"النزهة الشهية في الرحلة السليمية" كتاب يصدر عن مشروع "ارتياد الآفاق"، سلسلة مئة رحلة عربية إلى العالم، عن "دار السويدي" في أبو ظبي بالتعاون مع "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت. رحلة سليم بسترس ابن ال16 عاماً المنشورة للمرة الأولى سنة 1856 ما زالت مجهولة تقريباً. هنا مقاطع من مقدمة الكتاب: تنفرد هذه الرحلة عن سواها من الرحلات العصرية الأولى إلى الغرب بأمور عدة، أوَّلها: أن صاحبها، ومدوِّن وقائعها فتىً لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر، ولا يُتوقَّع ممن هو في مثل هذه السنِّ أن يمتلك العدَّة الكافية للقيام بمثل هذه المهمَّة، ولكنَّ ما تقوله هذه الرحلة هو العكس. وثانيها: أنها كانت رحلة للمتعة، وليست للنجعة" لأن صاحبها فتىً من أهل اليسار، لم تدعُه إلى القيام بها ضرورات العيش، أو مقتضيات العمل، بل كان القصد منها أساساً السياحة، والاستجمام في البلاد الإفرنجية، ومشاهدة ما فيها من معالم حضارية، والاطلاع على ما تحقق فيها من "التهذيب والنظام". وثالثها: أن هذه الرحلة شملت معظم بلدان أوروبا الغربية، وبعضاً من بلدان الشرق التابعة للسلطنة العثمانية، وهذا قلَّما تسنَّى لغيره ممَّن زاروا أوروبا، وكتبوا عنها في تلك المرحلة المبكرة من بدايات الاحتكاك بالغرب. أما الأمر الرابع فهو أن صاحب هذه الرحلة، بحسب جرجي زيدان، ينتمي إلى عائلة من أشهر عائلات سورية غنى ووجاهة، وكان على غناه ووجاهته، ميالاً إلى العلم راغباً في اكتسابه ونشره، فهو - خلافاً للمألوف - ممن وفّقوا إلى الجمع بين العلم والمال" لأنه كان يعلم حقَّ العلم "أن العلم زينة الغنى، ودعامة التَّمدُّن، وإكليل الملوك، بل هو نور العالم ودليل الإصلاح". الرحالة وقبل الشروع في الحديث عن هذه الرحلة لا بد من التعريف بصاحبها، فهو سليم بن موسى بسترس، ولد في بيروت في التاسع والعشرين من آب أغسطس سنة 1839 في بيت من بيوتات الغنى والجاه، فكان أبوه موسى بسترس من أعيان بيروت وأغنيائها، وأهل الفضل فيها، ولكنه لم يعمَّر ليرى ولده الوحيد وقد بلغ مبلغ الرجال" حيث اخترمته المنيَّة ولم يتجاوز ولده سليم الحادية عشرة من العمر، فتربَّى الولد في كنف أمه التي رعته، وأحسنت تهذيبه وتعليمه، وكان سليم على جانب كبير من الذكاء والفطنة مما مكَّنه من تحصيل قسط حسن من المعارف والآداب العربية، وتعُّلم بعض اللغات الأجنبية، كما اتجه إلى نظم الشعر في وقتٍ مبكر. ولكن ما ورثه عن أبيه من مسؤوليات ومصالح تجارية حال دون متابعة تحصيله العلمي، فانصرف إلى العمل بالتجارة، فقصد الإسكندرية سنة 1860 لهذه الغاية، واستوطنها لعدة سنوات، ولكنه في سنة 1866 عقد العزم على السفر إلى أوروبا ثانية، فأسَّس بيتاً تجارياً في ليفربول، ثم نقل نشاطه التجاري في ما بعد إلى لندن. ويُستدلُّ من سيرته، وما رُوي من أخباره أنه كان رجلاً نبيلاً محسناً، واسع الفضل استطاع في حياته القصيرة 44 سنة أن يقيم علاقات واسعة بالعديد من عظماء عصره من أمثال قياصرة روسيا ووزرائها وأن ينال منهم أرفع الأوسمة، كما أحرز الوسام المجيدي العالي الشأن من السلطان العثماني لما كان له من نشاط خيري واجتماعي واسع، وراسله الكثير من الكبراء من رجال زمانه ومما ذكره جرجي زيدان ان لسليم بسترس ولدين: البكر اسكندر موسى عرابه القيصر اسكندر الثاني امبراطور روسيا الأسبق، والثاني فلديمير عرابه القيصر اسكندر الثاني، وهي خطوة يستدل بها على ما كان له من المكانة في البلاط الروسي. ولكن الموت المبكر داهمه وهو في مصيفه بفلكستن قرب لندن في الثالث من شباط فبراير سنة 1883 وهو في الرابعة والأربعين من عمره. ونقل جثمانه إلى بيروت فدفن فيها سنة 1885. وذكر جرجي زيدان في كتابه مشاهير الشرق أن سليم بسترس "عرَّب عدة روايات قصد بها استصلاح العادات، وبثِّ الآراء الصحيحة، والاحتفاظ بالآداب، جعلها أقاصيص يصبو الناس إلى مطالعتها". وله ديوان شعر سماه "أنيس الجليس" إلى جانب كتاب رحلته الذي نحن بصدد الحديث عنه. مسار الرحلة بدأ سليم بُسْتُرُس رحلته من بيروت في السابع والعشرين من آذار مارس سنة 1855 يرافقه ابن عمه حبيب بسترس "لأجل مؤانسته، والملاحظة عليه في مطاوح الغربة"، فنزلا معاً في سفينة البخار المعروفة بالفابور، والمتَّجهة إلى الإسكندرية مروراً بحيفا ويافا، ثم توجَّه منها إلى القاهرة، وعاد أدراجه منها إلى الإسكندرية، ومنها ركب البحر إلى جزيرة مالطة، ثم غادرها إلى مسينا، فنابولي، فروميَّة العظمى، ومنها إلى ليكورنا ليفورنو، وبيزا، وفيرنسا فلورنسا، فجينوا آخر الممالك الإيطالية. ومن جينوا توجَّه إلى فرنسا عبر مرسيليا، ثم غادرها إلى ليون، فباريس التي أقام فيها نحو شهر، ومنها سافر إلى بولون آخر مدينة فرنسية، حيث عبر بحر المانش إلى فالكستون أول مدينة إنكليزية، ومنها توجه إلى لندرة التي أقام فيها ثمانية أيام طريح الفراش ثم عاد بعدها إلى باريس. ومن باريس قصد مملكة بلجيكا" فوصل إلى عاصمتها بروسل بروكسيل ومنها إلى لياج التي غادرها متوجِّهاً إلى مملكة بروسيا" فمر باكس لاشابال، فكولون، ومنها إلى بون، فداتز، ثم هانوفر التي غادرها إلى برلين، فبوتسدام، ثم درازدن، حيث توجَّه منها إلى مملكة أوستريا النمسا ماراً ببورنباك، وبراك براغ من بلاد التشيك، ومنها إلى زمرسك، فبوهم بوهيميا ثم بران ومنها إلى فيينّا قاعدة المملكة النمسوية، ثم غادرها إلى بدن، فمادلين، فلكسنبرج. ومنها عاد إلى براك براغ، فلايباك، ثم إلى ترياستة إحدى الموانئ النمساوية على البحر الإدرياتيكي. ومن ترياستة توجه نحو السواحل الغربية لليونان" فمرَّ بكرفو، فزنطا، ومنها إلى بيرا، وسيرا، وساقس، فإزمير ومنها إلى القسطنطينية حيث أقام فيها أياماً ليبدأ منها رحلة العودة، فمر بكاليبولي، الدردنيل، إزمير ثانية، رودس، مرسين، إسكندرونة، اللاذقية، طرابلس الشام، فبيروت التي وصلها في الأول من تشرين الأول أكتوبر سنة 1855. وقد استغرقت هذه السياحة ستة أشهر وأربعة أيام. هذه الطبعة اعتمدنا في إخراج هذا الكتاب على الطبعة الأولى الصادرة في بيروت سنة 1856 بنفقة مؤلفه سليم بسترس وعنوان الكتاب: "النزهة الشهيَّة في الرحلة السليميَّة" وهي الطبعة التي قرَّظها المقرِّظون في حينها من أمثال الشيخ: ناصيف اليازجي، وخليل أفندي الخوري، وأسعد أفندي طراد، والمعلم إبراهيم سركيس، وقد أثبتنا أقوالهم في نهاية الكتاب. كما أشار إليها وعرَّف بصاحبها كلٌّ من جرجي زيدان في كتابيه: تاريخ آداب اللغة العربية، ومشاهير الشرق، والأب لويس شيخو في كتابه الآداب العربية في القرن التاسع عشر. وسركيس في معجم المطبوعات، والزركلي في الأعلام، وكحالة في معجم المؤلفين وآخرون. ومع ذلك فإن هذه الرحلة لم تنل نصيبها من العناية والدرس كغيرها من تلك الرحلات المبكرة إلى الغرب. لذا فإن ما نرجوه من نشرها ثانية هو أن تكون في متناول القراء والباحثين" لإعادة النظر فيها من جديد، ووضعها في مكانها اللائق من أدب الرحلة العربية إلى الغرب في القرن التاسع عشر. ولما كانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب خالية من التقسيم والتبويب والهوامش الموضَّحة قمنا بعد قراءة النص وتحريره وتقويم ما اعتراه من خلل بتقسيمه إلى فِقَرٍ، ووضع العناوين الكلية والجزئية المناسبة تبعاً لمحتواها، وعلَّقنا حواشي الكتاب بما رأيناه مناسباً لإيضاح ما يقتضي التوضيح من شرح لبعض المفردات التي يشكُلُ فهمُها على القارئ المعاصر، أو تعريف ببعض الأعلام، أو تصويب ما لا بدَّ من تصويبه، وضربنا صفحاً عن الكثير من الكلمات والتعابير العامية الواردة في النص للتخفيف من الحواشي، وثقة منا بأن القارئ قادرٌ على تمييز ذلك دونما حاجة إلى التنبيه عليه. على أن المأمول من وراء ذلك كلِّه هو أن نضع هذا الكتاب النفيس - بعد إلقاء الضوء عليه وعلى مؤلفه- في خدمة القارئ والباحث بالصورة التي تليق بقيمته المعرفية والأدبية التي أشاد بها شيخ الأدباء في زمانه ناصيف اليازجي بالقول: يُعطيك مرآةَ البلادِ جَليَّةً فترى بها المحجوبَ غيرَ محجَّبِ فكأنَّه نقل البلادَ إليك أو أنت انتقلتَ إلى بلاد المغربِ