التسوية النهائية للقضية الفلسطينية - في حال اتمامها - ستصبح بداية لتغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية داخل دول الشرق الأوسط بما فيها إسرائيل سواءً بسواء. وفي اعتقادي أن العرب "كالعادة" لم يكونوا على استعداد لتلك المرحلة، لذلك حوصروا داخل أرضهم المفضلة، أي منطقة رد الفعل، وسيكولوجية المفعول به: فجاءت ردود أفعالهم عصابية مرتبكة، وفي بعض الأحيان كانت أقرب إلى العبث، حتى انهم ابتهجوا بعدم الوصول إلى ما يريدون، وذهبوا يبحثون عن البطل الحقيقي الذي قادهم إلى هذا "النصر". وحتى يمكن الاستطراد الى تحليل ذلك، أجد أن من الضروري وضع هذا الموقف في السياق العام للمواجهة بين العرب وإسرائيل، حتى تمكن معرفة جذوره، في محاولة - مهما بدت عسيرة - لتحويلها إلى دروس مستفادة. لا يحتاج المتابع لذلك الصراع خلال خمسة عقود إلى مجهود يذكر كي يكتشف أن العرب لم تكن تحركهم دوافع استراتيجية، أو خطة من أي نوع لإدارة الصراع، ولم تكن تدفعهم مصالح أو فوائد مهما كانت بسيطة أو فطرية، بقدر ما كانت تحركهم مقتضيات داخلية ورمزيات سياسية، وتنافس إقليمي بين الأطراف العربية أقرب الى المزايدة الهدَّامة، ولذلك كله سميت القضية الفلسطينية بحق قضية الفرص الضائعة، وأصبح الشرق الأوسط يبدو فى الأديبات السياسية أقرب إلى أرض اللامنطق والطرائف الفولكلورية، والأدلة على ذلك تصعب على الحصر، ولكن من أهمها: 1 - فشل العرب في التعامل مع الشرعية الدولية ابتداءً من فشلهم في جمع 33 صوتاً في الجمعية العامة لمنع صدور قرار التقسيم سنة 1947، وناصبوا الشرعية الدولية العداء، ورفضوا القرار وأعلنوا الحرب، وهُزموا ورفضوا القرار 194 بعودة اللاجئين، وقرار مجلس الأمن في سنة 1950 بحرية الملاحة، ورفض غالبيتهم القرار 242 والقرار 338، والكثير من القرارات الأقل جوهرية، وقاطعوا المحافل الدولية بدعوى مقاطعة إسرائيل، ثم أصبح كل ذلك هو سقفهم التفاوضي ومرجعيتهم عندما دخلوا مرحلة الهزيمة الاستراتيجية والحضارية ومن بعدها مرحلة العجز الكامل. ولم يكن ذلك عن موقف نضالي ضد عالم معادٍ، كما يزعم البعض. والدليل أن عرب 1967 قبلوا قرار وقف اطلاق النار من دون أن يتضمن شرط الإنسحاب من الأراضي المحتلة في واقعة فريدة من نوعها، وهو ما يعني الاعتراف الصريح بأنهم من بدأ الحرب، صدر القرار 242 بعد ذلك بثلاثة شهور تقريباً فرفض معظمهم. 2- ساهمت طبول الحرب والهزائم وصرخات الثأر التي صدرت عن الايديولوجيات القومية والدينية، ومناخ الحرب الباردة" في استيلاء القوى الفاشية على السلطة على هيئة انقلابات عسكرية، وتأسست جمهوريات عسكرية ريفية وعشائرية في أكثر من بلد عربي، وكان تحرير فلسطين في معظم الأحيان هو البيان الرقم واحد، وهكذا أصبحت القضية الفلسطينية قضية مثالية للاستهلاك المحلي وتكئة للحفاظ على السلطة، ولصناعة شرعية وأولويات زائفة ضد الحرية، تبيح تصفية الخصوم وسجن الشعوب وفتح الباب من دون حساب للفساد. 3 - كان شعار "إسرائيل الكبرى" الذي رفعه اليمين الصهيوني هو الوجه الآخر لشعار "إزالة إسرائىل" و"تحرير فلسطين من النهر إلى البحر"، وهكذا نشأ التحالف الموضوعي غير المباشر ما بين القوى العربية المعادية للديموقراطية والصهيونية العنصرية، وتبادلا الشرعية، وقادا الصراع في معظم فتراته، وما زالت أخطاء عودة هذا التحالف قائمة وبقوة، إذ ما زالت الفاشية العربية نشطة، وهنا يجب أن نتذكر سلسلة الأحداث التي أتت بنتانياهو إلى الحكم. 4- كانت الحرب "دائماً" هي وسيلة الخسارة أمام إسرائيل، وكانت المفاوضات السلمية "دائماً" هي وسيلة استعادة الحقوق، وبإستثناء العدوان الثلاثي على مصر" ذهب العرب الى الحرب جماعة، بينما ذهبوا إلى التفاوض السلمي فرادى، وأحسب أنه ليس سوى العرب يمجدون قائداً "صمد" داخل الهزيمة وتحت الاحتلال من دون تحرير لسنوات طويلة، ودانوا قادة جنَّبوا أو يحاولون تجنيب شعوبهم ويلات الهزيمة والاحتلال بواسطة الحل السلمي التفاوضي. 5- لم تتغير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية كثيراً - في بعض الأحيان تفاقمت - في ظل اتفاقيات السلام عنها في ظل الحرب على رغم تخفيض الديون والمساعدات الضخمة، لأن الأنظمة التوتاليتارية التي تسببت في الهزائم في مرحلة الحروب هي نفسها التي أدارت العملية السلمية، وهذا يثبت مدى الترابط بين السلام والديموقراطية، ويثبت أن الشمولية ليست أقل سوءاً من الصهيونية. 6- كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى ومؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو وغيرها، بما لها وما عليها، السبب في أن أصبح الفلسطينيون طرفاً تفاوضياً مستقلاً، وشكل كل ذلك احتمالات تضييق فرصة استغلال القضية الفلسطينية كعنصر استهلاك محلي خصوصاً بعد التسوية النهائية، ما يفتح ملفات حقوق الانسان والحريات والحداثة المفقودة منذ نصف قرن وأيضاً ملفات الفساد والجرائم. 7- لم يحاول العرب الاستفادة بأدنى درجة من وجود قوى السلام وقوى الحل السياسي في اسرائيل، والتي كانت موجودة وضاغطة بإستمرار، والتي تتشكل من دوائر عدة داخل العرب واليهود العرب واليسار وحركات السلام والأكاديميين ودوائر ما بعد الصهيونية، والسبب هو أن من كان شاغله قهر الرأي الآخر في شعبه أمنياً ودعائياً وقانونياً وسياسياً واجتماعياً يصعب عليه فهم وجود الرأي الآخر في شعب آخر" فما بالنا بالتعامل معه. 8- كثيراً ما ينسى العرب هزائمهم الاستراتيجية والحضارية ويتصرفون كمنتصرين ويطالبون بشروط المنتصرين كأن المهزوم هو طرف آخر في كوكب آخر، وكثيراً ما ادعوا أن الحل الوسط التفاوضي هو انتصار ساحق، وكثيراً أيضاً ما لوحوا بالحرب والعنف، وهم في الحقيقة يقصدون الإرهاب، وكان ذلك يخدم اليمين القومي والديني في إسرائيل، ودرس نتانياهو يصلح هنا أيضاً، إنها خيالات المآتة وقد وضُعت عليها أردية الحزب، فحطت صقور الحرب والعنصرية الإسرائيلية فوق أكتافها وخوذاتها. 9- وفي عجالة، ونظراً لكمّ الألم الذي يشعر به الانسان أمام ما يحدث للشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة وعرب 1948، لا بد أن نتساءل: من يرقص على طبول من الآن؟ بعدما ذهب شارون الى الأقصى مستغلاً قانون حماية الوزراء الحاليين والسابقين لدق المسمار في نعش الدولة المدنية في اسرائيل وفرصة السلام مع العرب. هكذا تعقد الموقف ما بين رغبات اليمين الاسرائيلي ورغبات الأنظمة الرسمية العربية في تفويت فرصة السلام الأخيرة، والأصولية التي ركبت الشارع. انها اعادة انتاج للحظة التاريخية نفسها، في يوم الجمعة 14 أيار مايو 1948 ويوم الأحد 4 حزيران يونيو 1967. وكالعادة يدفع الفلسطينيون الثمن. ان اصوات السلام أكثر خفوتاً من أصوات طبول الحرب. هنا يصبح من المناسب عرض واقعة كامب ديفيد 2 وتبيان ملابساتها: أولا: كانت كامب ديفيد 2 خطوة تراكمية هائلة ومرحلة تفاوضية مهمة بمقاييس عدة أولاً أنها تجاوزت كل مراحل التفاوض والاتفاقيات السابقة بما فيها جنيف وكامب ديفيد 1 ومدريد وأوسلو 1 و2، بحكم تناولها قضايا "المرة الأولى" مثل اللاجئين والقدس والمياه، وتبلور فيها للمرة الأولى موضوع الحدود على سبيل المثال وأسست لمفهوم مرن ينطبق على الجانبين، كما أنها جعلت التسوية النهائية مفهوماً مألوفاً داخل إسرائيل بكل ما يحويه من قضايا لم يكن من الممكن الاقتراب منها ولو لا شعورياً، كما أنها سبّبت جرعة من الثقة بالنفس للشعب وللمفاوض الفلسطيني ربما زادت عن الحد للحظة، وكان التصريح بفشلها من أطراف عربية بعد كل ذلك لا يمكن تفسيره داخل العقلانية. ثانيا: كان اختزال مواضيع التفاوض كلها مثل السكان والأرض واللاجئين والحدود والمياه والمستوطنات والطرق والأمن داخل موضوع الأماكن المقدسة، إضافة إلى ترديد شعارات من نوع: "لا يوجد مسلم واحد يرضى بكذا وكذا"، "القدس مفتاح الحرب والسلام"، "لا بد من أن يقبل العالم العربي والإسلامي"، كان الامر وضعاً للعصي في العجلات، وتحكيماً للأطراف التي رفضت الحلول السلمية من قبل وشجعت التطرف، كما أن الرد جاءهم بسرعة لا يمكن توقعها عندما صرح رئيس أكبر بلد إسلامي وهو الرئيس عبدالرحمن وحيد رئيس أندونيسيا "أنه يوافق على أن يكون بعض الأماكن الإسلامية المقدسة تحت إشراف إسرائيل"، ولا بد أن نذكر هنا أن مساهمات العرب والدول المسلمة في دعم القدس ووكالة الغوث التي ترعى اللاجئين تقرب كلها من الصفر، كما كان ذلك تبديداً لإستقلالية المفاوض الفلسطيني، ولست أدري ما الفائدة من وضعه بين طالبان والشيشانيين وقاطع الطريق أبو سياف وسفاحي جزر البهار. انها أرصدة التفاوض الزائفة. لقد كانت كلمة ملك المغرب أمام لجنة القدس ومقرراتها في أغادير مثالاً يحتذى في هذا الشأن وكان فحواها باختصار: "دعم الرئيس عرفات"، و"مساندة الفلسطينيين لنيل حقوقهم وعودة القدسالشرقية إلى أصحابها الاصليين طبقاً للشرعية الدولية". إن مكان الجميع هو خلف المفاوض الفلسطيني ليس قبله وليس بجواره. ثالثا: اختص التفاوض في القدس عموماً والأماكن المقدسة خصوصاً "بكل" المسلمين ونسينا أن القدس فيها مئتا ألف فلسطيني، فاعدنا قضية سياسية فلسطينية - اسرائيلية الى منطقة الرموز والمجردات. إن القدسالشرقيةفلسطينية مثلما مكةالمكرمة سعودية، والعتبات المقدسة في النجف وكربلاء عراقية، وكنيسة سان سباتيان ايطالية. إن المعاني ليست موجودة في الحجارة إنها داخل الأفئدة والعقول، والكتب المقدسة ليست سجلات عقارية، انها معتقدات ايمانية، وإلا كنا نؤسس لصهيونية جديدة ووثنية جديدة، وبما أنه ليست لدينا خرائط للأفئدة ولا محاضر حصر للإيمان، فلن يكون لدينا حلول وسط للمجردات والمطلقات. إن التسوية والحلول الوسط والخرائط هي للعقارات والبلديات والطرق والمدارس والمزارع وأماكن السياحة والمؤسسات. ان الايدلوجيات البربرية على الجانبين تختصر شؤون الناس والوطن في المطلق والمجرد، ولذلك فهي تُجمل الانتحار والعدم وميول اللاتسامح والدم والتطرف، لكن الحداثة والفكر الديموقراطي يزنان شؤون الناس والوطن بمقاييس الفائدة والسعادة والحرية وقيم المستقبل، ان الذهاب الى السياسة عبر العقائد كان دائماً محفوفاً بالمخاطر. لقد كان درس الانتفاضة الأول والأساسي هو تجريد الاستيطان والتوسع الصهيوني من رداء العقائد وتفسير التاريخ بالمقدس وبواسطة حراك اجتماعي سياسي يطالب بالعدالة الانسانية، وحتى لا ندخل في سباق محكوم بالفشل مع قوى اليمين الديني والقومي العنصري في إسرائيل، وحتى لا نسمح للقوى العربية المعادية للحرية والحداثة أن تترك على انقاض استقلالية المفاوض الفلسطيني، وحتى لا نسقط ثانية بين فكي هذا التحالف الشرير" فإن القدس ومن دون انتظار لأي إشعار آخر هي قضية عدالة انسانية مثل كل القضايا "الفلسطينية". رابعاً: لا شك في أن الدولة الفلسطينية هي حق للشعب الفلسطيني مكتمل الشرعية الدولية والقانونية والإنسانية، حق ملزم لكل الأطراف بما فيها إسرائيل، وإعلان الدولة هو عنوان هذا الحق، لكن التوقيت بالضرورة له علاقة باكتمال أسس تلك الدولة من حدود وموارد وعاصمة وتعداد السكان ومواصفات المواطنة وما إلى ذلك، وعلى رغم أن القضية الفلسطينية كانت هي محور المواجهة في الشرق الأوسط، حيث كان الصراخ باسمها، واستعمالها واستهلاكها خارج وداخل السلطة، مع الايديولوجية ومن دونها، وفي النوم واليقظة، وهي "الوجود وليس الحدود"، إلا أن تقرير المصير الفلسطيني وتشكيل الدولة يأخذان ملامحهما كقضية تفاوضية بين الفلسطينيين وإسرائيل، لذلك فإن إعلان الدولة يرتبط بعنصرين، أولهما اكتمال تلك الدولة وثانيهما إعلان نهاية النزاع مع الطرف الآخر المفاوض. أقول ذلك من دون مواربة من أجل المستقبل ومن أجل دولة فلسطينية ديموقراطية. وتبقى كلمة تبدو بعيدة عن الموضوع، وهي أنه اذا كانت إدانة الهولوكوست والعداء للسامية هي شرط إنساني وأخلاقي لكل البشر، فإن الدولة الفلسطينية ومشاركتها في القدس كعاصمة هي شرط التطهر اليهودي الإنساني والاخلاقي. خامساً: تقف إسرائيل عند مفترق طرق حاسم، فهي ما بين الوقوف على أعتاب مرحلة جديدة تصبح فيها دولة "مدنية حديثة" امام المتغيرات الداخلية والاقليمية وأهم منها المتغيرات العالمية التي جعلت الواقع يتجاوز الخيال للمرة الأولى، وما بين ان تكر راجعة كي تسقط في فك الأصولية الصهيونية واليهودية. وهنا ايضاً لن تعود اسرائيل الأولى التي أسسها الحرس القديم، وأنها ستصبح اسرائيل اخرى أكثر تطرفاً وعنصرية مع العرب تأتي من خلال الاتجاه الأول، وفي اعتقادي أن ايهود باراك، ذلك المغامر والمناور، الحالم والانتهازي في وقت واحد وفي تناقض من النادر أن يجتمع، وهو القائد العسكري الذي وصل الى مرتبة البطل القومي، وبدأ حياته الرئاسية بهزيمة اليمين هزيمة ساحقة وبخطة انتخابية شبه عسكرية، هو نفسه ومن خلال سوء تصرف وافتقار كامل للتخطيط، وبمجرد أن شرع في التفاوض مع الفلسطينيين سرعان ما انهار تحالفه الحزبي ومجلس وزرائه، بل مكتبه الذي نشب فيه نزاع ثلاثي الأطراف، استقال اثره اثنان من أبرز مساعديه وأصبحت قاعدته في الكنيست لا تزيد على 30 مقعداً، وأصبح على شفا إعادة الانتخابات، وليس لديه سوى شهرين لترميم كل ذلك الانهيار. وبينما هو وسط كل ذلك يعلن حرباً أهلية ثقافية من طريق رفعه لشعار "الثورة المدنية" إذ يتم وضع دستور مدني علماني بالضرورة، ويسمح بالزواج المدني، وإلغاء أو تقليص الأحزاب الدينية التعليم الديني. وأصبح هذا الرجل الذي يحمل كل تلك التناقضات يقاتل بحماقة عند الجدار الأخير من الممتع ممارسة النقد مع رئيس منتخب حتى لو كان في إسرائيل، وهو يراهن في اعتقادي على رصيده المتوفر من الانسحاب من لبنان وعلى رغبة قطاعات واسعة من الشعب الاسرائيلي في السلام، ورغبة قطاعات أكبر في "إسرائيل أمة مدنية حديثة"، وهو يمكن أن يفشل ويمكن أن ينجح، وخارج هذين الاحتمالين ليس لدى العرب سوى شهرين، وعليهم في حال عدم الاتفاق أن يواجهوا احتمال صعود نتانياهو أو شارون. وعليهم أن يتذكروا كم مضغوا الصمت والعجز والتطرف لثلاث سنوات مع نتانياهو. أعرف أن اطراف التحالف على الجانبين يرغبون في ذلك، ولكن علينا أن نضع في الاعتبار أن وفد التفاوض الاسرائيلي يضم ثلاثة من أنصار الحل السلمي هم يوسي بيلين وشلومو بن عامي وحاييم رامون، وربما لا يتكرر ذلك ثانية، وأن باراك مثلما يمثل "اسرائيل جديدة" فهو عبء عليها، ومثلما هو خصم للعرب فهو يحتاج الى السلام معهم وهم بحاجة الى أن ينتصر في معركته عند جداره الأخير. سادساً: يتصاعد بين الحين والآخر الكثير من الأصوات العربية التي تندد بتدخل الولاياتالمتحدة وانحيازها لإسرائيل، وتطالب بالعودة الى مظلة الأممالمتحدة ومجلس الأمن، وبعض الأصوات المعتدلة نسبياً تحاول على استحياء اشراك أطراف اخرى في العملية السلمية مثل روسيا أو الصين أو الاتحاد الأوروبي، وكل هؤلاء يمكن أن يوسعوا مظلة الشرعية، أو في أفضل الأحوال يُكملوا الدور الاميركي، ولكن لن يحدث، ولفترة غير قصيرة، أن يتناقض أي من تلك الاطراف بفاعلية حاسمة مع القرار الاميركي نظراً لإعتبارات كثيرة ليس هنا مجال تناولها. ويذكر العرب أن الصراع العربي - الإسرائيلي ازداد حدة وتدهوراً وحلت بهم الهزائم الفادحة في ظل الحرب الباردة وعندما كان الاتحاد السوفياتي في عنفوانه، وعندما كان العرب يتحدثون عن ازالة اسرائيل كان السوفيات والغرب معاً يتحدثون عن حق إسرائيل في البقاء وضمان أمنها. وبمسح سريع للنزاعات الاقليمية حول العالم نكتشف ان التصورات الاميركية للسلام العالمي تداخلت مع مهام الأممالمتحدة، وهكذا نجد السياسات الاميركية هي الطرف الثالث ولها مبعوث دائم متفرغ في وجود الأممالمتحدة أو في غيابها في ايرلندا والبوسنة وكوسوفو وبين الكوريتين الشمالية والجنوبية وفي قضية الصحراء والسودان وكشمير والخليج والحرب الاريترية - الاثيوبية، وقبل كل ذلك في نزاع الشرق الاوسط. وهكذا يتضح أن الدور الاميركي هو قدر لا فكاك منه شينا أم أبينا، وأن التعامل معه بمفاهيم الديموقراطية يتيح تفكيك هذا الدور ما بين الشعبي والحكومي وجماعات الضغط ومراكز التأثير في القرار وأماكن صناعة الذهنية، ولكن كيف وفاقد الشيء لا يعطيه بالضرورة. على انه من المتوقع - في اعتقادي - أن يضعف هذا الدور أو بالأحرى يضعف الضغط من أجل التسوية بعد الرئيس كلينتون خصوصاً في حال نجاح المرشح الجمهوري بسبب ميوله الريغانية المحافظة، وفي الاساس بسبب التركيب الفكري الخاص لكلينتون وهو أحد أهم مؤسسي الطريق الثالث، كما انه وزوجته السيدة هيلاري ينتهيان الى مجموعة فكرية تجديدية. أعرف في النهاية أن السلام هو ما يقتنع به عدد كاف من الفلسطينيين وعدد كاف من الإسرائيليين، وأعرف أنه لن يوجد ما يقتنع به كل الناس على كل جانب. وأعرف أن أفكاراً عدة مقترحة كحلول لمأزق القدس وليس لديّ حتى الآن ترجيح لأي منها، لكنني أعتقد أن الحل المناسب ليس في برلين جديدة يقطعها سور برلين آخر ايديولوجي أو شبه مقدس يبدأ من عنده عالمان منفصلان احدهما يعيش وراء أستار الظلام وأتربة الماضي والآخر حديث وعصري. إن الحل المناسب من وجهة نظري هو الحل الديموقراطي الذي يجعل منها مدينة مفتوحة يبدأ منها السلام الحقيقي. * كاتب مصري.