ما زالت في الرحلة سفريات داخلية في اليابان. حتى وأنا أبدأ نوبة الرجوع، وأفكر في العودة إلى مصر. لا بد من شد الرحال خارج طوكيو. والقيام بالطقوس نفسها التي سبق القيام بها أكثر من مرة من قبل. كان علينا التحرك من طوكيو في العاشرة إلا الربع صباحاً، من محطة القطار الرئيسية. كل سفرياتي الداخلية تمت بالقطار. ليست فيها رحلة واحدة تمت بالطائرة. تحركنا من الفندق في التاسعة صباحاً بعد أن حزمت حقائبي من أجل تركها في أمانات الفندق. دفعت التأمين مقدماً وحصلت على الإيصال. هذا الايصال هو الدليل الوحيد على أن لي حقائب في هذا الفندق. لم يكن في المحطة أي "بوفيه" للشاي والقهوة. سألتُ فقالت كريمة إن الوقت الآن مبكر وهذه المحلات لا تعمل قبل الساعة العاشرة صباحاً. القطار عادي وليس فاخراً أو من نوع "الطلقة" الذي سبق وركبته وأنا في الطريق إلى أوزاكا. القطار جميل وفاخر ومنظم. يبدو أن الفارق فقط في السرعة وليس في النظافة. ولكن المهم أن راحة الركاب واحدة وتسبق أي اعتبار آخر. نحن في الطريق إلى مدينة هاكوني. وهي تبعد عن طوكيو مئة كيلومتر فقط. ومن هاكوني من المفروض أن نذهب إلى إيزو، مدينة معشوقي الخاص كاوباتا الذي كتب نصاً أدبياً عن هذه المدينة اسمه "راقصة ايزو". كنت سعيداً بهذه الرحلة بالتحديد. كنت أعيش حالة من الحبور والسعادة. ففي هذه الرحلة من المفروض أن أذهب الى متحف كاوباتا. أبدأ بها كوني أولاً. إنها أصغر مدينة ذهبت إليها في اليابان. أول ما لفت نظري في المدينة: نظافة الشوارع الحقيقية. المدن هنا ليست نسخاً من بعضها. ثمة قدر من الاختلاف والمغايرة يصل أحياناً إلى حد التناقض. وهذا يعني أن الابداع المحلي له دور مهم. عاملات نظافة الشوارع كثيرات. كل خمس عاملات لهن رئيسة واحدة. والزي موحد. زي برتقالي اللون. والرئيسة تعمل مثل العاملات تماماً. وكل واحدة في يدها اليسرى سلة وفي يدها اليمنى ملقاط تلقط به أي فضلات من فوق الأرض. وعلى وجه كل إمرأة كمامة من القماش الأبيض. سبق وأن لاحظتها في كل مكان ذهبت إليه في اليابان. وعندما سألت عن هذه الكمامة، عرفت أن من يضعها هكذا لا بد وأن تعرف أنه مريض بالانفلونزا، وهو يفعل هذا حتى لا يعدي أحداً بالمرض الذي يعاني منه والعدوى منه مؤكدة. أما الكمامة هنا فالسبب في وضعها هو لوقاية العاملات من آثار الفضلات والزبالة والأمراض التي يمكن أن تتسلل منها. الاشارات في المدينة كثيرة. والمرور بطيء. وثمة سيارات ترش الماء بشكل ميكانيكي على رغم أن الوقت كان شتاءً. والرزاز الخفيف الذي يسبق المطر مثل العذاب الذي لا ينتهي كان قد نزل منذ فترة قصيرة. هكذا قال لي منظر الشوارع التي شاهدتها عند وصولي إلى المدينة. كان أول بند في برنامجي اليوم هو زيارة متحف هاكوني. وهو متحف في الهواء الطلق يعكس جزءاً من قصة اليابان مع الثروة الهائلة التي هبطت عليه بعد هذا النهوض الصناعي الضخم والعملاق. والذي حدث أخيراً هو أن اليابان التي تناطح الدنيا من أجل أن تكون الدولة رقم واحد، وإن لم يكن فلا بد وأن تكون الدولة الثانية، تدرك أن هذه المكانة لا يمكن الوصول إليها بالمال وحده فقط، ولكن لا بد من وجود بُعد حضاري مهم. واليابان هي من الدول ذات الحضارة القديمة والموغلة في القدم. ولكن الحضارة كلها حضارة معابد. لم تترك سوى عدد هائل من المعابد القديمة. وفي زمن الوفرة الذي تعيشه في هذه الأيام، قامت اليابان بشراء عدد هائل من الأعمال الفنية الاصيلة من كل مكان في العالم. لا أعرف بدقة لماذا لم تنتج الحضارة اليابانية أعمالاً خالدة من الفن التشكيلي. فقط الرواية والسينما والمسرح. ربما كانت هذه الأعمال حديثة ومعاصرة وتعود إلى القرن العشرين. في حين أن النتاج الفني العظيم يعود إلى قرون سابقة على القرن العشرين. لقد اشترى اليابانيون أصول أعمال فنية خالدة. وفي متحف هاكوني جمعوا كمية من الأعمال الفنية تجعل هذا المتحف ينافس البوريفاج في لينينغراد. ومتحف المتروبوليتان للفنون التشكيلية في باريس. وقد شاهدت المتحفين في رحلات سابقة الى المدينتين. هنا في هاكوني كنوز فنية رائعة. ولكن ثمة رهافة يابانية من نوع خاص. لأن المتحف في الهواء الطلق بعيد عن متاحف الأسقف والجدران والأبواب والنوافذ. وجدت هنا مقتنيات مهمة لفنانين عالميين. قيل لي إن اليابان دفعت فيها مليارات الدولارات. وفي المتحف مبنى كبير خاص بالرسام بيكاسو. كل اللوحات المعروضة فيه هي لوحات أصلية سواء في الرسم أو التصوير أو التكوينات الفنية الأخرى. وقد رتبت لوحات بيكاسو بشكل شديد الذكاء. بمعنى أن كل مجموعة من اللوحات تتصف بموضوع معين، توضع في مكان يخصها. وكذلك صوره الشخصية النادرة والمهمة. المتحف الخاص ببيكاسو مغطى ومقفل، والمكان مكيف وفيه عدد كبير من صوره الشخصية معلقة بعد أن تم تكبيرها. هذا الاهتمام من قبل اليابان بالفنون والأعمال الفنية لفنانين ليسوا من اليابان مسألة شديدة الوعي. أنه لا يعني محاولة شراء حضارة أو سد نقص موجود عندهم. ولكنه استكمال لدور ثقافي وحضاري. طبعاً لم أعرف كم تكلف متحف بيكاسو، وكم من الأموال دفعوها في هذه اللوحات الأصلية. لأن هذه المعلومات لم تكن موجودة. ولم أجد من استفهم منه عنها لأن اليوم الذي ذهبت فيه إلى المتحف كان عطلة رسمية. كان هناك متحف آخر للفنان هنري مور في الهواء الطلق، وكان هناك في الحديقة الرئيسية للمتحف تمثال أكبر من الحجم الطبيعي لداوود. كان في المتحف عدد كبير من الناس العاديين. وقد دهشت من إقبال هؤلاء الناس العاديين على الفن التشكيلي الذي من المفروض ألا تقبل عليه سوى الصفوة أو الذين لهم اهتمامات ثقافية. هذه الزيارة كانت تعني بالنسبة إليّ لقاء من نوع خاص مع بيكاسو. قبل الزيارة لم يكن بيكاسو يعني بالنسبة إليّ أكثر من اهتمام عام. ولكن عند زيارتي لمعرضه في هاكوني باليابان وقفت اتأمله واقرأه. أدركت سر عظمة هذا الفنان: هل هي غزارة الانتاج غير العادية؟ أم أنها تلك القدرة الغريبة على التغيير والانقلاب على الانجاز؟ لم يكن بيكاسو مستعداً لكي يستعبده اتجاه معين. كان مستعداً للخروج إلى مسارات جديدة في كل مرحلة من مراحل تطوره الفني. بيكاسو أبعد ما يكون عن التكرار الممل الذي نجده عند الفنانين الذين يعمرون طويلاً خصوصاً في بلادنا. بيكاسو كان قادراً على المفاجأة، ان يفاجيء الدنيا بكل ما هو جديد وغير متوقع في لحظات غير متوقعة. كل اللوحات والتماثيل المعروضة كانت لها صور مطبوعة في مجلدات فاخرة وتباع لرواد المتحف بأسعار غالية. وفي الطريق الى المتحف كان هناك مطعم كبير ومقهى وكافيتريا وسوبرماركت ضخم من أجل التبضع والتسوق لزوار المتحف. وكان هناك كشك صغير يبيع كاميرا من الورق للرواد فيها فيلم واحد. تصوره وترمي الكاميرا، وأن رفضت رميها وحاولت إخراج الفيلم مع الابقاء على الكاميرا يكون ذلك من رابع المستحيلات لأن إخراج الفيلم يتطلب كسر الكاميرا المصنوعة من الورق. وقد رأيت في هذه الكاميرا تجسيداً قوياً لفكرة المجتمع الاستهلاكي، وتصورت أن السيارة يمكن أن تصبح من الورق، وأننا قد نلبس ملابس من الورق. لأن ذلك هو الضمان الأكبر لضخامة الاستهلاك التي قد تستوعب الانتاج الرهيب في هذا البلد. وهاكوني مدينة متناثرة فوق الجبال. وأكبر عدد من البيوت المتجمعة مع بعضها في مكان واحد لا يزيد على أربعة أو خمسة بيوت. وعندما بدأنا رحلة الصعود فوق الجبل كان المطر الغزير قد بدأ. وفي هذه الجبال عيون تخرج مياها ساخنة كل أيام السنة، حتى في قلب أيام الشتاء التي ينزل فيها الثلج. سألت: هل كون المدينة متناثرة فوق الجبال له علاقة بالسياحة الموجودة فيها؟ قيل لي: لا. أن سبب السياحة هو التنوع الفريد في المكان والذي يجعل منه تحفة حقيقية. كان المطر غزيراً وقوياً. وكان هدفنا من الرحلة إلى هاكوني هو زيارة جبل فوجي الذي يعد أعلى قمة في اليابان. وقمته مغطاة بالثلوج طوال أيام السنة، إلا بعض أيام معدودة يذوب فيها الجليد. وهذه الأيام تقع في شهر أغسطس من كل سنة. وجبل فوجي بارتفاع 3777 قدماً فوق سطح الأرض. والقول انه جبل تعبير مجازي لأن قمته مغطاة بالنباتات الخضراء وكذلك جوانبه. ومن أجل مشاهدته صعدنا فوق جبل آخر مقابل له وإن كان أقل منه ارتفاعاً. لأن الصعود فوق جبل فوجي لن يمكننا من رؤية شيء فيه. صعدنا فوق الجبل المقابل لفوجي تحت أغزر مطر رأيته في حياتي. وعلى رغم الخطورة الكامنة في صعود الجبل، ووسط هذا المناخ، وفي قلب طقس كهذا... إلا أننا صعدنا، ذلك ان البرنامج ينص على هذا. وإن كنا لم نر أي شيء من قمة جبل فوجي بسبب المطر والضباب الذي يحيط به والسحاب الذي يمر من حوله ويدور بالقرب منه. كان السحاب حولنا ونحن فوق الجبل. للمرة الأولى في حياتي المس ذلك الشيء الهش الذي يبدو من بعيد مثل القطن المندوف. كنت اتصور من قبل أن السحاب يتكون من الماء، ولكن يبدو أنه يتحول الى الماء في مرحلة لاحقة. كان من المفروض أن نزور البحيرة التي تتوسط الجبال في هذه المدينة. ونركب المراكب فيها. ونذهب الى آخرها ثم نعود الى المرسى الذي تحركنا منه. ولكن البرد الشديد والأمطار الغزيرة التي بدت وكأن السماء قد فتحت فيها فتحات تنزل منها المياه علينا بكل هذه الغزارة جعلتنا نغير هذا البرنامج. لقد قمنا نحن بإلغاء رحلة جبل فوجي والبحيرة. ولكن الغريب أن الحياة كانت تمضي من حولنا بصورة طبيعية جداً على رغم هذا البرد الشديد. السيارات تجري والمشاة يمشون على الأرصفة بشكل عادي. وكل واحد يحمل الشمسية التي تعد جزءاً من الشخصية اليابانية. من المستحيل أن تقابل شخصاً لا يحملها في هذه البلاد، وكأنها بطاقة تحقيق الشخصية. في كل مكان عام تذهب إليه مطعم أو مقهى أو سينما أو مسرح لا بد من وجود مكان لوضع الشماسي فيه. مثل الأمكنة التي توضع فيها البلاطي في الاتحاد السوفياتي السابق وروسيا حالياً... ولا أعرف الاسم الذي قد يطلق عليه مستقبلاً. المدينة تحفة معمارية نادرة. والطرق معبدة فوق الجبال وصعوداً إليها ونزولاً منها. وان شاهدت حادث طرق تحت المطر المخيف تجد سيارة الشرطة تقف بجوار السيارة التي تسببت في الحادث ما يعني أن التحقيق قد بدأ فعلاً. كانت معي شمسية أخذتها عهدة من مؤسسة اليابان. لأنني في الزيارة الوحيدة التي قمت بها للمدرسة كان المطر قد بدأ اثناء وجودي فيها. فأعطوني هذه الشمسية على أن اعيدها لهم مرة أخرى قبل سفري من اليابان. ولكن وجود الشمسية معي أو عدم وجودها ليس مسألة خطيرة. فقد اكتشفت في كل تاكسي ركبته ان الشنطة الخلفية فيها عدد من الشماسي من كل نوع وصنف يمكنك أخذها ثم تركها في السيارة في نهاية الجولة. في الثانية والنصف بعد الظهر دخلت الفندق. وكان الفندق فوق جبل منعزل. ولا يوجد أي مبنى بجواره أبداً. فندق وحيد وسط الأشجار. الا تصلح هذه العبارة عنواناً لقصة من قصص كاوباتا؟ كنت سعيداً بالفندق لأن كاوباتا كان ينزل هنا. لم يكن يكتب مؤلفاته في منزله. في اليابان جحيم اسمه البيت. وعدم دعوة الضيوف للذهاب اليه ليس سببه التحفظ الذي يبدو من سمات الشخصية اليابانية ولكن بسبب ضيق هذا البيت، وإنعدام إنسانيته. مساحته متوسطها خمسون متراً. ولم اشاهد أنا خلال وجودي في اليابان تلك البيوت الرحبة والفسيحة حيث يبدو أن المكان يفيض عن حاجة سكانه إليه. سألت عن مصير الغرفة التي كان ينزل فيها كاوباتا. هل أصبحت متحفاً مثلاً؟ استغربوا من مجرد طرح السؤال. غرفة مثل كل الغرف الأخرى. ولكن الذي حدث بعد انتحاره أن مكونات هذه الغرفة نقلت الى متحفه الموجود في المنطقة. سألت إن كانت له غرفة معينة تعوَّد أن ينزل فيها، والعادة تعد في نظري نصف إدمان؟ قالوا إن هذا لم يحدث. ومع هذا كنت سعيداً. هنا مشى كاوباتا. في هذا المطعم كان يجلس. وفي تلك الكافيتريا كان يشرب شايه. كل ما طلبته من مسؤول الاستقبال في الفندق أن تطل غرفتي على الجبل والغابات والاشجار الخضراء، حتى أمتع النظر كل هذا الوقت الذي أمامي برؤية منظر من الصعب أن نشاهده في مكان آخر من اليابان. نظرت من شرفتي. كانت المدينة عبارة عن مبان متناثرة فوق الجبل وكانت فخامة الفندق من الصعب الحديث عنها ووصفها. كان من المفروض ألا أخرج من الفندق سوى في التاسعة والنصف من صباح الغد. التغيير الوحيد الذي حدث أنني تركت الغرفة ونزلت وجلست في صالة الفندق في المساء كنوع من محاولة اختبارالمكان الذي حولي. كنت من قبل، وفي سفريات سابقة، انتقد بعض الذين يسافرون ويتحولون الى كائنات فندقية فلا يخرج الإنسان منهم من الفندق أبداً. ولكن يبدو أنه كتب عليّ هذه الليلة أن أكون كائناً معلباً في فندق. وحتى متعة النظر من شرفة غرفتي التي كانت في الدور الثالث تلاشت لأن الليل أتى سريعاً في هذا المكان. ربما بسبب الجبل أو طبيعة الشتاء في هذه البلاد. لقد كانت هذه الليلة من أطول الليالي في عمري كله. وقد بدت لي كأنها جبل مثل الجبل الذي بني الفندق فوقه. يرقد هذا الجبل فوق صدري ولا أعرف كيف أزيحه. وكريمة منذ أن سلمتني مفتاح غرفتي واخذت مفتاح غرفتها في الثانية والنصف من بعد الظهر، قالت لي: تصبح على خير. فهمت أنني لن أشاهدها سوى في صباح اليوم التالي. وما حاجتي إليها وباقي البرنامج الغي بسبب المطر والعواصف والرعد والبرق والرياح التي لها صوت مرعب. السائق من المفروض أن يذهب الآن بالسيارة وكل ما أريده موجود في الفندق: المطعم والبار والمرقص والكافيتريا، وحتى فتيات الجيشا. ففي أي الأدوار احتاجها من الآن وحتى صباح الغد! كل شيء هنا مثير وناعم ويوحي بالدفء. السجاد الذي على الأرض تغوص فيه القدم فلا ترى الحذاء الذي تلبسه. الكراسي والحمام والسرير متعة تنسيك حتى مرور الوقت. ولكني لست من النوع القادر على الاستمتاع بهذه الأشياء. لقد قضيت أطول ليلة في حياتي كلها... حتى الآن على الأقل. والآن هذه تعود الى تاريخ الليلة في ثلاثة أمور: الأمر الأول النوم: فالجو في هذه البلاد يساعد على النوم بلا حدود. دائماً يمكنني أن أنام على طول الخط. في القطار وفي السيارة مع أنني طول عمري لا يمكنني النوم أبداً في شيء متحرك. لا بد من الثبات العام حتى أنام. وأحب أن أنام قريباً من الأرض. ولو كان النوم على الأرض لكان ذلك أفضل وهذا يعود إلى نشأتي الريفية. في اليابان ما إن إغمض عيني حتى يأتيني النوم فوراً ومن دون أي تردد. وهذه الحال لا تحدث لي في مصر أبداً. النوم من الأمور شديدة الصعوبة في بر مصر، سواء في الليل أو في النهار. ويا ويلي ان نمت نهاراً. ما أن أنام ولو لدقائق معدودة بالنهار حتى استيقظ طوال الليل. وإن أتت علي الساعة الثانية عشرة مساء وأنا يقظ، حتى أصحو إلى الصباح مهما كان التعب والصداع. أظل هكذا حتى اليوم التالي. هنا كان الوضع شديد الأختلاف. ولا أعرف السبب فيه. هل اتناول أطعمة تدفعني إلى النوم ولا أدري أنا ذلك؟ هل في الجو نفسه ما يجلب النوم لي؟ لقد سألت أكثر من مرة عن هذه القضية ولم أتلق إجابة شافية أبداً. وكل ما سمعته لم يخرج عن كونه احتمالات. الأمر الثاني هو تدوين بعض ملاحظتي عن الرحلة. وكنت أفعل هذا يوماً بيوم وليلة بليلة حتى أبقي على التفاصيل الصغيرة ولا اتركها تتوه من الذاكرة مع مرور الوقت. والأمر الثالث كان القراءة. كانت معي في هذا اليوم الطويل وتلك الليلة الليلاء مذكرات انجي افلاطون. كنت أقرأ فيها وأعد صفحات الكتاب. أخشى أن تنتهي قبل أن أصل الى نهاية هذه الليلة التي تبدو كما لو كانت بلا نهاية أبداً. كنت انظر إلى شكل الصفحات وأعدها وأتوقف في بعض الأحيان خوفاً من انسحاب الونيس. فأبقى في مواجهة نفسي. وعندما نزلت الى الدور الأرضي في الليل لاحظت أن نزلاء الفندق كانوا في معظمهم من العائلات. من السهل معرفة هذا، من الهدوء المفروض من الخارج على النفس الانسانية وحالة اليأس على الوجوه والاستسلام للقدر والتعود على الملل الذي اقرأه في بعض تحركات الناس. وأخيراً من وجود أطفال صغار معهم يثيرون الصخب الذي يحدثه الأطفال في فندق عادة. الفندق هاديء وفاخر. مكان مسروق من الدنيا بكل ما فيها. من صراعات وهمية ومعارك لا هدف لها أو من ورائها. مكان ليس من هذا العالم في شيء. لقد قرأت من قبل أن من يركب البواخر في البحار لا بد وأن يكون عاشقاً وأن تكون معه معشوقته. واقول عن هذا الفندق العذب أيضاً أنه يستحسن ان يكون سكانه من العشاق لأنه يبعدك عن الدنيا ويزرعك في عالم من البكارة والدهشة التي تعد من الأمور الأساسية لمن يحضر هنا. ثمة مشهد لا بد وان يلاحظه الانسان في الشوارع مساء كل يوم، وان كان يبدو شديد الوضوح مساء السبت من كل أسبوع، الا وهو السكارى الذين يترنحون. يبدأ هذا المشهد منذ الثامنة مساء ويصل الى الذروة قبل انتصاف ليل اليابان الحزين. في كل المدن رجال سكارى أحبطوا وعجزوا عن تحقيق أحلامهم ولم يشبع أي منهم من يومه وأمسه وليس له غد. وقد فقدوا قبل هذا كله وبعده. حتى تلك القدرة الفريدة على الحلم. وعندما كنت أمشي في شوارع جنزا في الليل كنت أشاهد طابورين: طابوراً للرجال والنساء السكارى على الرصيف، وطابوراً لسيارات التاكسي في نهر الشارع. والطابوران يلتقيان معاً عند محطة التاكسي. وفي هذه البلاد فإن التاكسي له أيضاً محطة مثل الاتوبيس. ومحطة التاكسي موجودة حتى في قلب الشوارع التي لا يدخلها الاتوبيس. لقد توقفت طويلاً أمام هذه الظاهرة، ظاهرة زبائن التاكسي. لأن هذا البلد هو الذي وصلت السيارات من صناعته الى كل مكان في عالم اليوم. كنت أتصور أن في اليابان سيارة لكل مواطن ومعي حق، ألم نصل الى وجود أكثر من سيارة للأسرة الواحدة في بعض المستويات في مصر الفقيرة المثقلة بالديون والتي لم تنجح حتى الآن في صناعة السيارات على رغم كل المحاولات التي تمت منذ سنوات وحتى الآن؟ بحثت هذا الموضوع: فقيل لي أن ملكية السيارات ليست مطلقة في هذه البلاد. فكل من يقفون في انتظار التاكسي هم من العمال الفقراء. حتى في اليابان فقراء. تصور الذين لا يملكون سيارات حتى وان كانوا يعملون في مصانع السيارات اليابانية. ومن يمتلك سيارة فإن أحدا لا ينزل بها الى قلب المدينة. الوصول يتم عبر المواصلات العامة. وهي مريحة وسهلة وأسرع من السيارات الخاصة. وعندما سألت عن استخدام السيارة الخاصة قيل لي أنها تستعمل فقط في عطلة نهاية الأسبوع من أجل فسحة العائلة. لكن الجديد الذي لم أصدقه، ولم يكن من الممكن تصديقه لو حكاه لي أي إنسان آخر، كان هذا العدد من السكارى من النساء. لم يسبق لي أن شاهدت امرأة في حالة سُكر سوى في اليابان. لأن المرأة التي تشرب الخمر، في بلادنا، تفعل هذا بحياء وخفر وبعيداً عن أي إستعراضات من أي نوع كان. أما هنا فكم يبدو الموقف شديد الاختلاف. نساء في حالة اعياء من السُكر على الأرصفة يستند بعضهن الى أعمدة النور وحول بعضهن الآخر قيء. سألت عن أسباب هذا الإحباط العام الذي يملأ حياة الناس، فقيل لي إن البيت الياباني هو مصدر البؤس الإنساني الأول في هذه البلاد بسبب ضيقه الشديد. إن أعلى نسبة انتحار في العالم موجودة هنا. تبدو مشكلة ضيق البيوت من دون حل على الأقل في المدى القصير وحتى البعيد لأنها ترتبط بقضية المساحة المتاحة. ان حجم البيت الياباني في المتوسط خمسون متراً مربعاً لا يصلح لأن تقيم فيه أسرة. ولهذا يتحول الناس هنا إلى نوع من الإقامة الفردية. كل فرد يعيش بمفرده. ولهذا قد تصل مساحة الشقة إلى أمتار صغيرة جداً، لا تزيد عن غرفة. وحتى لو لم يقع الطلاق فقد يجد الزوج والزوجة راحتيهما في أن يقيم كل منهما بمفرده، بعيداً عن الآخر. الانجاب يبدو مخاطرة غير محسوبة، والاقبال عليه قليل. ومن يتابع الكثافة السكانية يجد أن الشيوخ في المقدمة مع أن المجتمعات الصحية والطبيعية يكون الاطفال والصبية فيها الأكثر عدداً. ضيق البيوت يجعل الياباني لا يدعو أحداً الى بيته مهما كانت درجة القرابة. واللقاءات تتم في أماكن عامة، وهي الكافيتريات والمطاعم والمقاهي والبارات المنتشرة في كل مكان حتى ولو في قرية صغيرة لا يزيد عدد بيوتها عن عشرة. أما الذهاب الى البيت فهو مرفوض كنوع من الهروب من ضيق البيوت التي تجعل الحياة نوعاً من الجحيم، مع أن البيت خصوصاً في المدن المعقدة هو حصن الأمان الأخير للإنسان الذي يلجأ إليه في أوقات المحن والأزمنة العصيبة. ذلك أن الانسان من دون بيت من الصعب أن يقال عنه إنه إنسان أساساً. النص هذا فصل من كتاب "مفاكهة الخلان في رحلة اليابان" الذي سيصدر قريباً في القاهرة.