يمر الإنسان في حياته بمراحل الطفولة والصبا، وربما تكون أجمل أيام حياته التي لا يزال يتذكرها بكل حنين، وشوق، ولهفة، وتمنى لو تعود يوماً، و"العزوبية" من أجمل تلك المراحل التي تسبق الزواج، حيث يكون المرء عازباً ولم يقترن بالجنس الآخر بقصد الزواج، الذي هو سنة الحياة، فهو ليس مسؤولاً عن أحد، فيصبح حراً طليقاً، ويصير "سابح على خشبته" -كما يقول العوام قديماً-، فإذا ما اجتمع أكثر من شخص أطلق عليهم اسم "العزوبية". والعزوبية فترة فرضتها الحاجة، وهي فترة انتقالية بين مراحل العمر المختلفة، وغالباً ما تكون في ريعان الشباب، فترى المرء يقضيها في الدراسة وتحصيل العلم، أو في بناء نفسه مادياً، فيعمل ويكد ويشقى من أجل مساعدة أهله؛ لتأمين لقمة العيش، أو من أجل بناء مستقبله وتكوين أسرة في المستقبل. وفي كل بلدة وقرية كان هناك عزّاب يجتمعون ويسكنون في منازل خاصة بهم، فيتولون العيش مع بعضهم في منزل واحد، يتقاسمون غرف النوم، والجلوس، وتناول الطعام، وقديماً لم يكن هناك نُزلاً خاصة بهم، ولم تكن هناك مطاعم، أو مغاسل للثياب، أو أماكن خاصة للترفيه؛ ولذا فلك أن تتعجب كيف عاش هؤلاء العزوبية؟، وكيف كانوا ينظمون أوقاتهم؟، ومن كان يتولى خدمتهم وإعداد الطعام لهم، وتنظيف المنزل وغيرها من أمور الحياة؟، وستتعرف على ذلك إذا علمت بأنّ هؤلاء "العزوبية" الذين عاشوا بداية الطفرة والتغيّر الذي طرأ على البلاد بعد توحيدها على يد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، حيث فتحت البلاد على مصراعيها، لتلقي سواعد البناء من أبناء هذا الوطن المعطاء، الذين انخرطوا في التعليم، والعمل الحكومي، والتجارة، والزراعة، وجميع المهن المختلفة التي تضمن كرامة العيش بعرق الجبين. كانوا رغم صغر سنهم -التي قد تلامس البلوغ أو تتجاوزه بقليل- رجالاً بكل ما تعنيه الكلمة، ويُعتمد عليهم في تصريف أمور الحياة، فقد كان الذي يبلغ الخامسة عشرة من العمر يعدّ سنداً قوياً لوالده، ويساعده على تحمل أعباء الحياة، فتراه يعمل بكل جد، ويملك التصرف ومواجهة المواقف بكل حزم وقوة؛ لذا فلا غرو أن يتحمل كغيره من الشباب المسؤولية، ويسافر لطلب العلم وللعمل في هذه السن الصغيرة، ويعيش لوحده عازباً أو مع مجموعة من العزوبية في منزل واحد، ويخدم نفسه بنفسه، ويتجاوز تلك المرحلة بكل قوة ونجاح. غرف واستراحات محطات الوقود قبل أربعين عاماً كانت مقصداً للعزاب حياة العزوبية يتم تقسيم العمل في بيت العزوبية على ساكنيه، فأحدهم يكون مسؤولاً عن غسيل الملابس، والآخر عن الطبخ، وثالث عن تنظيف وكنس البيت، وهكذا، فحياتهم مبنية على المشاركة فيما بينهم، فمن يخرج أولاً من المدرسة -إن كانوا طلاباً- أو من يحضر من العمل -إن كانوا عاملين- فعليه إعداد الطعام لمن يأتي بعده، ويكون مسؤولية التنظيف وغسل أدوات الطبخ على غيره، وأكثر ما يقلق العزوبية هو لسعة الجوع التي تفقد المرء رشده؛ لذا كان من أهم ما يحرصون عليه هو إعداد الطعام، وكم تكون فرحتهم كبيرة عندما يحن لهم أحد الجيران ويشفق عليهم ويدعوهم إلى تناول الطعام، فيجيبون الدعوة فوراً، ولسان حالهم يقول "ملينا من الطبخ وحنينا لطبيخ أهلنا". أماكن السكن عندما يقدم المغترب طالب العمل أو الدراسة على السفر إلى المدينة فإنّه يواجه مشكلة السكن، فهو لا يريد أن يكون عالةً على أحد من أقربائه الذي إن استضافه لبضعة أيام فإنه لابد أن يضيق به الحال، وسيخجل من كونه عبئاً عليه؛ لذلك فإنّه في البداية وفور وصوله قد يلازم المسجد، وبعد الصلاة يخرج إلى السوق بحثاً عن عمل -إن كان من طالبي العمل-، ثم يأوي إلى المسجد في آخر النهار؛ ليبيت فيه، وبعد صلاة الفجر يمضي قدماً في عمله بعد، ويستمر حيناً من الدهر حتى يتمكن من جمع بعض النقود ليستأجر بيتاً يؤويه مع عدد من المغتربين، الذين يتعرف عليهم أثناء العمل، أو مع من قدم معه من قريته. وكان سكن العزاب في "الرياض" للقادمين للعمل في غرف طينية تسمى غرف "أبو رفيع"، كانت تقع في جنوب غرب قصر المربع، وبنيت من أجل إسكان العمال المغتربين، وكانت أجرتها في الشهر لا تتعدى ريال أو ريالين، أما الطلاب فإنّهم غالباً ما يتعرفون على عدد من أقرانهم، ويسكنون معهم في غرف مستأجرة خاصة بالعزاب، وتكون الأجرة ب"القطة" التي يجمعونها من مكافآتهم الدراسية.ومع مرور الزمن وتوسع المدن عمرانياً؛ بدأ التفكير الجدي للمستثمرين في بناء وحدات مستقلة على شكل غرف، أو شقق صغيرة، مخصصة لسكن العزاب، وغالباً ما تكون على الشوارع الرئيسة، بعيداً عن مساكن العوائل، أو تكون هذه المباني المخصصة للعزاب ملحقة بمحطات الوقود، ويكون إيجارها شهرياً أو سنوياً، فسدت حاجة المغتربين، وهيأت لهم المناخ المناسب للدراسة والعمل، وصاحب ذلك افتتاح العديد من المطاعم، والمغاسل، التي منحتهم إضافة إلى الراحة الرفاهية، واختصار الوقت الذي كان يضيع في غسل الملابس، والطبخ اليومي، فصار سكنهم مهيأ، ومريحاً، وفي متناول اليد. رسائل العزاب بعد أن يستقر العزّاب في المدن الكبيرة البعيدة عن قراهم، وينتظمون في الدراسة أو العمل، فإنّهم يحدوهم الأمل في التعرف على حال والديهم، وإخوتهم، وأصدقائهم، ولكن لم تكن هناك وسائل اتصال متاحة سوى كتابة رسالة وبعثها مع أقرب من يزمع السفر إلى القرية، فترى أحدهم إذا علم برحيل "طرقي" قد زار المدينة لغرض ما، وأراد الرجوع انزوى في إحدى غرف البيت وصار يكتب أعذب الكلمات بعد التحايا إلى والديه، ويعبر عن شوقه لرؤيتهم، ويطمئنهم على حاله، وأنّه على خير ما يرام، وفي ختام الرسالة التي كانوا يسمونها "خط" يطلب تبليغ سلامه لإخوته، وأخواته، وأقربائه، الذين يسمهم فرداً فرداً، وقد يحمل عدد من الخطابات الطرافة، كأن يوصي والده بالاهتمام بالعنز التي يحبها، أو الحمام "عسى ما طار ولا رجع"، أو "انتبهوا لقطوتي"، وغيرها من الطرائف. وعادة ما يذيل الخطاب برسم قلب؛ دليلاً على الحب، والشوق، وكلمات مكررة -رد الجواب سريعاً-، وفي المقابل فإن الأهل والوالدين أيضاً يكتبون الخطابات للسؤال عن الحال والاطمئنان، وكدليل على ذلك نذكر قصة تلك المرأة التي أقلقها غياب ابنها طويلاً، وعدم رده على خطاباتها، فلما طفح بها الكيل ذهبت إلى "مطوع القرية" من أجل أن يكتب لها "خطاً" إلى ابنها الوحيد، الذي تغرّب عن الأهل والأوطان في سبيل الحصول على لقمة العيش، رغم أنّها كتبت له أكثر من رسالة، إلاّ أنّه لم يأت، ولكنها في هذه المرة قد فقدت صبرها فطلبت من "المطوع" أن يكتب لها رسالة تذيب القلب، وتدمع العين من شدة لوعة فراقها لوحيدها، وعندما انتهى من كتابة الرسالة أخذتها، وأذكت النار في عود الكبريت "الثقاب"، وعملت ثقوباً في أسفل الخطاب، وأعادتها إلى "المطوع" ليكتب سطراً أخيراً على لسانها، تقول فيه بأنّ قلبها قد تخرق مثل تلك الثقوب في أسفل الرسالة حزناً على فراقه، وطلبت منه أن يكتب هذا البيت: يا صامطة خلي محمد يجينا خليه يجي واللي معه الله يحييه وهي تقصد بأنّه تزوج من امرأة غريبة دون علمها، وخشي غضبها، وعدم القبول بالعيش معها، فلما وصلت الرسالة إلى ابنها؛ حزم أمتعته وقفل راجعاً، فقرت عينها برجوعه لها سالماً معافى. الغربة تركت جيل الآباء والأجداد يتركون أسرهم بحثاً عن لقمة العيش مؤذن كسول سكن عدد من العزاب بأحد البلدان بعد تغربهم عن الأهل والأصحاب للدراسة وتحصيل العلم، واختلطوا بأهل الحي الذي سكنوه، وكانت سمعة هؤلاء العزاب طيبة، فهم من المحافظين على أداء الصلوات في المسجد، فتعرفوا على مؤذن الحي فزارهم في بيتهم، وزاروه، وزيادةً في الحرص على أداء الصلاة طلبوا من المؤذن أن يوقظهم لصلاة الفجر، فطريقه للمسجد يمر بالقرب من بيتهم المستأجر، فوافق إكراماً لهم، واحتساباً للأجر، ومن الغد جاء المؤذن فطرق الباب، فاستيقظ أحدهم وشكره، وأيقظ البقية، وذهبوا للصلاة، وفي اليوم التالي جاء المؤذن أثناء ذهابه للمسجد، وطرق الباب بعصاه، ولم يصعد الدرج، حيث كان منزلهم مرتفعاً عن مستوى الطريق، وتثاقل عن ذلك، وكان طرقه أشد من الأمس، فقام الجميع، ولوح له أحدهم بيده بعد أن فتح الباب في اشارة إلى أنهم قد استيقظوا، فأدوا الصلاة مع الجماعة في المسجد، أما في اليوم الثالث فكانت المفاجأة للجميع الذين فزوا من نومهم مذعورين فقد كان الباب يطرق بحصى كبير يرمى من بعد وبشكل متواصل، فتطوع أحدهم والخوف يملؤه لفتح الباب ليعرف ما الخبر، ولما فتح الباب فإذا بالمؤذن يخاطبه هل استيقظتم فقال نعم، وبعد أن أدوا الصلاة شكروا المؤذن، وقالوا له لا تتعب نفسك بإيقاظنا، فقد اشترينا منبهاً "ساعة خراش"، وأصبحنا قادرين على أن نستيقظ لوحدنا لصلاة الفجر، وانصرفوا وهم يضحكون من هذا الموقف الطريف، الذي لا زالوا يتذكرونه إذا اجتمعوا بعد أن تخرجوا وشقوا طريقهم في الحياة وكونوا أسراً. عزوبي وصل إلى سكنه في الرياض وسط حارة المرقب بشارة جنون لك أن تتخيل مشاعر أم وهي تنتظر فلذة كبدها وتعد الليالي والأيام ليعود إليها، وإن كبر فهو لا يزال في نظرها صغيراً، وبعد غربة تجاوزت السنة تقريباً فإذا بسيارة الأجرة في الثمانينيات الهجرية تقف على مشارق القرية النجدية، وهي تحمل هذا الفتى الطموح حاضر النكتة الذي لا يمل مجلسه، وهاهو يهم بالنزول، ويجمع "قشه" وملابسه والنقود التي حصل عليها بعد جهد الغربة وهمّ العزوبية، والتعب وهدايا والدته الحنون، لمحه بعض أطفال القرية فتسابقوا عليه ليعرفوه، حتى يطيروا في الهواء ويسابقوا الريح لبشارة أهله بقدومه؛ ليحظوا بالبشارة التي يحصلون عليها من أهله، وعندما عرف الصبيان هذا الفتى تسابقوا ركضاً ميممين وجوههم شطر بيت أمه ليبشروها وينالوا البشارة، إلاّ أنّه استوقفهم وقال: لا أريد منكم أن تبشروا أمي أنّي قدمت من السفر، بل أريدكم أن تخبروها بأنّ ابنك مات، فذهب الصبيان يركضون وطرقوا بابها ليبشروها بهذا الخبر السيئ، وهم لا يعلمون قصد ولدها، فلما خرجت إليهم اخبروها الخبر؛ فصاحت، وأصبحت تولول، وتندب حظها، وتبكي بكاءً حاراً، وأغلقت الباب في وجوههم. حرفية الزمن الجميل تركوا أسرهم وسكنوا وحدهم في أحياء وسط الرياض وبعد دقائق طرق الفتى الباب على أمه، ففتحته وهي تبكي فلما رأت ولدها خرت على الأرض، وكاد أن يغمى عليها من هول المفاجأة، ورأته يضحك فعلمت بأنّه وراء تدبير هذا الموقف، وصارت تسبه وتشتمه رغم فرحتها بقدومه، وهي تصيح فقام والتزمها وقبل رأسها ويديها، وكانت هذه مزحة منه ومقلباً، فقال لها: كنت أريد أن أختبر محبتك لي، وماذا ستفعلين إذا بلغك خبر مماتي، أمّا الأطفال فقد خسروا البشارة ونالوا نصيبهم من التعب بلا مكافأة، التي عادةً ما تكون تمر "يبيس" يكاد يخلع الأضراس عند تناوله، أو قطعة من حلوى "مكة" ذات المذاق الطيب، والتي تسمى "حلاو فرش"، وهي حمراء اللون كأنّها قطعة "جص"، ولا يفرقه عنها إلاّ اللون فقط أو "قريض"، والميسورون يهبون "حلاو ملبس" أي "مقرطس" أو "برميت". النوم في السطوح يستهوي العزوبية شرب "المخزي"! وفي قصة أخرى فإن صاحبها نال بشارة مضاعفة، ولكن ليس لأنّه بشّر بقدوم مسافر "عزوبي" إلى بلدته ووالديه اللذين كانا في شوق لعودته؛ بل حتى يستر ما رأى مع هذا القادم وهو لا يعلم، فقد كان هذا الطفل كالعادة على مشارف القرية، وشاهد اثنين من أبنائها قد عادا من السفر بعد غربة طويلة، وكان ينظر إليهما من بعيد وهما لا يشعران، وكان أحدهما يدخن "سيجارة"، وكان التدخين من الأعمال المشينة التي تعيب الشخص وتنقصه في المجتمع تلك الفترة، وقد لا يجد من يحادثه، ويجالسه، فكيف بمن يزوجه ابنته، أسرع هذا الطفل إلى منزل والديه، وطرق الباب سريعاً، فأجابته من هذا القادم، فبشرها بقدوم ولدها، وإذا بالأب يطل عليه من النافذة في الغرفة العليا في بيتهما الطيني بالقرية، فقال للطفل هل قدم ولدي ورأيته بالفعل، فقال الطفل نعم لقد رأيته وهو يدخن وبيده سيجارة، فنزل والده سريعاً وأعطى للولد بشارة مضاعفة وكبيرة، وطلب منه عدم إخبار أحد من القرية بما رآه بيد ابنه، أما الابن فإنّه مني بعلقة ساخنة من والده التي كانت استقبالاً حاراً حظي به، وحرّم أن يشرب بعدها هذا "المخزي". عزوبية في المبنى السكني في رحيمة بالمنطقة الشرقبة 1948م عزوبي بعد زواج وفي تصوير حياة العزوبية المتعبة ووصفها، فقد أجاد الشاعر محمد سوعان الربيع، حيث قال: يالجتي لجة صويب الذيابه يوم المسلح باشهب الملح يرميه عزي لمن مثلي زمانه رمابه واصبح اعزوبي ما لقى من يلفيه والجوع حدٌه والعشا ما حظابه والشاي الاسود ما لقى من يسويه والعيشه اللي بالمطاعم معابه مليت انا ياناس ماني مدانيه وغسل الملابس ما حسبنا احسابه الثوب مادري كيف وشلون ابكويه والبيت موحش تكتنفه الكآبه ولولا الحيا لاهج عنٌه واخليه من يوم غاب اللي خفوقي سرابه البيت ماله قبلةً عقب راعيه كني خلاوي عايشً وسط غابه وان ما اكلني ذيب صرت لحصانيه كني على جمر الغضا واللتهابه فرقا الاهل يجرح فوادي ويكويه ياشين فرقا لابتي والقرابه مثل الذي يشرب غثا السم بيديه هذا العزوبي وان شرح ما جرابه مايلام لو يبدي على الناس خافيه سوق الخبيب في بريدة 1402ه حيث تحول إلى مركز تجاري لشباب الأعمال