بعد ثلاثة أشهر من العمليات العسكرية، تمكن الجيش من تحرير الرمادي عاصمة الأنبار في أول اختبار تخوضه القوات الأمنية من دون مشاركة فصائل «الحشد الشعبي»، ولكن الأنبار أمام موعد آخر من التحديات بعد التحرير، فالصراعات السياسية على زعامة المحافظة تهدد استقرارها، وحرب ثارات مرتقبة تهدد نسيجها العشائري. ولتحرير الرمادي رمزية كبيرة باعتبارها مركز الأنبار ومقار الدوائر الحكومية، ولكن أمام الحكومة العراقية مهمة كبيرة في تحرير بقية البلدات التي يسيطر «داعش» على غالبيتها، وأبرزها مدينة الفلوجة الأقرب إلى بغداد من الرمادي، وحولها التنظيم إلى قلعة حصينة لم ينجح العديد من العمليات العسكرية في اختراقها. وتعرضت الأنبار لسياسة حكومية جديدة بعد الانسحاب الاميركي من البلاد نهاية 2011 أفضت إلى شق صف العشائر، وشرعت بتهميش قوات الصحوة العشائرية، ولم تتعامل جيداً مع التظاهرات السلمية لسكان المحافظة والتي استمرت لأكثر من عام، وانتهت بانقسام العشائر مع استمالة الحكومة عدداً منها، وجاء احتلال «داعش» للمحافظة ليكرس الخلافات. خلافات عشائرية تتألف التركيبة السكانية للأنبار من العشائر في شكل أساسي منذ عشرات السنين، ولم تتعرض هذه التركيبة إلى تغييرات ملحوظة على الرغم من التحولات السياسية والاجتماعية التي مرت على البلاد، وتسيطر عشيرة أو مجموعة عشائر على مدنها الكبيرة الثماني، وهي مدن مترامية الأطراف تفصل بينها مئات الكيلومترات. ويقول محمد الجميلي أحد شيوخ الأنبار ل «الحياة» ان الأنبار مقبلة على تحديات كبيرة أبرزها إيقاظ خلافات عشائرية خامدة واعتراضات تبديها هذه العشائر ضد الأحزاب السياسية المؤلفة لمجلس المحافظة. ويضيف الجميلي أن «حملة تشويه واسعة بدأت بين القبائل وهناك استغلال لتهمة الانتماء لداعش لتنفيذ تصفيات عشائرية في مسعى لنيل النفوذ والزعامة على المدينة»، محذراً من حرب ثارات قد تندلع بين سكان الأنبار. الخلافات العشائرية بدأت بعد إقدام رئيس الوزراء نوري المالكي على استمالة بعض الشيوخ ليكونوا إلى جانبه مقابل منحهم امتيازات تجارية وأمنية خاصة، وإشراكهم في الانتخابات، بينما اختارت عشائر أخرى عدم التعاون مع الحكومة. والأمر الآخر الذي زاد من الانقسام هو دخول تنظيم «داعش» إلى الأنبار، وهنا كان على قادة العشائر الاختيار بين أمرين إما عقد هدنة مع «داعش» وعدم محاربته، أو التحالف مع الحكومة لمقاتلة «داعش». الخلافات وصلت إلى داخل العشيرة الواحدة، ومثلاً فإن الزعيم العشائري المعروف علي الحاتم الدليمي وقف ضد الحكومة والتزم موقف الحياد من «داعش»، ولكن عمه ماجد السليمان الدليمي وقف إلى جانب الحكومة ضد «داعش». أبرز عشائر الأنبار التي أعلنت التحالف مع الحكومة لمقاتلة «داعش»، رغم ان بعض هذه العشائر ليس على وفاق مع الحكومة ولكنه اعتبر «داعش» أشد خطراً عليه، هي عشائر «البو ريشة»، «الفهد»، «الذياب»، «العلوان»، «العبيد»، «العيسى»، «البوعلي»، «البوبالي» و «النمر». أما العشائر التي امتنعت عن التحالف مع الحكومة واختارت التزام الحياد وانضم عدد من أبنائها إلى «داعش» فهي من «العساف، «الجابر»، «المرعي»، «الجميلي» «العيساوي» و «البو محل» و «الكرابلة»، وهناك عشائر أخرى أعلنت تأييدها للتنظيم في شكل سري. وعلى عكس ما حدث عام 2006 عندما توحدت جميع عشائر الأنبار لمحاربة تنظيم «القاعدة» خصوصاً ان عناصر «القاعدة» كانوا من الجنسيات العربية والأجنبية في شكل أساسي، فإن تنظيم «داعش» زرع التفرقة بين هذه العشائر كما أن قادته بغالبيتهم عراقيون من أبناء العشائر. المعارك الطاحنة التي تشهدها الأنبار منذ عامين، وأدت إلى مقتل المئات من أبناء العشائر على يد بعضهم البعض، تنتظرهم حرب ثارات ستبدأ مع انهزام «داعش»، وأبرز المجازر تلك التي ارتكبت بحق عشيرة «البو نمر» في قضاء هيت، وأكد زعيمها نعيم الكعود ان بعض أبناء العشائر شاركوا في ارتكاب المجزرة. الجميلي يرسم خارطة توزيع الفريقين ويقول ان «الأول من يحارب داعش في مدن الرمادي وحديثة والبغدادي وعامرية الفلوجة، والثاني العشائر القاطنة في المناطق التي يسيطر عليها داعش في الفلوجة وبلدات غرب الأنبار في القائم وعانة وراوة». وبعد أيام من فشل مؤتمر عقد في بغداد برعاية الحكومة في شباط (فبراير) الماضي للمصالحة بين عشائر الأنبار، تحول إلى عراك بالأيدي بين عدد من الشيوخ، نظمت عشائر مؤتمراً آخر أعلنت فيه تشكيل «مجلس عشائر الأنبار المتصدية للإرهاب» برئاسة رافع الفهداوي، واقتصر أعضاؤه على العشائر التي تقاتل «داعش» وابرزها البو فهد والبو نمر والبو ذياب والجغايفة، وأعلنت تأييدها مشاركة فصائل «الحشد الشعبي» في معارك الأنبار. ويرى كامل المحمدي أحد شيوخ الأنبار والموجود حالياً في عمان ان «الحكومة غير قادرة لوحدها على توحيد العشائر لأنها جزء من المشكلة، ويطالب بمساعدة عربية ودولية لتحقيق ذلك». ويضيف المحمدي ل «الحياة» ان «الحكومة تحابي بعض العشائر وتمنحها امتيازات في التسليح وصلاحيات أمنية ولا توافق على تطويع أبناء العشائر في صفوف القوات الأمنية إلا من خلال ترشيحات تمر عبر هذه العشائر، ويجب عليها إنهاء التمييز اذا كانت راغبة بفرض الاستقرار في الأنبار». صراعات سياسية ولا تقل الصراعات السياسية خطورة عن الصراعات العشائرية بل هي انعكاس لها، فالأحزاب والقوى السياسية الأنبارية تستند في شكل كبير إلى العشائر، وتحاول استمالة الأقوى منها ايام الانتخابات. ويسيطر الحزب الإسلامي على الأنبار في شكل أساسي منذ 2003، وشعبيته تراجعت في السنوات الاربع الماضية لحساب تشكيلات سنية اخرى أبرزها ائتلاف «متحدون للإصلاح» بزعامة اسامة النجيفي، ولكن الحزب الاسلامي ما زال يمتلك نفوذاً في الأنبار وينتمي المحافظ الحالي صهيب الراوي اليه، كما يمتلك الحزب مقاتلين في فصائل سنية معتدلة وآخرين ضمن قوات العشائر في عامرية الفلوجة شرق الرمادي. بسبب سياسات الحكومة السابقة باستمالة القبائل وإقناعها بالمشاركة في الانتخابات، شرعت عشائر عديدة بسحب ثقتها من الحزب الاسلامي، وشاركت فعلاً في الانتخابات البرلمانية في 2014 ضمن تكتل «الوفاء للانبار» بزعامة وزير الدفاع السابق سعدون الدليمي وحصلت على 3 مقاعد، كما برزت قائمة «الحل» المنشقة عن الحزب الاسلامي بزعامة جمال الكربولي وحصلت على مقعد واحد من أصل 15 مقعداً حصة الأنبار في الانتخابات. ويقول سلمان الفهداوي أحد القادة الميدانيين لمقاتلي العشائر جنوب الرمادي ل «الحياة» ان «الأحزاب السياسية في الأنبار وبينها الحزب الاسلامي فشلت في إدارة المحافظة وتسعى إلى مصادرة جهود العشائر في معارك التحرير». ويضيف ان «مقاتلي مجلس عشائر الأنبار المتصدية للإرهاب لم يغادروا الأنبار وقاتلوا بشراسة ضد «داعش»، ولكن مجلس المحافظة اتخذ مواقف سلبية ازاء ذلك»، مشيراً إلى ان «الأحزاب المسيطرة على المحافظة عقدت تسويات في ما بينها قبل تحرير الرمادي بأسابيع لضمان سطوتها وعمدت إلى إجراء تغييرات ادارية في مناصب عدد من القائممقاميات والنواحي». التحرير مهمة طويلة مدينة الرمادي واحدة من أصل 8 مدن رئيسية تتكون منها الأنبار، لا تزال 6 منها تحت سيطرة «داعش» حيث ربطها بمعاقله في سورية معلناً «ولاية الفرات»، وأصبحت عمقاً استراتيجياً للتنظيم يناور فيها على جبهات عدة. وتمثل الأنبار ثلث مساحة البلاد، وتتكون من 8 أقضية و16 ناحية، ويسيطر «داعش» على أقضية القائم وراوة وعانة وهيت والفلوجة والرطبة و11 ناحية هي العبور وألعبيدي والوليد والحقلانية وبروانة والكرمة وكبيسة والفرات والوفاء والصقلاوية وجبة. أما الحكومة فتسيطر على قضاءي الرمادي وحديثة وخمس نواح: عامرية الفلوجة والبغدادي والحبانية والنخيب والرحالية، وهذه المدن على مرمى هجمات «داعش» وتتعرض لهجمات صاروخية في شكل متواصل. وعلى عكس الرمادي المنبسطة جغرافياً والقريبة من بغداد والمتاخمة لقاعدة عسكرية كبيرة «الحبانية»، فإن بقية المدن التي يسيطر عليها «داعش» تتميز بعوامل جغرافية وعسكرية ترجح كفة التنظيم، وتصعب مهمة الجيش النظامي. وتكمن المشكلة في ان القوات العسكرية النظامية تواجه صعوبة في تنفيذ مناورات عسكرية فيها بسبب المسافات الطويلة التي تفصل بين هذه المدن، ويستغل «داعش» ذلك بجعل هذه الطرق مكامن لضرب القوات العسكرية، بعد أن فجر اكثر من 70 جسراً حيوياً في المحافظة، ولهذا تفضل القوات الأمنية البقاء في مراكز المدن والمعسكرات، وتنفيذ عمليات عسكرية قريبة منها. نقطة التفوق الأخرى ل «داعش» امتلاكه خبرة بجغرافية المحافظة واتخذ التنظيم منها ملاذات آمنة له منذ 2013 قبل ان يهاجم العراق، وفشلت عملية عسكرية نفذتها حكومة المالكي بضرب معاقله في وادي حوران بعد أن نصب «داعش» مكمناً أودى بحياة قائد الفرقة السابعة في الجيش اللواء محمد الكروي مع اربعة ضباط كبار وعشرة جنود. وعلى الرغم من شروع حكومة العبادي في إعادة بناء تشكيلات عشائرية مقاتلة لكن محاولاته اصطدمت بتحفظات من «الحشد الشعبي» منعت مساعي اميركية لتسليح العشائر التي يمكن الاستفادة منها في مهام استخباراتية اكثر منها قتالية وتكرار تجربة الصحوات الناجحة في 2006. التحدي الاكبر أمام الحكومة اليوم أنها لا تمتلك حلفاء محليين أقوياء وموثوقين، فالعشائر منقسمة، وقوات الشرطة التي انهارت وأعيد تشكيلها لا يتجاوز عددها اليوم 3 آلاف قياساً بما كانت عليه قبل هجوم «داعش» اي نحو 20 الف عنصر، وهو ما سيضع على قوات الجيش عبئاً في مسك الارض لفترة طويلة بدلاً من تسليمها إلى قوات محلية ليتفرغ لتحرير باقي المدن.