تفرض اللحظات التاريخية عادة على الشعوب وزعمائها الاختيار الحرج والحاسم بين المشاركة في صناعة التاريخ وبين السقوط تحت عجلاته. لا شك في أن النصف الثاني من سنة 2000 كان لحظة مصيرية خطرة في تاريخ الشعب الفلسطيني، امتدت آثارها إلى كل العالم العربي من دون استثناء. وبحساب النتائج يمكن القول أن القيادة الفلسطينية، ومن خلفها المناخ العربي السياسي والإعلامي السائد، لم تكن على مستوى ذلك الاختيار، فكانت احدى النتائج أن عادت القضية الفلسطينية إلى ما قبل الصفر. ولم تفقد تلك القضية فقط فرصة حقيقية لتسوية معقولة تصلح كبداية للإنخراط في العصر، وأخذ زمام التغيير، وإنما فقدت حتى مكاسبها السابقة على مفاوضات كامب ديفيد 2. فكان لدى الشعب الفلسطني مشروع دولة تسير قدماً على نحو واضح يحوي 8 مدن كبرى، و400 قرية، ومباحثات جادة حول قريتين في حضن القدس، هما أبو ديس والعيذارية" وكان لها ميناء ومطار وشركة طيران، ومقر في القدس العاصمة "قيد البحث" هو بيت الشرق صرح باراك انه يعترف بأورشليم القدس عاصمتين لدولتين، "جيروزالم بوست" 29/9/2000، ومبنى برلمان تحت الإنشاء في أبوديس" وكان فيها سياحة نشطة، ودخل جمركي معقول، وصناعة وليدة، وتجارة ذات وزن مع الأردن وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، وزراعة ذات خبرة واحتمالات تعاون جيدة، و127 ألف عامل في إسرائيل، بمتوسط دخل 100 دولار، ومعهم ما يوازي ثلث هذا العدد من دون تصاريح، وكان فيها مؤسسات تعليمية تتمتع بالاحترام ولديها هوية، وأجهزة شرطة، واستخبارات وسجون بأكثر مما يجب، ومؤسسات اعلام، ومشروع إدارة حكومية، ودعم دولي سياسي واقتصادي. وأهم من كل ذلك، كيان، ونخبة مدنية رفيعة، كانت قادرة على قيادة الإنتفاضة الأولى بنجاح نادر الحدوث في العالم العربي. وكانت قادرة على مخاطبة، وحشد قطاعات مهمة ومؤثرة من الشعب الإسرائيلي وراء الحق الفلسطيني. وكان الرئيس عرفات صاحب الرقم القياسي في دخول البيت الأبيض. وزار الكيان الوطني الفلسطيني الكثير من الرؤساء، في مقدمهم كلينتون وشيراك، وغالبية رؤساء الحكومات ووزراء الخارجية من كل أنحاء العالم، وكان اعلان الدولة قاب قوسين أو أدنى. وكانت مقترحات الرئيس كلينتون توفر معطيات أضعاف كل ذلك وتفتح باب احتمالات للتغيير والتقدم. وعلى رغم أن الرئيس عرفات اعترف بخطئه عندما رفض مقترحات كلينتون هآرتس 21/6/2002 إلا أن ذلك لم يعد جملة مفيدة. ولكن كان عليه أن يفسر بصراحة لماذا رفض؟ ولماذا كان ذلك خطأ؟ ولماذا تأخر الاعتراف كل ذلك الوقت حوالى عامين؟ إلا أنني أعتقد أن الأوضاع تدهورت الى درجة تتجاوز خطأ رفض مشروع كلينتون للسلام. فقد كان الرفض حلقة في سلسلة مأساوية من الأخطاء اشتملت على اللجوء للعنف كما ورد في تقرير ميتشل الذي قبلته كل الأطراف، والتحالف المباشر العضوي مع فصائل الإسلام السياسي قبل المفاوضات، وتسليم قيادة الشارع الفلسطيني ل"زعران جمهورية الفكهاني". وهكذا تمت الإطاحة، بالكامل، بمبدأ التفاوض السلمي. وساهم ذلك، بقدر وافر، في سقوط اليسار الإسرائيلي، قوة الحل السلمي الأساسية، ومعه معسكر السلام. وفي غمار المعركة العالمية ضد الإرهاب أصبح العنف ذو الدافع الديني، خصوصاً عندما يصبح الوقود صبايا وصبية آتين من الفقر والظلم واليأس وغسلت أدمغتهم للقيام بالعمليات الانتحارية ذات النتائج الإجرامية ضد المدنيين، إعادة إنتاج دائبة لأحداث 11 أيلول سبتمبر، وتذكرة دائمة للعالم أن الإرهاب عربي اسلامي. وهكذا بدأ الوزن الأخلاقي للقضية الفلسطينية في التآكل. وبذلك تلاشى الفارق بين عنف شارون والعنف الفلسطيني، وأصبح الترانسفير الفلسطيني الثالث، أي الحل الأردني، أقرب من أي و قت مضى، لا سيما إذا وضعنا في الإعتبار التفريغ السياسي الحاد الذي سيحدث في حال تغيير النظام في العراق بالقوة. وإذا كنت قد استعرضت بعض الخسائر الداخلية، فإن الخسائر الفلسطينية الخارجية أخطر. فقد جاءت الإدارة الأمريكية الجديدة من المحافظين الجدد، ووجدت خبرة عملية أقرب إلى ذهنيتها تثبت أن القيادة الفلسطينية عاجزة عن اختيار طريق السلام. وعندما طلب من الرئيس عرفات مكافحة "الإرهاب" كانت تطلب منه المستحيل، لأنه كان قطع أشواطاً طويلة في طريق بلا عودة. وشرعت الإدارة الجديدة، اليمينية جداً، في سلسلة من السياسات عبرت عنها تصريحات الرئيس بوش وكانت أقل من تصريحات باقي صقور الإدارة عنفاً: "إن عرفات خذل شعبه ولم يكن على المستوى وأضاع عرق ومجهود طويل ومكلف ومعقد بذله الرئيس كلينتون من أجل السلام" "نيويورك تايمز"، 26/5/2002 . وانتهت إلى اشتراط رحيل عرفات أو تهميشه. والمعنى السياسي لكل ذلك هو فرض مرجعية واحدة لحل الصراع هي موازين القوى بين العرب وإسرائيل. وهكذا وجد اليمين التوسعي الصهيوني انتصاراً على نحو غير متوقع. وعندما عاد عرفات من كامب ديفيد حملته جماهيره على الأعناق، احتفاء بعدم حصوله على شيء. وكانت أجهزة الدعاية العربية وتصريحات المسؤولين، في أكثر من بلد عربي، ساهمت بقسط وافر في تلك الاحتفالية الغريبة. وكان الوقت مناسباً لإضافة شروط تجعل المشكلة بلا حل، مثل التمسك بحق عودة اللاجئين إلى إسرائيل، وهو يعني ببساطة إقامة دولتين فلسطينيتين. فضلاً عن هجمات غوغائية على كلينتون، وسياسات الولاياتالمتحدة، تفتقر إلى أساس موضوعي من أي نوع توجد أسباب كثيرة لنقد السياسات الأميركية لا أعتقد أن من بينها مشروع كلينتون للسلام. كان كل ذلك يوفر دليلاً واضحاً على الاتجاه العكسي الذي سارت فيه عملية الإعداد والتمهيد للحل السلمي، والتنازلات الضرورية التي يتطلبها الحل الوسط. وصاحب ذلك المبالغة المفرطة في تجميل انتصار "حزب الله" والاقتراب به من الأساطير، في حين أنه مجرد انتصار تكتيكي، لم يغير شيئاً من موازين القوى. واستمر ذلك لمدة 6 شهور تعسة إلى أن ضاع الأمل تماماً في الحفاظ على مبدأ التفاوض السلمي بوصول شارون إلى الحكم، وهو الشريك الأصلح لرقصة الموت تلك. ولم يكن اكتفاء الرئيس عرفات بالرفض، وتقديم طلب واحد يندرج في سياق نية الرفض فحسب، إلا إضمار ما تم بعد ذلك. وفي اعتقادي الشخصي أنه مهما كان مشروع كلينتون للسلام قدم إلى الجانب العربي، فقد كان سيتم رفضه لا محالة. ذلك لأن القضية الفلسطينية كانت على الدوام المصدر الأساسي لشرعية النظم الانقلابية التي أسّست الجمهوريات العسكرية الريفية منها والعشائرية. وكانت موضوع البيان رقم واحد لهذه الانقلابات. والأهم من ذلك أنها كانت المتكأ للحرب على الديموقراطية والحداثة، ومبرراً دائماً للانقطاع عن العالم الحر، وفرض الأحكام الاستثنائية بكل أشكالها، من طوارئ إلى عرفية إلى عسكرية. ولما كانت التوترات الإقليمية، ومنها الصراع العربي - الإسرائيلي، هي احدى الجبهات أثناء الحرب الباردة، ولما بدأت عملية إعادة ترتيب أوضاع العالم طبقاً لوجود قطب عالمي واحد عانت الجمهوريات العربية العسكرية الثورية سابقاً من ضغط تلك الترتيبات، مثل تآكل مفهوم السيادة الوطنية، وحرية السوق، وعالمية حقوق الإنسان، والمحاكم الدولية، وصعود عصر الشعوب. وهكذا حاول النظام العربي صناعة ما يشبه حرباً باردة جديدة، بالتحالف مع الأصولية الإسلامية، وإقامة إمبراطورية ظلام جديدة في وسط آسيا. وكانت بؤر التوتر، مثل القضية الفلسطينية وجنوب السودان وتوترات الخليج، تقوم مقام الستار الحديدي وسور برلين، ما يسمح بالتمترس والانغلاق والاستقطاب الحاد في مواجهة كل العالم. فتحول النظام العربي إلى "كارنتينا" حقيقية للاعتداء على العقل والكرامة والحق في الحرية والحقيقة. ووصل الأمر بتلك الجمهوريات، ونتيجة هذا النوع من الاستقرار والطمأنينة، أن شرعت في تحويل الجمهوريات العسكرية إلى عروش تسمح بالاستنساخ السياسي، عبر الأنجال. وهكذا كانت مقترحات كلينتون مجرد هجوم سلمي على ذلك النظام العربي وستاره الحديدي في فلسطين وجنوب السودان، من أجل فتح تلك المنطقة لتغييرات ما بعد الحرب الباردة، التي هي انتصار أمريكي كامل، ولذا تمت مقاومته بضراوة، من دون النظر إلى ماهو صالح أو طالح للشعب الفلسطيني. وعندما غادر الرئيس كلينتون البيت الأبيض أخذ معه مقترحاته مفسحاً المجال لسكان جدد لا يعتقدون أن العلاج بالكي هو آخر العلاج. وهكذا أعاد أبو عمار الشعب الفلسطيني درعاً بشرياً لحماية النظام العربي من عدوان الحداثة والحرية. أي أنه أعاد القضية الفلسطينية عربية بحق. وليته توقف هنا، بل أتاح للإسلام السياسي فرصة لتعويض هزيمته المهينة في أفغانستان وجنوب شرق آسيا، وسوء سمعته، ومطاردته على مستوى العالم. وكانت هذه الفرصة هي الجسد الفلسطيني، بالتحالف الموضوعي غير المباشر مع اليمين الصهيوني التوسعي، تحت قيادة شارون، بعد أن شمل سباق الدم والحقد والإنتقام كلا الشعبين، من دون أمل. وحتى لو تم تدمير الكيان المدني الفلسطيني وتهميش النخبة المدنية. وهكذا تحولت القضية الفلسطينية من قضية تحرر وتقرير مصير إلى قضية إرهاب. كاتب مصري.