ربما لا يستطيع المرء أن يستوعب في نظرة واحدة، ما يمكن ان يفعله التاريخ على مساحة محدودة من الأرض تحكمها جغرافيا صعبة وقاسية تفتح ممراً على ممر في سلسلة جبلية متموجة توصل بين حافات الموت على الناحيتين، ومر عبرها جنود وفاتحون وغزاة ومهربون تركوا عليها آثار أرجلهم وبقايا دموع ودم. مر على المنذرية، القابعة على الحدود بين العراقوإيران والبعيدة عن بغداد مسافة 200 كيلومتر من شمالها الشرقي، زمن ليس قصيراً قبل أن تفتح بوابتها مجدداً لرجال جمارك وتجار وديبلوماسيين وسياح وأناس يروحون ويجيئون. هكذا بدأت الحياة تدب مجدداً على هذه البقعة الصغيرة من الأرض، ولكن على نحو مختلف. يعتبر كاظم النداوي صحافي 38 سنة المنذرية جزءاً من تاريخه الشخصي. اذ ولد وعاش طفولته قربها ويعرف حكايات كثيرة عنها. وهو اليوم ينقل أخبارها بفخر، ويتوقع أن تزداد حركتها التجارية في الأيام القليلة المقبلة، بعدما وافقت الأممالمتحدة على طلب العراق اعتماد المنذرية معبراً رسمياً للتبادل التجاري بينه وبين إيران. ويذكر النداوي كيف يجري التبادل التجاري الآن على نحو محدود وفي شكل شخصي بين تجار عراقيين وإيرانيين، اذ يتفق على شراء السلع وتبادلها واستلامها خارج المجمع الحدودي وبطريقة بدائية، عن طريق إزالة جزء من الأسلاك الشائكة على خط الحدود، لتصطف الشاحنات على الجانبين، ويتم بعدها التبادل، فتأخذ كل من الشاحنتين المتقابلتين بضائع الأخرى، ويعود كل طرف بغنيمته غير آبه بأحاديث السياسيين وطروحاتهم. وعلى خلفية موافقة الأممالمتحدة على الطلب العراقي، زار طهران قبل أيام وفد من تجار محافظة ديالى المحاذية للحدود، رأسه سامي حميد الملا جواد رئيس الغرف التجارية في المحافظة وأبرم العديد من الاتفاقات مع تجار إيرانيين. وكي يتكيف وضع المجمع الحدودي مع المتطلبات الجديدة، طورت منشآته ووسعت فأقيمت صالة جديدة للوافدين وأخرى لكبار الزوار، ومركز للجمارك ومركز صحي وآخر للجوازات، كما اعتمدت خطة تطوير تنفذ مطلع العام تعكس طموحات اكثر شمولاً. وفي غمرة هذه التحضيرات لم ينتظر زوار الأماكن الدينية الايرانيون طويلاً كي يأتوا إلى أرض كربلاء وغيرها، إنما بدأوا يتوافدون مع أول اتفاق متواضع للسياحة الدينية وقع بين بغدادوطهران. ومع أن الأسابيع الأولى شهدت اخفاقات في تنفيذ ما اتفق عليه، بسبب الاختلاف على كيفية تحصيل الرسوم وبعض الإجراءات الإدارية، إلا ان الأمر انتظم لاحقاً وبدأت قوافل الزوار الإيرانيين تزداد، حتى بلغ عددهم عبر مجمع المنذرية ألف زائر يومياً يتوجهون نحو الأماكن الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، حيث تتولى السلطات العراقية تأمين نقلهم واستكمال برنامج زيارتهم. ويعتبر العدد منخفضاً قياساً إلى ما كان متوقعاً عند توقيع الاتفاق، ويعزو المسؤولون ذلك إلى تصاعد التهديدات الأميركية وارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي. ومع ذلك فإن تجار مدينة بعقوبة، مركز المحافظة، ما زالوا يحملون مقداراً من التفاؤل بأن حمى الحرب قد لا تصل إلى منطقتهم، وبعضهم قد يعتبرها عاملاً في تنشيط الحركة التجارية، وربما حركة انتقال السكان مع إيران، لذلك يعملون لتهيئة سلع عراقية بينها التمور وعسل التمور، لمبادلتها مع صناعات بلاستيكية وأغذية وأدوية من ايران. وهكذا فإن بوابة المنذرية المنفتحة على إيران، تحمل ملامح مدينة لم تولد بعد، وربما تجمع مع ولادتها خيوط السلام والوفاق بعدما عاشت هذه الأرض قروناً على حافات الحروب والكوارث والغزوات.