تصل القطارات من قبلي ومن بحري الى محطة مصر. يفارقها الركاب. كل الى وجهته، ربما يتردد بعضهم لحيظات تطول أو تقصر، لكنه سرعان ما يذهب. المحطة بأرصفتها وساحاتها ومداخلها التي هي مخارجها نقطة عبور. لكنه أقام، لا يعرف شخصاً غيره جاءها وبقي بها، لم يفارقها إلا نادراً، لا يعرف مكاناً غيرها. أبعد ذكرياته، وأول ما يستعيده مرتبط بالمحطة، بوالده الذي عمل عتالاً يشيل الحقائب والاجولة والقفف، اثقل الحمول، لكن والده لم يقم في المحطة، استأجر غرفة صغيرة تحت سلم بيت قديم خلف المستشفى القبطي، اي على مسافة دقائق من المحطة، كان يصحبه معه، يده لم تفارق يده إلا عند وصول قطار وسعيه الى حمل حقيبة هذا او قفة ذاك او حمولة هذه، احياناً يستدعيهم المسؤول عن تحميل قطارات البضائع التي تقف بعيداً من أرصفة الركاب. لم يتركه وحيداً، كان يخشى أمراً مجهولاً لم يفصح عنه في سنوات العمر الأولى. خطر غامض مقبل من قبلي حيث القرية التي ولد بها والتي خرج منها ليلاً مصطحباً ابنه الذي لم يتمكنوا من الامساك به، لم يفسر الأمر ولم يفصله اثناء الحديث الليلي الذي يسبق النوم، كان حانياً على ابنه عبد العال، عمل له أماً وأباً، وحاول أن يجنبه ما عرفه من مشاق وصعاب، يمكن القول إن عبد العال اصبح ابناً لكل مَن في المحطة، بدءاً من الناظر والمساعدين والمفتشين وحراس الأمن والبوليس العلني والسري، كلهم يعرفونه، كان الزمن جميلاً، معاوناً، والناس قلوبها رحيمة، كان يجري من هنا الى هناك، من رصيف الى رصيف ومن قطار الى قطار، يبدي الهمة، يسعى هنا وهناك، لا ينهره إلا الغريب، كل من في المحطة يعرفه، عبد العال ابن جابر الصعيدي، كان يحرص على حضور لحظات تحرك القطارات بخاصة الى الجنوب، الإصغاء الى هديرها المبتعد ونفث بخارها وطشطشة مراجلها. ثم ذلك الصغير الحزين المثير للحنين، بشكل ما كان يعرف من نثار كلمات والده ان ظلماً لحقه هناك في قرية صغيرة تقع على حافة الصحراء الى الغرب، وانهم فرّقوا بينه وبين امرأته أمه ولينقذ حياته وحياة ابنه اضطر الى الهرب ليلاً، مشى مسافات ومسافات، ثم استقر في آخر مكان يخيل اليهم انه سيوجد فيه، محطة مصر، هل سمع أحد عن شخص أقام في محطة مصر؟ مكان المسافرين، هو صحيح أنه لم يكن ينام فيها، ولكن رزقه ارتبط بها وفي المحطة المخيفة للغريب لم يخش على ابنه قط، في ساعة معلومة يلتقيان ليلاً، ينصرفان الى الغرفة الصغيرة التي لم يكن داخلها إلا حشية يتمددان فوقها وموقد بريموس وعدة الشاي، و"أنانين" للطبخ الذي كان الوالد يتقنه خصوصاً في أيام الجمع التي يحرص على قضائها بعيداً من المحطة إلا اذا دعت الضرورة. حفظ عبد العال مواعيد القطارات جميعها، النهارية والليلية، المتجهة الى قبلي والى بحري، المقبلة ايضاً، ليس قطارات الركاب فقط، انما البضاعة ايضاً، عرف السائقين، وكان خياله يجمع الى حد رؤية نفسه في موضع أحدهم، قائداً لقطار. يذكر أول مرة قصد فيها الاستراحة، في الاربعينات كانت مفروشة فرشاً وثيراً، الاسرّة من خشب، والاغطية نظيفة، وبجوار كل سرير صوان صغير من خشب، وكان الحمام مزوداً بالماء الساخن والبارد، النوافذ مُحكمة الاغلاق، وفي السقف مراوح لا تتوقف شهور الصيف، اوصاه عم احمد السائق البدين ان يوقظه في السادسة صباحاً، في الموعد المحدد تماماً قصد الاستراحة سبق أباه الى المحطة، ومنذ أن دخلها يمكن القول إنه لم يخرج منها حتى ذلك اليوم الذي لم يتصوره قط ولا تمنى شروق شمس عليه حياً. لم يوقظ عم احمد السائق فقط، انما تردد على الاستراحة ليعد الشاي الثقيل المضبوط بعد أن اخبر رجب العطشجي زملاءه بقدرته على ضبط المقادير، ونفَسُه الحلو في إعداد القهوة، مضبوطة، وعلى الريحة وزيادة وطبعاً سادة، ثم زاد بإعداد الأرغفة المحشوة بالفول والطعمية، أو الجبن الابيض والحلاوة... شيئاً فشيئاً أصبح له ركن في الاستراحة فيه ما يلزم المشاريب والسندويشات الخفيفة التي يعدها طازجة نظيفة، ليغير كل منهم ريقه قبل ذهابه، او ليأخذها بعضهم معه كزاد للطريق، اذا كان قيام القطار ليلاً، كان كل منهم يعطيه ما قسم به النصيب، مرة نعم ومرة لا، لم يتوقف عند هذا ليراجع معه الحساب أو ليدقق مع ذاك، هكذا بدأ، وهكذا ظل الى ذلك اليوم، على رغم تغير الظروف واختلاف الاوقات ورحيل من رحل مع الساعات والقطارات، لم يكن مقيماً إلا بالاسم والوصف، لكنه دائماً لاهث، راحل مع القطارات او واصل من خلال سائقيها، بعد رحيل والده المفاجئ، وفارقته الحياة بهدوء فوق رصيف المحطة بعد شعوره بإرهاق طارئ، لساعتين أو ثلاث ظل كل من يراه أنه نائم، الى أن توقف أمامه النبوي عامل البوفيه، وصاح كأنه يكتشف أمراً خارقاً للعادة. - أول مرة اشوفك نايم... لمس وجنته، تراجع زاعقاً: "لا إله إلا الله، إنا لله وإنا اليه راجعون". بعد أسبوع نزل صاحب البيت الى الغرفة ليخبره بضرورة تسليم المفتاح والذهاب أول الشهر. بعد أسبوع نزل صاحب البيت الى الغرفة ليضع بها حاجات ضاقت الشقة بها، يبدو أن السبب الحقيقي خشية من أعزب في بيت بمفرده، بعد يومين فقط، وقبل ثمانية ايام من انتهاء المهلة، طرق باب صاحب البيت في الثامنة صباحاً، سلمه المفتاح، وطلب منه أن يسامحه لو كان اساء إليه من غير قصد، بدا صاحب البيت متأثراً، سأله: لماذا العجلة؟ قال إن الأمر قضي، وأرض الله واسعة على عبيده، الحقيقة أنه لم يمض بعيداً. يمكن القول إنه اعتباراً من ذلك اليوم أصبح جزءاً من الاستراحة، بل يمكن القول انه المقيم الوحيد فيها، الكل عابرون، تماماً مثل القطارات التي لا تقف إلا لمدد محدودة في المحطة ثم تفارق الأرصفة، لم يصدر قرار، ولم يُتّخذ اجراء رسمي، لكن منذ أن سمح رئيس المحطة بنزوله اصبح جزءاً من المكان. اتخذ ركناً قصياً حتى لا يزعج أي إنسان، على رغم أنهم أحبوه، عطفوا عليه ورقوا له، بل إنهم جميعاً صاروا الى اعتماد كامل عليه في ما يتعلق بإيقاظهم، ليس إتقانه إعداد الشاي والقهوة واعداد الشطائر أهم ما يعنيه عندهم، إنما قدرته على ايقاظ كل منهم في موعد مناسب للتوقيت المحدد لتحرك القطار المسؤول عنه. عبر سنوات متتالية اتقن معرفة مواعيد القيام والوصول، خصوصاً مواعيد الذهاب يحفظ رقم القطار، واللحظة المعينة لحركته، لحظات القيام لا تتغير، فالمحطة هنا تعني البداية ولكن الوصول ربما يتأثر لسبب أو لآخر، طارئ، استثنائي، والحق أن هذا كان امراً نادراً، وقوعه مما يؤرخ به. حركة القطارات حتى الستينات، بالتحديد حتى اختفاء القطارات البخارية كانت مثل الساعة السويسرية، لا تخل ولا تحيد، اهتم ايضاً بالسائقين عرف اسماءهم، بل وأحوالهم، كان يستقبل كلاً منهم، فيسأل عن الابناء بالاسم، ويستفسر عن صحة الزوجة التي توعكت بعد وضع أو نزلة برد، او طارئ لم يفصح الزوج عنه، كان يتتبع اخبار الابناء واداء امتحاناتهم تابع بعضهم من المرحلة الابتدائية الى التخرج في الجامعة، وعندما كان بعض الآباء يصرون على حضوره خطوبة او دخلة، يقول إنه سيذهب الى السيدة نفيسة ويدعو لها هناك بالبركة والتوفيق، كانت السيدة نفيسة مقصده ومأواه، يحرص على حضور مولدها، كل سنة ولمدة ثلاثة أيام يقيم الى جوار ضريحها، يكنسه ويرش الماء حوله ويقوم بسقاية القوم، يقضي وقتاً غير هين يتحدث اليها، يهمس بما لا يعرفه أحد ملصقاً جبهته بقضبان المقصورة، يثق أنها تصغى إليه وتسمعه، وتبلغ والده الرسائل التي يشيعها اليه من خلالها، شاع أمره وعرف الكل أنه من خدامها وأنه من محاسيبها، وبالتالي فإن دعاءه مستجاب هناك عندها، الكل طلب منه الدعاء، من مدير المصلحة الى أصغر الحمالين أو العطشجية وعمال الدريسة القريبين في الشرابية وعند إمبابة، اذا غاب عن الاستراحة فالكل يعرف أنه راح الى الست، كان يعرف الاوقات المناسبة التي يمكنه الذهاب خلالها، عندما يطمئن الى نزول سائقين يعرف قدرتهم على الاستيقاظ من دون الحاجة اليه، عبر هذا العمر كله أصبح عارفاً، عالماً بعادات كل منهم، حتى من تختلج عيناه بتأثير كابوس او منام ثقيل، عنده إلمام بالوقت اللازم لإفاقة هذا او ذاك، يختلف الأمر في ما بينهم، كان أحمد العسال ينط من فراشه الى مقصورة القيادة، كأنه لم يكن نائماً قط، بينما كان الشاذلي السكندري في حاجة الى اللمس الذي يمكن ان يصل الى حد القرص، او الربت بقوة على الوجنة، ومتابعته حتى يغسل وجهه، ويطمئن الى بدء نزوله السلم. كان السائقون القدامى المتخصصون في الجرارات الإنكليزية الصنع يقولون إنهم يتفاءلون به، ويطمئنون الى دقته، لو غفا فإنه يستيقظ عند الموعد المحدد لايقاظ من سيحل دوره، لا يحتاج الى أحد ليوقظه، هو يوقظ الجميع، حتى في أيام وهنه، اذا لحقته نزلة برد، أو أوجاع غامضة، فإنه يحامل على نفسه ويسعى الى من يغط في السبات حتى يتهيأ وينزل راضياً، مرضياً، من يسوق القطار، يجب أن يكون مستريحاً، منتبهاً، أرواح الناس أمانة. قال له مدير المصلحة عند مروره يوماً في زيارة نادرة، وقت ان كانت الاستراحة مفروشة كأفضل الفنادق وأسرّتها وثيرة، والستائر وافية. "داخلك ساعة لا تخطئ". تأثر من الإطراء غير المتوقع، حار في الجواب، شرع في الانحناء حتى كاد يقبل يد الرجل الطيب الذي اعتبرت كلماته اشارة لتمتين وضعه. الحقيقة أنه لم يقلق قط، ولم يحمل هماً، كان يتلقى في صمت النقود التي يجود بها كل منهم لا ينظر ولا يحصي ولا يعرف، لم تدركه الحاجة، ولم يلق جحوداً من الاجيال الجديدة، صحيح أن الحديث معهم أندر، والكلمات اقل، لكنهم ورثوا عمن سبقوهم احترامه والتبرك به، والثقة فيه، إنه سيتدخل في الوقت المناسب، سيجده كل منهم قائماً عليه، يوقظه برفق، بحنية. لم يلحظ أن حركته ابطأ، وأن سمعه أثقل، وأنه أصبح ينظر الى الجميع من تحت الى فوق. وعندما قال له أحدهم: "خذ بالك يا عم عبد العال، المصلحة ستبيع الاستراحة الى بنك أجنبي". بدا دهشاً، غير مصدق، قال بهدوء: "القطارات لن تتوقف...".