كتجمع للمساكن المكتظة التي تشوبها خضرة ضعيفة وغمامة غبارية يقلل من وطأتها نهر الفرات الذي يعبر من غرب المدينة اثناء توجهه الى بحيرة الحبانية التي تبعد نحو 30 كيلومتراً الى الغرب من الفلوجة. العلامات عند مدخل المدينة صارت معروفة لشدة ظهورها في الأفلام التلفزيونية والصور الصحافية. انها المستشفى الأردني المهشم على مدخل المدينة لجهة الحي الصناعي. وفي المحيط منازل واطئة، ومتاجر تشهد اقبالاً ومآذن مساجد كثيرة. ثمة نمو حديث لأطراف المدينة، فالأحياء التي تمددت في السنوات العشر الأخيرة شكلت حزاماً ليس بائساً حولها. ويقول السائق الذي كان كثير التردد على المدينة في بداية التسعينات انه يكاد لا يعرف معظم الأحياء لشدة التبدل الذي اصابها. هذه المنطقة اعطاها صدام حسين للضباط كي يبنوا فيها منازلهم، ولكن هناك منطقة اخرى مجاورة زرعت فيللاً جديدة. السيارة تتغلغل في الأحياء متخففة من الحذر الذي رافق التحضير لزيارة المدينة والذي احدثه تواتر الأخبار عن الاضطرابات اليومية التي تشهدها. فأبناء المدينة وفي موازاة الحرب التي يخوضونها ضد الأميركيين وضد الأوضاع الجديدة، يستأنفون ايضاً حياتهم العادية وتبادلاتهم اليومية، مما يخلف بعض الارتخاء والهدوء. والفلوجة هي المدينة الأقرب الى بغداد بين مدن محافظة الأنبار التي كان يطلق عليها سابقاً محافظة الدليم نسبة الى عشائر الدليم المنتشرة فيها، وهي اكبر محافظاتالعراق لجهة مساحتها التي تبلغ نحو170 ألف كيلومتر مربع، وهي ايضاً المحافظة التي تضم حدود العراق مع ثلاث دول هي سورية والأردن والسعودية. لكن على رغم تمثيلها اكثر من ثلث مساحة العراق لا اثر في الأنبار للنفط، وهي ايضاً فقيرة بالمياه اذ يعبر الفرات من طرفها متجهاً الى الجنوب وتاركاً تلك البادية الشاسعة جافة تماماً، فيما يمتد ذلك الجفاف فيلامس الطبائع. فأبناء الأنبار استعاضوا عن المياه بمادة حياة بديلة، انها ذلك التماسك الذي يرطّب عيشهم ويجعله ممكناً. فالصحراء قاسية وممتدة الى ما لا نهاية ولا يمكن ضبطها الا باستمرار العشيرة علامة وحيدة للحياة. الفلوجة ليست عاصمة المحافظة، ولكنها اقرب مدنها الى بغداد، كما ان للمدينة خصائص اخرى تجعلها علامة الأنبار. انها مدخل المحافظة الى بغداد، واكثر مدن المحافظة ازدهاراً اقتصادياً وتديناً وعشيرية وانتماء للبعث. ولهذه العلامات وظائف في الصورة التي انتهت اليها الفلوجة اليوم، اي صورة المدينة المنتفضة على الأوضاع الراهنة. ولا يمكن الحديث عما يجري الآن في الفلوجة والأنبار بمعزل عما شهده العراق في السنوات ال12 الأخيرة، اذ شهدت هذه السنوات تبدلاً في احوال العراق كله، فانتقلت وحدات اجتماعية من حال الى حال وتحولت اقتصادات الجماعات بفعل نظام النفط في مقابل الغذاء الى عملية ارتزاق كاملة لا يتوسطها قناع رقيق او ادعاء، اما قبضة الدولة والنظام على المجتمع فاشتدت في مواضع وضعفت وتلاشت في مواضع اخرى، والفلوجة خصوصاً والأنبار عموماً من المناطق التي ازدهرت في الوقت الذي كان العراق كله محاصراً بالنفط في مقابل الغذاء، وبتحول الاقتصاد من الرعاية الدولتية المشوبة بالتزلم والانتماء الى العشيرة والحزب الى التزلم الذي لا تشوبه شائبة. فالمحافظة حدودية بامتياز وعملية التحايل على نظام النفط في مقابل الغذاء عبر التهريب واستبدال السلع المقايضة بالنفط، واستبدالها بسيولة نقدية عبر اعادة بيعها، معظم هذه العمليات كانت تتم عبر محافظة الأنبار، وساهمت فيها تحالفات عشائرية وعسكرية. للضباط امتيازاتهم وهباتهم وللعشائر علاقاتهم التاريخية عبر الحدود مع امتداداتهم العشائرية في الدول المجاورة. اما النظام وأجهزته ففي مقابل مضاعفة قبضته على العراقيين اضطر وبفعل اهتراء اجهزته وتآكلها الى حماية خاصرته الأنبارية عبر التغاضي عن التحالف بين قادة في الأجهزة الأمنية من ابناء الأنبار وبين عشائر انبارية كان صدام اعاد تشكيل مشيختها. وهذا التغاضي امتد ليشمل نواحي لم يكن النظام العراقي في وارد التغاضي عنها في السابق، اذ امن هذا التحالف بعض الحماية لمجموعات دينية بدأت تظهر في المساجد الأنبارية خارجة عن المفهوم البعثي للاسلام وللالتزام الديني. صحيح ان النظام شن حملات تأديب في حق عدد من ابناء الأنبار الذين انخرطوا في انشطة دينية واجتماعية مغايرة ومتسللة من دول الجوار، لكن حملات التأديب هذه اقتصرت على السجن لفترات قصيرة وارسال التحذيرات لهؤلاء الناشطين، وبقي هؤلاء مشمولين بالحماية العشائرية اولاً وبشبكة قراباتهم مع مسؤولين في الأجهزة الأمنية المختلفة. ولاحقاً سيكون لهذا النظام وظيفته المركزية في حركة ما يسمى "المقاومة"، فقنوات التهريب وطرقه وامواله هي اليوم نفسها قنوات "المقاومين" وطرقهم واموالهم ومؤيديهم العرب، فيما تشكل البيئة الايمانية التي تشكلت في الأنبار في تسعينات القرن الفائت من خلال التسلل عبر الحدود للأفكار والدعاة، الحاضن الأول لهؤلاء "المقاومين". يمكنك ان تشعر في الفلوجة ان "المقاومة" نمط حياة ألفه اصحابها وشكل امتداداً لأنشطة عادية كانوا يؤدونها في السابق. طرق الصحراء عينها تلك التي طالما سلكوها لأغراض الالتفاف على قانون النفط في مقابل الغذاء، والتسلل عبر الحدود بسيارات ال"فورويل درايف"، وربما مقايضات وعلاقات مع عشائر وتجار من المناطق المجاورة. التوسع الجديد للوقائع التي تشهدها الفلوجة اليوم صلة اكيدة بهذا الواقع، وفي مشاهد الحياة اشارات كثيرة تردك اليه. فالتفاوت في الأحياء وفي حركة العمران غير خاضع لمنطق التفاوتات في المدن، ثمة شيء يشعرك بأن الأحياء الجديدة في المدينة انما نمت وتمددت بعد تبدل سريع في الأوضاع حوّل الحياة في اتجاه مختلف. الأمر لا يتعلق بحركة توسع عمراني طبيعي، هذا الأمر يمكن تسجيله قبل المباشرة بالحديث مع السكان. فالشيخ داود البوشديد شيخ عشيرة البوشديد في الفلوجة يقول: "ان اوضاع ابناء الفلوجة اكثر من جيدة، ومرت فترات صعبة على كل العراقيين لم تمر على اهل الفلوجة. ففي الفلوجة التكاتف العشائري موجود وهذا مكن ابناء البلدة من الوقوف في وجه المصاعب. حالتنا الاقتصادية جيدة اكثر مما يعتقد الجميع". وطبعاً لم يسق الشيخ داوود كلامه في اتجاه رسم علامات استفهام حول سر هذا الأزدهار في ظل تدهور اوضاع العراق كله، فهو يراه طبيعياً، وهو من ناحية اخرى احد اسرار صمود المدينة في وجه الأميركيين بحسب اشارات الشيخ. وفي اسواق المدينة انت حيال حركة بيع وشراء كثيفة، في حين تدور الحرب على الأميركيين خارج اسوار السوق. محال تجارية كثيرة يقف فيها اكثر من بائع هم على الأرجح صاحب المتجر وقريبه الذي كان ضابطاً او عسكرياً وهو اليوم عاطل عن العمل. ظروف كثيرة ترشح المدينة لمصادمات مع الأميركيين. هؤلاء الضباط الغاضبون يشكلون واحدة من الحقائق الثقيلة لعراق ما بعد صدام حسين. كلمة واحدة في السوق ويتجمع عشرات منهم شارحين اوضاعهم، وخالطين بين عدائهم للأميركيين والحال الذي اصابهم من جراء حل الجيش. وبعد شرح مسهب لأسباب رفض اهل الفلوجة الأميركيين يشرع هؤلاء الضباط المنتشرون في الأسواق في شرح ضائقتهم الشخصية، فيقول ابو باسل: "انا ضابط متقاعد في الجيش اسرت في ايران خلال معركة القادسية وبقيت في الأسر عشر سنوات، ثم افرج عني قبل نحو ثلاث سنوات. واليوم انا من دون عمل بعد حل الجيش ولم اتقاضَ في الأشهر الستة الفائتة سوى مبلغ مئة دولار، في حين انا اب لتسعة اطفال اضافة الى زوجتي". اما ابو عمر الذي كان يقف مستمعاً لشكوى زميله، فله قصة مختلفة، فهو مقدم في الجيش لكنه حرم من اي راتب بسبب عضويته في فرقة حزبية الى جانب عسكريته وهو جزء من عقاب جماعي يتعرض له البعثيون في العراق كله، علماً ان ابو عمر زوج لأمرأتين ولديه من الأبناء عشرة. وشكوى هؤلاء الضباط لا تأتي في سياق مطلبي يهدف الى تصحيح وضع سائد بقدر ما هي سعي لاعطاء صورة واحدة لسقوط النظام، وتتمثل في انهيار كل شيء، فهكذا مثلاً لا تنسجم مطالبتهم برواتبهم مع رفضهم الكامل للاحتلال الذي من المفترض ان يكون هو من يدفع الرواتب. ضباط الجيش العراقي المنتشرون في الأسواق اصحاب الوجوه السمراء والمنتفخة، والمحددة شواربهم بدقة، تحولوا الى نوع اهلي، وراحو يتكلمون بأصوات غير معهودة بالعسكر. ضباط كبار يشعرون ان في نزولهم الى الأسواق مهانة كبرى، وهم يفعلون ذلك من باب حقن النفس بمزيد من الغضب. وفي ظل هذه الأوضاع اصبح من المؤكد ان ثغرات كبيرة من هذا النوع يتسلل منها ناشطون بعثيون في حوزتهم مبالغ كبيرة يمكن في حال استثمارها ان تنتج "مقاومة" واعمالاً عسكرية مختلفة، فيتحدث الأمنيون في منطقة الأنبار مثلاً عن عضو في القيادة القطرية لحزب البعث يدعى فرحان المحمدي وهو من ابناء الفلوجة ومتوارٍ في ريفها ويقوم بتجنيد عدد من أبناء عشيرته والعشائر الأخرى عبر اغراءات مادية وفي ظل حال من البطالة التي قد تصل في ريف الفلوجة الى 80 في المئة. الشبان الواقفون امام احد الأفران خارج سوق الفلوجة تقدموا من سيارتنا وعرضوا بيع صور لعمليات عسكرية ضد الأميركيين. انها البضاعة التي يعلمون ان الصحافيين لا يقاومون اغراءها. قالوا انهم يؤيدون "ابو عداي"، وانه عائد لتأديب الجميع، اما بالنسبة للصور التي عرضوا بيعها فهم حتى الآن لم يلتقطوها ولكن في وسعهم كما قالوا التقاطها ساعة يشاؤون، فالأميركيون قريبون وتنفيذ عملية بهدف تصويرها امر في غاية السهولة. انهم الفتيان انفسهم الذين يخرجون بعد كل عملية، ويلتقط المصورون الصحافيون صورهم رافعين صورة صدام حسين، وصاروا محترفين في علاقتهم بالصحافيين، ويشكل هؤلاء احدى مستويات العلاقة بين الفلوجة والعالم، ولكنهم ليسوا صورة الفلوجة الوحيدة. فالبعث في الفلوجة اليوم ليس سوى ديكور هش لواقع أعقد. الولاء لصدام في المدينة واضح، لكنه هش. فراغات كبيرة بدأت تملؤها افكار وانتماءات اخرى لا تعلن عداءها للبعث ولا غربتها عنه، ولكنها ولاءات اخرى من دون شك. الصبية هؤلاء وربما اهلهم الخمسينيون هم اقوى صور البعث، وبينهم وبين اهلهم ثمة اجيال ما عاد البعث يشبع تطلعها. انه التحول من التدين التقليدي الى الاسلام الحركي الذي اتاحه سقوط النظام في بيئة مؤيدة لهذا النظام ولكنها في الوقت عينه جاهزة تماماً للتحول عنه. لا يمكن التأريخ لهذا التحول في الفلوجة بيوم سقوط النظام، فقد سبقت هذا التاريخ عوامل كثيرة. فالتعريف البديهي للفلوجة في العراق هو انها مدينة متدينة. ويتحدث عدد من ابنائها عن طموحها للتحول الى حوزة السنة في العراق، فمدارسها الدينية والفقهية ودور الافتاء فيها كانت وما زالت مركزاً للفتوى ولانتاج الكتب الدينية، ومن ابناء المدينة عدد كبير من علماء الدين السنة الذين تخطت سمعتهم المدينةوالعراق مثل الدكتور احمد الكبيسي والشيخ عبد العزيز السامرائي. وفي المدينة ثلاث ثانويات دينية يتخرج منها سنوياً عدد من الدعاة الذين يؤهلون للالتحاق في كليتي صدام للشريعة او الفقه في بغداد. ويتحدث ابناء الفلوجة عن رفض مدينتهم اي مظهر آخر يمكن ان يتسلل اليها حتى خلال حكم البعث، فقد تم وخلال سنوات حكم صدام تفجير دور للسينما حاول البعض افتتاحها في المدينة مستفيداً من سماح النظام له بذلك، كما فجرت في السنوات العشر الأخيرة محلات لبيع الأشرطة الموسيقية ومحلات الفيديو. ولكن من الواضح ان النظام نجح في ابقاء ميول المدينة هذه ضمن منطقته عبر انخراطه فيها ورعايته لوقائعها، فتولى هو الاشراف على المدارس الدينية عبر وزارة الأوقاف ولم يجعل من تحرك بعض الشباب لتفجير السينمات ومحلات الموسيقى قضية امنية كبرى، هذا فيما تولت الحملة الأيمانية التي باشرها صدام قبل عشر سنوات من سقوطه المواءمة التامة بين ميول المدينة ونزعة النظام الى الاحتماء بالمسجد والعشيرة، فراح صدام يُنشئ المدارس الدينية ويعطيها اسمه، وبادر الى بناء المساجد العملاقة والى ترميم المساجد القديمة، واضاف عبارة الله اكبر الى العلم العراقي. لكن البيئة الفلوجية التي اندمجت فيها ميول النظام الجديدة ومشاعر السكان لم تكن في منأى عن اختراقات طفيفة شكلت في ما بعد نواة للتحول الذي تشهده الفلوجة اليوم. فتتحدث صحافية من الفلوجة عن ان التسعينات شهدت ايضاً تشكلاً لمجموعات اسلامية لم يسبق ان عرفتها المدينة، فبدأت تظهر لحى طويلة واثواب شرعية، ومجموعات سلفية قامت ذات يوم بشراء مجموعة اجهزة تلفزيونية وحطمتها في احد شوارع المدينة، مما اضطر النظام وفي عز الحملة الايمانية الى اقفال احد المساجد لإيوائه عدداً من هؤلاء. ويتحدث ابو حارث عن شقيقه الكبير وهو واحد من هؤلاء المؤمنين ويقول: "شقيقي الكبير معهم، وهو طرد من الجيش بسبب هذه التوجهات وأصبح عاطلاً من العمل، فصار يقضي معظم وقته في الجامع. البعثيون سمحوا لهم بالنشاط مع مراقبة دقيقة لهم، فكانوا يداهمونهم كلما توسعوا. حصل هذا الأمر عشرات المرات في الفلوجة وابو غريب. شقيقي لم يسجن لأن شقيقي الثاني الأصغر كان مسؤولاً في حزب البعث فتمكن من حمايته". الخاصرة الرخوة للنظام يبدو واضحاً ان البطش الذي عهده العراقيون في نظامهم السابق لم تُعامل بموجبه هذه المجموعات، ومن المرجح ان ذلك حصل لأن النظام كان بمعنى ما ضعيفاً في الفلوجة والأنبار كلها، فهو كان يستمد قوته من هذه البيئة ومن الصعب تالياً ان يمارس قوته في المركز الذي يستمدها منه، فاضطر الى اقامة توازن اتاح هذه الاختراقات. اعتقل الأميركيون امام مسجد الفلوجة الكبير الشيخ جمال شاكر وشقيقه وابن شقيقه، والشيخ جمال رجل ستيني يشرف على المدرسة الدينية. جدران المدينة كلها اليوم مليئة بالشعارات الداعية للافراج عنه، وبشعارات التهديد في حال عدم اطلاقه. جميع اهل الفلوجة يتحدثون عن اعتقال الشيخ جمال، وصوره المستنسخة بآلات قديمة ملصقة على الجدران، اما انصاره فيتحدثون في الشوارع ومن دون حرج عن تنفيذهم عمليات انتقامية ليس بسبب اعتقال الشيخ فحسب وانما ايضاً لدخول الأميركيين الى المسجد وانتهاكهم حرمته. "السلاح في أيدي الجميع" يقول احد انصار الشيخ، ويضيف: "كل عراقي سبق ان تدرب على السلاح وخدم في الجيش وهو يجيد المقاومة"، اما الشيخ محمد خضير الزوبعي وهو استاذ في كلية العلوم الاسلامية في بغداد وعضو الهيئة الادارية لتجمع العلماء المسلمين فرع الفلوجة، فيقول: "من الصعب على اي امام مسجد ان يلقي خطبة في الفلوجة لا تتضمن دعوة الى الجهاد، فالناس يطالبون بإلحاح بالحض على الجهاد". وعن هوية منفذي العمليات ضد الأميركيين يقول: "ان من ينفذ العمليات المهمة هم شباب مؤمنون. جماعة النظام السابق دورهم محدود وهم جبناء، ويحاولون بعد كل عملية تحصل مصادرة هذه العملية عبر التظاهر والتهليل ورفع صور صدام حسين". ويضيف الشيخ: "هناك ثلاث ثوابت في الفلوجة وهي المساجد والعلماء والقبائل، العامل القبلي يدفع الى الثأر من المحتل والعمل الديني الى جهاده". الفترة الزمنية القصيرة نسبياً التي تفصلنا عن سقوط النظام في العراق كانت كافية بالنسبة لسكان في الفلوجة لتحقيب هوية المقاومة وفقاً لفترات زمنية موزعة على الأشهر السبعة هذه، فتقول سيدة من المدينة ان "المقاومة" في البداية كانت عشائرية، وناتجة من الصدام الأول بين الأميركيين واهالي الفلوجة والذي سقط فيه نحو 15 من ابنائها، مما استدعى عمليات ثأرٍ قامت بها العشائر، وبعد فترة زمنية قصيرة بدأ رجال النظام بالعودة الى مدينتهم بعدما كانوا موزعين في العراق كله بفعل خدمتهم في الأسلاك العسكرية، في حين كان عدد كبير منهم وخصوصاً المسؤولين الكبار قد غادروا الحدود الى سورية ثم عادوا بعدما طلب منهم السوريون ذلك، وباشر هؤلاء اعمالاً عسكرية مستفيدين من خبراتهم ومن امكاناتهم المادية، وترافقت عودتهم مع مباشرة المساجد بالدعوة الى الجهاد. وتضيف السيدة: "ولكن في الفترة الأخيرة بدأنا نشاهد رجالاً غرباء يتنقلون في المدينة وهم غير عراقيين على الأرجح". تتمدد الفلوجة على الضفة الشرقية لنهر الفرات. مشهدها ملتقطاً من جهة النهر يطفئ السخونة المرافقة لحكاياتها هذه الأيام. المدينة تعيش اياماً عادية، وليس ما يحدث سوى استمرار لأنماط العيش والسلوك. الأميركيون في هذا المعنى يعيشون مأزقاً اعمق من السياسة. فالعمليات ضدهم اذا ما كانت امتداداً لعمليات الثأر التي تخوضها العشائر منذ مئات السنين، وطرق المقاومين سبق ان اختبرها المهربون وحفظوها، والحدود القريبة لم تكن يوماً حدوداً، فهم بهذا المعنى حيال وضع جديد يجهلونه ويقعون كل يوم في افخاخه. الصحراء الممتدة خلف النهر تشكل متاهة يخترقها طريق معبد وطويل وينتهي في نقطة يعجز النظر عن تحديدها. انها طريق الحبانية المرتبط اسمها بقاعدة الحبانية العسكرية، وعلى جانبي الطريق آليات عسكرية من ذلك النوع المتفشي في الكثير من المناطق الصحراوية في العراق، دبابات وشاحنات محطمة، وطرق رملية فرعية مفضية الى انحاء اخرى من المتاهة. وفي نهاية الطريق المعبد يلوح فجأة بحر كبير في وسط الصحراء. فالنهر الملتف حول بادية الحبانية والمتخفي خلف التلال الرملية يعود ويصب في البحيرة الاصطناعية تلك، فتظهر للزائر الذي لم يسبق له ان قصد المنطقة مباغتة نظره هو الذي لا ينتظر من هذه الصحراء الا الرمال المتواصلة. ثم تبدأ المنشآت السياحية المتآكلة التي انشئت على الضفة الغربية للبحيرة بالظهور، ويلوح قصر صغير وطريق فرعي يفضي اليه. "انه قصر عداي صدام حسين وهذا يخته" يقول العامل المصري الذي يعمل هناك، فالأستاذ كما يسميه العامل كان يحب قضاء اوقات طويلة في هذا المنتجع. * غداً حلقة ثانية، عن عشائر الرمادي و"المقاومة"