الكتاب: طيور العنبر رواية الكاتب: ابراهيم عبدالمجيد الناشر: سلسلة روايات الهلال - القاهرة كانون الثاني يناير 2000 تأتي رواية "طيور العنبر" لإبراهيم عبدالمجيد إضافة إلى أعماله السابقة، كدليل على اندماج الوعي داخل مجراها، حتى مع القراءة التحليلية، والاستمرار في ذلك تحت ضغط نوع من "التنويع الأدبي". فما هي الحيل التي يستطيع كاتب ما أن يمارسها، لكي يتحقق له ذلك؟ في حالة ابراهيم عبدالمجيد، فإنه يستثمر ذاكرة المكان الذي يمثل الشخصية المحورية في معظم أعماله، حيث تتأسس تلك الأعمال على فكرة "مركزية المكان" الذي تمثله الاسكندرية عادة. على أن علاقة الجدل التي تنشأ بين المكان المركزي والمكان الهامشي الذي يدخل في مجال تأثيره، هي التي تحدد طبيعة العلاقة بين الواقع والحلم داخل الرواية. فالمكان يتشكل عادة عند ابراهيم عبدالمجيد في شكل دائرة، تأتي الاسكندرية في موقع المركز منها، بينما يشكل المكان الهامشي محيطها. وتحدد طبيعة ومزاج الشخصيات طبقاً لموقعها داخل تلك الدائرة، فالشخصيات المهمشة التي تقبع في المحيط، يمثل المركز عادة حلماً لها. وعندما تصل اليه في مراحل لاحقة، يتحول الحلم إلى واقع، وتبدأ رحلة البحث عن حلم جديد، ربما خارج الدائرة، مثل محمود الملاح، وقد ترتد مرة أخرى في البحث عن الحلم في محيط الدائرة ذاته، كما في حالة عربي. إن شخصيات ابراهيم عبدالمجيد، التي فرض عليها أن تعيش في أماكن هامشية، تسعى - عادة - بقوة للتخلص من سطوة هذا المكان. وهذه القاعدة تنطبق - كأصدق ما تكون - على رواية "طيور العنبر". فمحمود الملاح يسعى لاخراج فيلم خارج المكان، وعربي يسعى للإقامة في الأسكندرية، وابراهيم مرسي ينتقل الى كفر الزيات بالفعل، وفلفل يتمنى السفر الى الهند. حتى البنات اللواتي يرتبطن بالمكان أكثر من غيرهن، تطاردهن حمى الهجرة خارجه: نوال ذات الصوت الجميل تبحث عن فرصة خارج المكان، ومشيرة وشوقية وبدرية بالزواج، وبدرة تهاجر من المكان تحت وطأة العشق. وفي المقابل، لم يرتبط بالمكان الهامشي سوى شخصيتين: عيد المشعور، الذي انجذب عقله، واصبح مثل أهل الطائفة الكرامية يرى قدرة الله في مخلوقاته الجميلة: النساء. وايضاً هناك حبشي، الذي يقطن في كوخ خشبي على ترعة المحمودية، ويلتقط بين حين وآخر طفلاً لقيطاً يتبناه، فكأن حلمه قد تحقق داخل دائرة المكان، من الفعل لا من المكان ذاته. وتظل كل الشخصيات التي تتحرك على محيط دائرة المكان، محكوماً عليها بممارسة هامشيتها، على رغم كل محاولات التعويض التي تقوم بها. لذا، لا يتبقى أمامها سوى ممارسة بعض الحيل النفسية، التي تنسحب بتلك الشخصيات الى الداخل، بعد أن اصطدمت بالخارج. جزء منها يلتجئ إلى ما وراء الطبيعة: عيد المعشور - مجنون العلم - يني. وهناك جزء آخر يلتجئ الى ما وراء الواقع، من خلال اسطرته: مثل: الديب - والمسفّر الذي تلاه بعد اختفائه. أما شخصية المثقف الذي يمتلك الوعي بالمكان وبالواقع، فيمثلها سليمان داخل الرواية. إنه، كمعظم المثقفين الذين ظهروا في أعمال أدبية، يمارس سلبية مثلما يمارس حياته. ان مثله الأعلى هو عمه: سليمان الأكبر، الذي كان يكتب القصص شأن ابن أخيه، وعندما فشل حتى في الانتحار، مثلما فشل في تحقيق ذاته، سافر الى الكونغو ليبحث عن أية آثار باقية للامبراطورية الفرعونية هناك. إنه - أي سليمان الأصغر - يعيش على حافة الواقع، فلا هو ينزلق ليحيا فيه، ولا هو يتراجع حتى يصبح في مأمن منه. لذلك، تتحقق شخصيات أخرى، مثل حبشي، ولا تمتلك الوعي بالواقع، لكنها تمتلك شجاعة أن تشتبك به وأن تحياه. يظل ابراهيم عبدالمجيد واقعاً تحت تأثير سحر اسطرة الواقع، باتجاه إضفاء ملامح اسطورية عليه، لكن ما يميز هذا الاضفاء عنده، أنه يأتي في سياق منطق العمل، ولا يكون خارجاً عليه، فنحن نشعر أمام المنطق السحري للأسطورة داخل الرواية، وكأنها تستعير منطق الواقع ذاته، على رغم أنها ذات طبيعة مختلفة. ورواية "طيور العنبر" هي منطقة التقاء واقعين: الأول عبثي، والثاني سحري. والواقع السحري هذا يتحقق من خلال مجموعة من اللوحات، التي تتأثر داخل الرواية، بتكنيك عال، بحيث لا تبدو مؤطرة داخل العمل. وبداية من العنوان ذاته، الذي يشير الى "طيور العنبر" الخرافية، نتهيأ لدخول هذا العالم. أولى لوحات الواقعية السحرية، والتي تفسر لنا عنوان الرواية، تأتي على لسان أحد الشخصيات، والذي يعمل عطاراً، يمتلك اسرار مهنته السحرية، لذا اطلق على نفسه اسم "فلفل مطحون"، نظراً لأن أجداده - كما يزعم - كانوا من كبار تجار البهار، إنه يحكي عن أحد هؤلاء الأجداد، فيقول في إحدى اللوحات: "لقد أمضى حياته كلها بين عمان وزنزبار، يتاجر في العنبر، كان لديه أحسن فريق من الغواصين، يأتون بالعنبر من أعماق المحيط الهندي. سمع يوماً إن هناك عنبراً قيماً يقوم بإفرازه طائر خرافي في جزر المالديف. فذهب إلى هناك، وبنى بيتاً، وبحث عن الطائر الخرافي، لكنه لم يصل الى شيء. حتى جاء صباح سمع فيه دوياً في الفضاء، وصوت ضربات جبارة كأنها طبول من فوق الجبال. فتطلع من شرفة البيت، فرآها: الرياح الأربع قادمة الى البيت. كان قصراً في الحقيقة عالياً قوياً، فاقتلعت الرياح القصر، ومشت به أمامها في الفضاء. تركته واقفاً وحده، وحملت القصر سليماً، كما هو من حوله، وارتفعت به الى الفضاء، ولم تعد مرة أخرى. ظل جدي واقفاً يوماً كاملاً في العراء، لا أحد يمر به، ولا أحد يراه. وفي المساء مشى حزيناً الى الشاطئ، فوجد زورقاً في انتظاره، حمله الى سفينة نقلته إلى عمان، وانتهى صياداً للحيتان، حوت العنبر بالذات، لكنه مات في البحر دون أن يصطاد حوتاً واحداً". ولنتساءل مرة أخرى: هل تختلف أجهزة الأمن التي تحاصرنا من الجهات الأربع، عن تلك الرياح التي هبت من الجهات الأربع لتقتلع القصر؟ وهل تختلف نوال ذات الصوت الشجي والتي ظلت تبحث عن فرصة لإثبات الذات، عن تاجر البهار الذي ظل يبحث عن فرصة، لكنه - شأن نوال - مات من دون أن يتحقق له ذلك؟ إذاً، فبراعة الكاتب لكي يتمكن من تضفير الواقع بالأسطورة، تكمن في أنه يشير - ببراءة - إلى العناصر الاسطورية في الواقع، حتى نكتشف المنطق الذي يعمل به. حينئذ، لن يجد القارئ أدنى اختلاف بين المنطقين، بل ربما بدا منطق الواقع - في عمل الفنان المرهف - أكثر اسطورية عن منطق الاسطورة ذاتها. على أن الديب الذي كان يعمل "مسفّراً" أي حارساً فوق قطارات البضائع، قد تم رسم شخصيته بعناية فائقة، لإضفاء الملمح الاسطوري على الرواية. إنه - شأن السندباد - يجوب البلاد من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها. لذلك، فإنه يرى الأعاجيب التي لا يتاح للآخرين رؤيتها، فبعد كل سفرة يخلق من حوله هالة اسطورية. إن أولى حكاياته عن قطار خرج عن الكرة الأرضية. فقد كان القطار "يمشي بهدوء فوق الأرض، حتى بدأت الحرب وطاردتنا طائرات الأعداء، فأسرع السائق بالقطار، لا يقف ابداً، حتى انتهت الأرض من تحته. لقد صار القطار مثل الطائرة، وأنا فوقها أنظر الى الناحيتين، فلا أرى سوى الفضاء، يموج فيه الضباب والسحب والبخار، وعمق سحيق"!! وطبعاً، كان لاپبد لكي يعود، من أن يقفز الى القطار الذي يأتي من الاتجاه المعاكس في الفضاء السحيق. وفي واحد من أجمل المشاهد داخل الرواية، يقرر الديب أن القطار كان قد توقف في خلاء من الأرض البور، وبعد أن نزل من القطار مع السائق والعطشجي: "انشقت الأرض، وخرج منها رجال كثيرون، طوال ضخام يتقدمون ناحيتنا في بطء من كل جانب، كأنهم يحملون صخوراً على ظهورهم. اقتربوا فرأينا الحقيقة، كل رجل هو اثنان، رجل وامرأة التصقت بظهره.. لقد هربنا حين شعرنا بأن شيئاً ثقيلاً يحاول الخروج من ظهر كل منا، أنا والسائق والعطشجي، جرينا بأقصى سرعة، وتركنا القطار". أليس في منطق الديب هذا الكثير من منطق الواقع؟ فكل منا يعاني من ازدواجية ما، حيث نسير ونخفي شخصاً آخر ينبت في أعماقنا، أو في الخلف منا، سيان!! وعبر هذا المنطق المسحور، هل يمكن لإنسان أن يتحقق من حلمه؟ وإذا وصل إليه، ما الذي يحدث؟ إن الإجابة تكمن في ما حدث لشخصية سيد الأعرج، الذي ينام في دكانه، لا زوجة ولا ولد، يبيع الخضار ولا يتكلم مع أحد على الإطلاق، على رغم أن جهازه السمعي سليم. وقد عطف سيد الأعرج على غلام وجده الصيادون، فكان يعمل معهم، وفي المساء ينام في الفلائك، وحين ينهض في الصباح يجدون جلبابه القذر قد صار نظيفاً، فيعرفون أنه "قد نظفته الملائكة"! سمح سيد الأعرج للغلام أن ينام في دكانه، فيبدو أخيراً أنه قد وجد حلمه في تكوين اسرة، وفي هذه الأسرة سوف يستحيل الغلام لكي يصبح الزوجة والإبن معاً. "لقد سقط الأعرج فوق ظهر الغلام، مثل مركب حملها الموج الغاضب عالياً، ثم تركها تهوى في الماء، برك فوقه مثل بهيمة، ولما فرد الغلام ذراعيه فرد الأعرج أيضاً ذراعيه، وأحكم الإمساك بذراعي الغلام، الذي كان يتململ تحته ويئن. ظهر بين أضلاع وذراعي الغلام ريش قوي، واستطاع أن ينهض بنصفه الأعلى، والتصقت ساقاه، فتحول نصفه الأسفل الى ذيل سمكة مصمت، ملئ بالقشور. كاد يرفعنى معه، بل رفعني عن الأرض وهو ينهض بجناحيه، وتركني اسقط كالحالم الذي استيقظ. ورأيته أمامي يرتفع في فضاء الدكان المظلم، الذي أضاء فجأة بنور عجيب، وهبت ريح قوية، فتحت باب الدكان، فاندفع الغلام طائراً بجناحين، مرفرفاًَ في ظلام الكون الذي كان يضيء أمامه كلما اندفع فيه عالياً. لقد خرجت كالمجنون، ووقفت بالباب، ورأيته هناك في الأعالي فوق كرم الشقافة يحلق طائراً وسط المطر، متجهاً الى نجم بعيد، احترق قبل أن يصل إليه". في هذه اللوحة الرائعة، حيث يعتقد الإنسان بأنه قد وصل إلى حلمه، فإنما يكون قد استمسك بسراب خادع. وتأتي عظمة تلك المقولة البديهية من شكل المعالجة الروائي الجيد. تبقى ملاحظة أخيرة، خاصة بالزمان. لقد قام ابراهيم عبدالمجيد بمعالجة المكان زمنياً عبر ثلاث حقب حتى الآن. ففي رواية "بيت الياسمين" رصد الاسكندرية عبر الستينات. وقد أرتد مرة أخرى لكي يرصد الاسكندرية في حقبة الاربعينات، من خلال رواية "لا أحد ينام في الاسكندرية". وها هو يعيد رصيد مدينته الأثيرة في الحقبة الفاصلة بين الحقبتين السابقتين، حيث تغطي "طيور العنبر" المدة الزمنية التي تمثلها حقبة الخمسينات. فهل نحن إزاء مشروع زمني للتأريخ العاطفي للمكان؟ ربما، على أننا لا يمكن أن ننهي الحديث من دون الإشارة الى الشخصيات الأجنبية التي كانت تعيش في مصر في حقبة الخمسينات، خصوصاً كاتينا واسمهان. فالرواية تشير الى أنه قد تم اقتلاعهم من المكان، بمن فيهم الشخصيات اليهودية، وبالذات راشيل التي عشقت مصر بلدها، وعشقت العربي من خلال عشقها لمصر. لكن المجال يضيق عن الإفاضة.