بين العدد الجديد من مجلة «الهلال» القاهرية، وعددها الأول؛ مئة وخمسة وعشرون عاماً، وبذلك هي الأقدم، كما أنها الوحيدة التي انتظم صدورها عربياً، منذ الأول من أيلول (سبتمير) 1892 وحتى الآن، في ظل تحولات جذرية شهدتها مصر والمنطقة عموماً، بل وفي ظل حاضر يكاد يستسلم لمستقبل يحكم بالإعدام على الصحافة الورقية. لكن يبدو أن مصر الرسمية لا تزال تتمسك ببقاء «الهلال»، فهي وفق ما ورد على غلاف عددها الأخير؛ «ليست مجرد مجلة، لكنها ذاكرة مصر والأمة العربية وسلاح ضد التطرف والإرهاب». وعلى الغلاف نفسه لذلك العدد التذكاري من «الهلال»، وفي إطار الإصرار على الصمود حتى في ظل أزمة مالية خانقة، نجد تذكيراً بأن تلك المجلة كانت و«ستظل»، ساحة لنخبة الكتاب والمفكرين والقادة، وفي قائمة هؤلاء أحمد عرابي، جمال الدين الأفغاني، عبدالرحمن الرافعي، الشيخ محمد عبده، مي زيادة، زكي مبارك، محمد حسين هيكل، جبران خليل جبران، بشارة الخوري، برتراند راسل، أبو القاسم الشابي، عباس العقاد، طه حسين، خليل مطران، توفيق الحكيم، سلامة موسى، ميخائيل نعيمة، معروف الرصافي. العدد التذكاري الذي يحمل الرقم 1495، تتصدره صورة المؤسس جرجي زيدان، ضمن غلاف مِن تصميم محمد أبو طالب، يتوسطه شعار كُتب بحروف ذهبية: «مع التنوير- 1892- 2017»، ويتضمن ملف صور نادرة من 64 صفحة تحت عنوان «مصر زمان»، ومعه كتيب أنجزه «مركز الهلال للتراث الصحافي»؛ عنوانه «الهلال والسينما شاهدان على تاريخ مصر» ويتضمن بيلوغرافيا عن أهم 125 فيلماً في 125 سنة. أما غلاف العدد الأول والذي صدر في أول أيلول (سبتمبر) 1892، فتضمَّن التالي: «مجلة علمية تاريخية تصدر مرتين في الشهر، لمنشئها جرجي زيدان، قيمة الاشتراك خمسون قرشاً في السنة»، فيما بلغ سعر النسخة الواحدة من العدد التذكاري خمسين جنيهاً! وفي العدد الأول ذاته جاء في كلمة لجرجي زيدان: «نرجو أن تصادف خدمتنا استحساناً لدى حضرات القراء»، مشيراً إلى أن أبواب المجلة تشمل «أشهر الحوادث وأعظم الرجال»، «الروايات»، «تاريخ الشهر»، «المنتخبات من الأخبار»، «التقريظ والانتقاد». أما كلمة رئيس التحرير خالد ناجح في العدد التذكاري، فجاءت تحت عنوان «معجزة الشاب جرجي زيدان»، وتضمنت: «نحصل على الحكمة ونتعلم القدوة من قصص السابقين، بخاصة لو كانت دراما القصة تشبه دراما حياة الكثير منا، فما بالك لو كانت هي قصة الشاب المعجزة جرجي حبيب زيدان، المولود لأسرة فقيرة، كان يساعد فيها والده بعمله في المطعم، إذ كان عمل الصغير جرجي هو خرط البقدونس لزوم التبولة، غير أن أمه كانت تتمنى له مستقبلاً آخر بعيداً من التخريط والتقشير وحمل الصواني ومسح الطاولات، حتى يصبح «معلماً». الأب وافق على اقتراح الأم واصطحب ولده إلى دكان أحذية ليعمل جرجي «جزماتي» ثم انتقل وعمل في محل بيع قماش ثم بدأت رحلة الانتقال من صنعة إلى أخرى. هذا التنقل من مهنة إلى أخرى فجَّر لديه ينابيع المعرفة التي كانت كامنة عنده، فظهرت طاقاته المعرفية، وهو قد هيئ للبحث عن العلم، وفي المسار نفسه بدأ يحصل العلم بواسطة معلمه «مسعود» الذي كان يعلمه الدروس مقابل طعام مجاني من دكانة والده والذي كان من زوار مطعمه الأدباء أمثال إبراهيم اليازجي وعبدالله البستاني ويعقوب صروف، مما أيقظ لديه طموح المعرفة». في شباط (فبراير) 2005 احتفلت «دار الهلال» بالنسخة الرقمية من الأعداد الأولى لمجلة «الهلال»، كما أعادت المؤسسة إصدار الأعداد الأولى من المجلة نفسها مجمعة؛ كل خمسة أعداد في مجلد واحد. ووفق بيان على صفحة مشروع «ذاكرة مصر المعاصرة»، على الإنترنت، فإن مجلة «الهلال»؛ «لعبت دوراً رائداً في تحديث الفكر العربي خلال القرن الماضي، ما يجعلها أداة قيمة بالنسبة إلى الباحثين والمؤرخين وكذلك العامة». ولهذا السبب، اتخذت مكتبة الإسكندرية التي تتولى ذلك المشروع مبادرة ترقيم مئة وأربعة عشر عدداً من «الهلال» وتجميعها على اثنتي عشرة أسطوانة DVD مزودة بأدوات التصفح وإمكانات البحث الضرورية في واجهة سهلة الاستخدام. ونظمت مكتبة الإسكندرية في كانون الثاني (يناير) 2012 معرضاً في «بيت السناري» في القاهرة لمناسبة اكتمال مشروع توثيق «الهلال»، ومرور 150 عاماً على مولد مؤسسها؛ تضمَّن وثائق عن نشأتها وتاريخها وإصداراتها، ساهم في توفيرها جورج شكري زيدان، حفيد المؤسس. هذا المشروع، استمر تنفيذه خمس سنوات وسبقه توثيق «روزاليوسف»، و«أخبار اليوم»؛ ولحقه توثيق «الأهرام»، و«الجمهورية»، وصحف توقفت عن الصدور مثل «المصري»، و«أبو نضارة». وتضم الوثائق التي أهداها جورج زيدان إلى مكتبة الإسكندرية الصفحة الأولى من العدد الأول من مجلة «الهلال»، وفيها كتب جرجي زيدان: «لا بد للمرء في ما يشرع فيه مِن فاتحة يستهل بها، وخطة يسير عليها، وغاية يرمي إليها، أما فاتحتنا فحمداً على ما أسبغ مِن نِعمِه وأفاض مِن كرمِه والتوسل إليه أن يلهمنا الصوابَ وفصلَ الخطاب، وأما خطتُنا فالإخلاصُ في غايتِنا، والصدق في لهجتنا». لكن تسويق رقمنة «الهلال»، تجمَّد بسبب نزاع قضائي حُسِمَ لمصلحة مكتبة الإسكندرية العام الماضي، وبه خسرت «دار الهلال» دعوى اتهام المكتبة بالاستيلاء على أرشيفها، خلال تنفيذ مشروع الرقمنة الذي كان مقرراً أن تتولاه شركة «صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات». ووفق خبراء في توزيع الصحف، فإن قراء المجلة الأعرق في انحسار ولا أمل في بقائها إلا عبر تحولها إلى الصيغة الإلكترونية، وهو ما ينطبق على باقي إصدارات «دار الهلال»: «المصور»، «طبيبك الخاص»، «حواء»، «الكواكب»، «سمير»، «كتاب الهلال»، «روايات الهلال».