حاولتُ، عبر "مركز جنين للدراسات الاستراتيجية"، الذي أشرف على نشاطاته، القيام بوقفة استراتيجية في حوار معمق مع قادة الأحزاب العربية اليسارية والقومية والإسلامية لتقويم تجربة هذه الأحزاب في النصف الثاني للقرن الماضي. في إطار الأحزاب الإسلامية تركز الحوار حول آفاق التجربة الحزبية الإسلامية: ماذا عن احتكار الصواب لدى الإسلاميين كما يقول خصومهم، هل يرفضون الحوار حقاً. أين وصل الصراع بين المعتدلين والمتشددين في التيار الإسلامي العام، ولمن ستحسم الأمور! هل دخول المؤسسات التشريعية بالنسبة إليهم تكتيك ام استراتيجية. اين حقيقة العلاقة بين الإسلام والغرب، أين التطور وتطوير وفتح باب الاجتهاد، ماذا عن علاقة الإسلاميين بالسلطة العربية في القرن الجديد وماذا عن تمسكهم بشعار تحرير فلسطين من البحر الى النهر؟ قال سيف الإسلام البنا "إن فلسطين عربية إسلامية، وهذه المقولة لا تقبل التغيير، لا يمكن ان يتغير الحق الى الباطل، أو يصير الباطل حقاً، والواقع الحالي ليس نهاية المطاف، وخير لنا ان ننتظر الحق من ان نعترف بالباطل، حتى لا نخسر قضيتنا الى الأبد". وحول الاعتدال والتطرف قال عبداللطيف عربيات: "الإسلام بطبيعته هو اعتدال ]وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً[ فالوسطية والاعتدال صفة اساسية في الإسلام ولا مجال للتطرف". وفي إطار الأحزاب القومية تركز الحوار مع شخصيتين في العمل القومي العربي: علي ناصر محمد رئيس جمهورية اليمن الجنوبية السابق، والدكتور جورج حبش وله تجربة قومية وفلسطينية - وهي تجربة قومية ايضاً. تساءلنا في الحوار حول اسباب فشل التجارب الوحدوية: الموضوعية والذاتية على حد سواء. حدود "الديموقراطية" في التجربة القومية والتي يقال ان هامشها الضيق كان احد اهم اسباب الفشل. هل غيّر اهل الخطاب القومي خطابهم القديم؟ وهل قصروا فعلاً في استيعاب الطاقة الإسلامية؟ هل ما زالت الوحدة، بالنسبة إليهم، طريق التحرير ام ان تلك مقولة قديمة اختبرها الزمن؟ لماذا الفجوة بهذا الاتساع الكبير بين الشعارات وبين التطبيق على ارض الواقع؟ هل ستقف الديموقراطية السياسية وحقوق الإنسان على رأس جدول الأعمال القومي في هذا القرن؟ اين حيز الإسلام في الخطاب القومي؟ قال الرئيس اليمني السابق علي ناصر محمد "لقد كان الحلم الوحدوي مشروعاً، ولذا تداعت له مختلف القوى، وكان ذلك ضد مصالح الكبار، غير ان هناك عاملاً ذاتياً مهماً عمل على عدم إنضاج التجارب الوحدوية لهذه الخصوصية، الدول القطرية المختلفة الأحجام لم تجد ما يلبي طموحاتها في الذوبان في الشكل الوحدوي الكبير". واستطرد يقول: "إن هذه المشروعات الوحدوية تمت بعيداً عن الجماهير واستهدفت مصالح الأنظمة، ولهذا لم تدافع عنها الجماهير العربية، وربما لم تلمس فيها مصالحها". جورج حبش رأى ان أهم الدروس المستفادة من التجربة هي ضرورة ربط العمل القومي بالنضال الوطني، وأهمية الديموقراطية في الحزب والمجتمع والدولة، وكذلك ضرورة الترابط بين الاستراتيجية والتكتيك حين قبول "مبدأ المرحلية" في النضال الوطني والقومي. وحول الخطاب القومي القديم قال حبش بصراحة: "نعم، هناك جمود وتكلّس في الخطاب السياسي للأحزاب، فهو خطاب تبلور وتشكل بعد الحرب العالمية الثانية وجاء تعبيراً عن مفاعيلها وموازينها. اما عالم اليوم فهو يتغير بشدة، إذ يكفي ان ننظر لثورة المعلومات والإعلام والجينات وعلم الوراثة، والقضايا المشتركة والهموم المشتركة بين دول العالم مثل حقوق الإنسان والبيئة والمرأة وغيرها". وعن اساليب التحرير قال جورج حبش: "المجابهة العسكرية مع إسرائيل بالمعنى التقليدي لم تعد واردة، ولكن فشل الأسلوب العسكري والتقليدي لا يعني انهاء حال الاشتباك والتصادم مع المشروع المعادي. إن استمرار الاشتباك التاريخي المتواصل الذي نقصده هو تعبئة طاقات الشعب الفلسطيني والأمة العربية بكل فئاتها الشعبية في نضال طويل متعدد الأساليب والأدوات: فيه العنف واللاعنف وفيه المقاومة العنيفة والمقاومة السلمية". وقال حبش عن الديموقراطية السياسية وحقوق الإنسان: "إن هناك توجهاً نقدياً داخل الأحزاب القومية القديمة يطالب بالديموقراطية ويعمل من اجلها، وبمرور الوقت تترسخ تلك القضية وتعتبر من اعمال الأجندة القومية، وأيضاً نأخذ في الاعتبار اهمية رؤية حقوق الإنسان من دون ان نضطر لتقديم تنازلات في السيادة والإرادة ومع الحفاظ على هويتنا". الأحزاب اليسارية هي القوة الثالثة من قوى الأحزاب العربية التي كان لها دور مؤثر في الحياة السياسية العربية خلال النصف الثاني من القرن الماضي. حاورنا قادة من هذه الأحزاب، لديهم تجربة ثمينة في العمل الميداني والفكري. لماذا كان فشل هذه القوى اكثر من انجازاتها؟ ما هي المعوقات الموضوعية والذاتية؟ ما حدود استخلاص اليسار العربي لدروس انهيار المعسكر الاشتراكي؟ لماذا لم تقم احزاب اليسار بإعادة هيكلة اوضاعها وإعادة النظر في البرامج والسياسات؟ اين تقف قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان من سلم اولوياتهم؟ لماذا الخطاب القديم ما زال سائداً؟ ما حدود مساهمة اليسار العربي في دفع الحوار بين القوى الفكرية العربية من قوميين وليبراليين وإسلاميين خطوات للأمام؟ هل ما زالت المركزية الديموقراطية صالحة حتى يومنا هذا لتنظيم عمل الأحزاب اليسارية؟ اين يقف اليسار العربي من قضايا السلام وإمكانات شروط انهاء الصراع العربي الصهيوني وأين يقفون من قضايا الوحدة العربية؟ في اعتراف غير مسبوق قال رفعت السعيد الأمين العام لحزب التجمع المصري: "المشكلة الحقيقية في القوى اليسارية هي انها مثل كثير من القوى السياسية اصبحت قوى سلفية، وهذه "السلفية" جاءت نتيجة تقديس الفكرة واعتبار ان الفكرة كلية الصحة إجمالية الحقيقة لا يأتيها الباطل، وهذه قضية تجمد الفكر". فاروق دحروج الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني اعترف هو ايضاً ان قضية الديموقراطية وحقوق الإنسان باتت تحتل مكانة اولى متقدمة بين المهمات السياسية والنضالية في كل البلدان العربية، فعلى رغم تفاوت مستويات التطور، فإنها بالإجمال تشكو من تقلص أطر ممارسة الحقوق والديموقراطية. وعن آفاق السلام والصراع مع اسرائيل يرى الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني ان الصراع مع اسرائيل سيستمر ويأخذ أشكالاً ومظاهر على مستوى الدول، فالوضع ناشئ عن المحاولات الإسرائيلية والأميركية لإعادة ترتيب المنطقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وحتى عسكرياً على القاعدة السياسية التي أرستها التسوية، الى جانب الخلل الناتج عن تسوية غير عادلة مدير "مركز جنين للدراسات الاستراتيجية" - عمان.