كلمة السر التي يحفظها معظم السجناء المحكومين بجرائم الإرهاب في سجن سوسيه القريب من مدينة السليمانية في شمال العراق، والذي تشرف عليه وزارة العدل العراقية، ويديره آمر كردي، هو أن الاعترافات التي حوكموا على أساسها انتزعت منهم تحت التعذيب، ولا أساس لها من الصحة. وبعد ذلك تبدأ الحكايات التي تتقاطع كلها عند حقيقة أن تنظيم «داعش» الذي ولد في العراق، إنما ولد في شكل خاص في السجون العراقية، وليس سجن بوكا في البصرة لوحده من صنع للتنظيم قيادته الراهنة، بل ثمة سجون أخرى ومنها سجن الأحداث في الموصل، ساهمت في هذه المهمة التي يكملها اليوم وفق السجناء، سجن الناصرية الذي نُقل إليه معظم المحكومين غير العراقيين بتهم الإرهاب. السجناء الذين التقتهم «الحياة» في سوسيه تم اختيارهم من بين 1200 سجين محكوم عليهم بتهم تتعلق بالإرهاب، وطبعاً وافق جميعهم على اللقاء، وبعضهم وافق على التقاط صور له. «إنهم أمراء في تنظيماتهم» قال آمر في السجن، ومنهم من تجاوز ضحاياه الثلاثين قتيلاً على ما أضاف. لكنهم في مرحلة العودة عن اعترافاتهم، ذاك أن قانون عفو يلوح في العراق والمحامون يعملون معهم لكي يشملهم. وليست اعترافاتهم المباشرة هي ما يصنع سياق القصة، قصة صعود «داعش» وقبله «القاعدة» إنما السياق الذي حدثت فيه وقائع الاعترافات، والتي تؤشر كلها إلى أن لا أحد بريء من هذا الصعود، لا بل أن صناعة «داعش» و«القاعدة» تمت وفق ما كان الجميع يتوقع. فطارق عبدالكريم يقول إنه أعتقل في المرة الأولى في الموصل في العام 2006 وكانت التهمة الانتماء إلى مجموعات مسلحة وحيازة أسلحة. وأضاف «كنا نقاتل الاحتلال ضمن مجموعات محلية ويقودنا ضباط سابقون في الجيش المنحل. لم نكن نحمل فكراً جهادياً». وحكم على طارق لمدة ثلاث سنوات أمضاها في سجن الأحداث في الموصل، ذاك أنه لم يكن بلغ الثامنة عشرة من عمره. يقول طارق أنه في السجن تم تحول في تفكيره. «في السجن اختبرنا كل شيء وتعرفت إلى وجه الله وآمنت أن الجهاد يجب أن يكون تحت راية لا إله إلا الله». أما منير حمود حمادي من منطقة الحبانية في الأنبار، فيكبر طارق بعشرين سنة، وكانت له تجربة في سجن بوكا الشهير في البصرة، السجن الذي تشكلت فيه قيادة «داعش» الحالية والذي سجن فيه أبو بكر البغدادي، وهذه التجربة في السجن سبقتها تجربة في «الجهاد البعثي» في حينها فألقي القبض عليه وحكم بدوره ثلاث سنوات، أي من عام 2006 إلى عام 2009، وأفرج عنه بعدها. وقصة منير أقل وضوحاً من قصة طارق، إلا أن عناصرها تؤشر أكثر إلى الظروف التي تبلور في ظلها «الجهاد»، ذاك أن طارق بعد سنوات «الجهاد البعثي» وسنوات سجن بوكا لم يعد إلى قريته وعشيرته في الحبانية، بل قرر أن يترك زوجتيه مع أهله، وأن يقيم في بغداد، وفيها تزوج من ثالثة. لا يُقدم منير أسباباً واضحة لاختياره بغداد للسكن بعد الإفراج عنه، لا سيما أنه اتهم بقتل ضابط كبير في الجيش العراقي وإمام مسجد من منطقته، وقدم اعترافات بارتكاب جرائم في منطقة الحبانية، بلدته التي قرر عدم العودة إليها. وهو إذ يشير إلى أنه قبل الاحتلال كان مؤمناً بأن صدام حسين رئيس عادل وشجاع، وأنه خاض «جهاده» الأول ضد الأميركيين في سياق هذا الإيمان، يشير إلى تغيير أصابه في أعقاب الإفراج عنه من سجن بوكا. فهو ألبس نساءه وزوجاته الخمار، بينما كانت والدته ترتدي العباءة العربية، من دون أن تغطي وجهها. ومنير، وخلافاً لطارق، يبدو على رغم سنوات السجن قاسي الوجه وصلب الملامح، وأكثر ثقة وحذراً. ويشعرك الرجل أن الوقائع التي حفت بالعراق منذ الحملة الإيمانية التي باشرها صدام في أواسط تسعينات القرن الماضي ومروراً بسقوط النظام وحل الجيش، ووصولاً إلى الحرب الطائفية بين الأعوام 2006 و2009، ما كان لها إلا أن تفضي إلى ولادة «داعش». الوقائع في سياق رواية منير لما حدث له تُمرر على نحو بديهي. فهو تزوج للمرة الثانية من زوجة شقيقه الذي قتل في حرب الفلوجة الثانية. وحين تسأله عن ظروف مقتل شقيقه، يقول إنه كان مدرساً وسائق سيارة، وقتل أثناء محاولة الأميركيين التقدم إلى الأنبار في العام 2005. ومنير لم يُنجب منها، ذاك أن لديها طفلين من شقيقه القتيل. يمرر منير في حين يروي قصته، حكاية الأنبار وعشائرها مع مرحلة السقوط وقبلها وبعدها، ذاك أن عشائر غرب العراق والتي اختلطت بعثيتها بولاءاتها المحلية تخبطت في حينه بين موقعي المحتل الأميركي، وغرباء «القاعدة» القساة الذين قادهم في حينها أبو مصعب الزرقاوي، فكانت ولادة الصحوات التي التحق فيها من ناصب «القاعدة» العداء، وغاب عنها من بايع الزرقاوي، وكانت مرحلة سجن بوكا الذي ضم الآلاف من هؤلاء، والذين أفرج عنهم بعد إقفال السجن، فلم يلتحقوا بعشائرهم، إنما اختفى بعضهم في الصحراء، ولجأ بعضهم إلى مناطق لا يعرفهم فيها أحد في بغداد، ومنها شرعوا بالتحضير ل «فتح المدن» ولتصفية كل من يمكن أن يقف في وجههم. في اعترافات منير أنه أقدم على قتل الضابط العراقي ابن منطقته، والمتعامل مع المحتل الأميركي وفق ملف التحقيق والقرار الاتهامي، إلا أن لمنير اليوم رواية موازية، فيقول إن ضابطاً في الجيش العراقي كان أعطاه سلاحاً ليقاوم فيه الأميركيين، هو من شهد ضده في المحكمة، وهذا الضابط هو ابن ضابط كبير في الجيش كان شارك في الحرب العراقية الإيرانية، وبعد دخول الأميركيين اغتاله الإيرانيون ضمن حملة تصفيات استهدفت كل من شارك في الحرب ضدهم من قادة الجيش العراقي. خاف الضابط الإبن على نفسه، ولكي يثبت ولاءه قدم شهادة زور بحق منير، فاعترف منير تحت التعذيب بأنه هو من اغتال الضابط قريبه وقتل معه إمام مسجد المنطقة الذي كان بدوره متعاوناً مع الحكومة في بغداد. لكن المرحلة بين 2006 و2009، والتي تمت خلالها الولادة غير الرسمية لتنظيم «داعش» على يد أبو مصعب الزرقاوي تغذت من أكثر من ضائقة الأنبار. فيروي السجين الثالث محمود محمد كمال أحمد، وهو فلسطيني كان يقيم في منطقة بغداد الجديدة، وفي اعترافاته أنه اعتقل أثناء عملية نفذت في شارع فلسطين على الجيش الأميركي عام 2007، أن عام 2006 شهد مقتل صهره وخاله وزوج خالته على يد جيش المهدي خلال الأحداث الطائفية التي شهدتها بغداد في حينها. ومحمود الذي يبدو أنه بصدد إعادة النظر باعترافاته بانتظار قانون العفو، يشير بدوره إلى «حياة رغيدة في زمن صدام حسين»، وإذا كانت تهمته الانتماء إلى تنظيم التوحيد والجهاد في حينها، فإن هذا التنظيم هو عراقي وليس جزءاً من تنظيم «القاعدة». وإذا كان كل من طارق ومنير قد قدما إلى السجن وقبله إلى «المقاومة والجهاد» من مناطق صفاء طائفي، لا احتكاك فيها بين جماعات الشيعة والسنة وميليشياتهم، فإن محمود حمل في روايته الكثير مما يؤشر إلى احتقانات أهلية ومذهبية دفعت بالكثير من الفتية، لا سيما فتية الأحياء البغدادية إلى أحضان «القاعدة» و «داعش». فيروي محمد كيف تم إحراق مسجد سامراء في بغداد في العام 2006، ويشير إلى قناعته بأن الأميركيين حلفاء الشيعة وهم من وقفوا وراء تهجير السنة من أحيائهم في بغداد في ذلك العام. وكل التواريخ التي يعطيها محمد للأحداث التي حملت ظلامته، هي في عام 2006، أي العام الذي سبق وقوع العملية التي اتهم بتنفيذها وحوكم بناء على اعترافاته بالاشتراك فيها، إلا أنه اليوم يكتفي من هذه الاعترافات بأنه كان يناصب العداء للمحتل الأميركي، من دون أن يُنفذ أي عمل عسكري ضده. يقول منير: «حالياً نساؤنا من دون خمار، فلبس الخمار شبهة بعد أن سيطرت على منطقتنا جماعة هادي العامري»، وهو حين أشار إلى ذلك شرع ببكاء خفيض. النساء كابوس هؤلاء، وأرقهم الذي لا يوازيه أرق، وثمة عشرات الحكايات التي تجعل من المرء يعتقد بأن ورماً نفسياً متوارثاً يلح على هؤلاء، ويشكل ضائقة موازية لضائقات أخرى هي ما دفعهم إلى ما هم فيه. فهم يعيشون في شكل متواصل على حافة عارٍ يمكن أن يلحقهم بسبب نسائهم. وفي هذه اللحظة تتقدم بنية ذهنية ونفسية عشائرية على قيم البعث، فيما يتولى الوعي السلفي المستجد تحويلها عنفاً. «نساؤنا اليوم من دون خمار»، قالها محمد في سياق عرضه للظلم الذي هو فيه، وهو قالها قبل أن يكشف عن مأساة أخرى ألمت به، فقد قتل ولداه في قصف مجهول الهوية أثناء نزوح العائلة في الحرب الأخيرة في الرمادي، ولم يبق لديه سوى خمس بنات. «أنا اليوم بلا ولد» قال باكياً، وأنت في هذه اللحظة، وإذ لا تملك سوى التعاطف معه تعود لتنتبه إلى أنه يعتقد أن ما بقي من عائلته، خمس بنات وزوجتان لا يعني له شيئاً، فما كان لديه خسره. وهو خسر أيضاً الزوجة الثالثة، إذ بعد أن حُكم بمؤبدين حضر محاميها إلى السجن وطلب لها الطلاق، فكان لها ما أرادت. علماً أن ظروف الزيجة الثالثة بقيت غامضة، في ظل حصولها في بغداد، التي لجأ إليها منير في أعقاب الإفراج عنه من سجن بوكا. يقول المحققون ومديرو السجن أن المحكوم قيثار محمد حبيب (29 سنة) هو من أخطر المحكومين، وأن التهمة التي صدر بسببها بحقه حكم بالسجن لثلاثين عاماً هي مشاركته في عمليات في مدينته كركوك، بصفته أميراً لجماعة محلية منشقة عن «القاعدة». قيثار يُصر على أن التهمة التي حوكم على أساسها هي سرقة ثلاثين مليون دينار عراقي (نحو 23 ألف دولار أميركي) من مخزن للأدوية كان يعمل فيه. وحين تقول له إن الحكم الصادر بحقه أكبر من أن يكون من حجم جنايته، يجيب أن السرقة التي هو بريء منها أصلاً حدثت في الليل، وحكم جريمة الليل هو ضعف حكم جريمة النهار. هذا التفاوت بين ما قاله محمد وما تضمنه ملف قضيته يعيده مديرو السجن إلى أن الشاب لا يريد أن يتكلم، وأنها الرواية التي قرر أن يعتمدها، وهو لم يهدف من قولها إلى إقناع أحد فيها، إنما هي نوع من القطيعة مع المتحدثين معه. وهذا ميل الأمراء الأشداء في التنظيم، فهم لا يرغبون بأي علاقة مع كل ما يحيط بهم، ولا أحد هنا يستحق أن يُناقش أو أن تُروى له قصة أو معلومة. والطريق إلى هذه القطيعة تقديم معلومات غير منطقية مشفوعة بكمية من الدروشة وطلب تصديقها من طريق قولها بصوت متهدج وعيون دامعة. عليك أن تُنقل تركيزك في المعطيات التي يُقدمها المحكومون بقضايا الإرهاب من سجناء سوسيه، بين ما يأخذك إلى بنية ذهنية يتقاطع فيها وعي بعثي قديم مع مستجدات سلفية جهادية أعقبت «الجهاد البعثي»، وفي الحالين تبدو التركيبة العشائرية والقبلية حاضرة في مشاعر هؤلاء. والعناصر الثلاثة، أي العشائر والبعث والقاعدة، تغذي بعضها بعضاً، فتؤلف كائناً أسميناه لاحقاً «داعش». فقبل «داعش» كانت «القاعدة» وقبلهما كان البعث. والانتقال من الأولى إلى الثانية أي من البعث إلى «القاعدة» شهد محاولة أبو مصعب الزرقاوي الطعن بالعشائر، فكان أن انتفضت عليه وتعاونت مع الأميركيين بما أطلق عليه في حينها الصحوات. أما الانتقال من «القاعدة» إلى «داعش» فشهد عودة للعلاقة مع العشائر، مع الاستفادة من الخبرات البعثية على هذا الصعيد. ومن الواضح من روايات المساجين أن ولادة «القاعدة» من البعث و«داعش» من «القاعدة» لم تتم على نحو سلس، إذ شهدت تصفيات وأعمال قتل متبادلة كانت الولادة في سياقها. ولعل ما حصل في الموصل في الشهر الأخير قبل سقوطها بيد «داعش» كان عملية تكثيف لهذه الوجهة، ذاك أن المدينة كانت في حال عصيان وصدام مع الحكومة، وقاد البعث والنقشبنديون والعشائر هذا العصيان، واستثمر «داعش» في خروج المدينة عن سلطة الحكومة، وتقدمت وحدات منه قادمة من الصحراء إلى الشاطىء الأيمن ومنه إلى الأيسر، فيما كانت وحدات الجيش تهرب شرقاً، فاحتل التنظيم المدينة وكان البعثيون والنقشبنديون ضحيته الأولى في أعقاب استتباب السلطة له.