منذ خمس سنوات تقريباً، حين اجتمع أعضاء حلف شمال الاطلسي الناتو لنقاش مسألة الامتداد شرقاً في اوروبا، ووافقوا حينها على انضمام تشيخيا وبولندا وهنغاريا، كانت الاجواء المحيطة بهذا اللقاء صاخبة مع وجود ممانعة ظاهرية من روسيا على انضمام حلفاء الامس الى حلف بات على مقربة واضحة من حدودها. واليوم، وازاء التحضير لاجتماع تشرين الثاني نوفمبر المقبل للناتو في براغ، والذي سيبتّ في أمر توسيع جديد، تبدو الاجواء مختلفة تماما. فموعد هذا الاجتماع يقترب من دون ان يصحبه صخب او جدال، بل تسود درجة من الهدوء تسمح للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه، بابداء استعدادها لحرب جديدة في الشرق الاوسط. فموضوع توسيع الحلف الاطلسي لم يغلق منذ اجتماع 1997 ولن يغلق بعد اجتماع تشرين الثاني. وكانت وزيرة الخارجية الاميركية يومذاك مادلين اولبريت قد أكدت في حينه ان المسألة لا تتعلق بما اذا كان سيتم دخول اعضاء جدد بل متى، اي انها فقط مسألة وقت. وتأكيدا على سياسة الباب المفتوح، وضعت في نيسان ابريل 1999 "خطة عمل العضوية" من اجل اعداد الدول المرشحة للانضمام، وهي خطة اشتملت على عدة مسائل تحت خمسة ابواب: مسائل سياسية واقتصادية، دفاعية وعسكرية، امنية، وقانونية، ومسائل متعلقة بالموارد. وتشرف الولاياتالمتحدة عبر الناتو على متابعة التنفيذ، وهي في هذا الشكل تساهم في صناعة الحلفاء الجدد من خلال التدخل في سياساتهم الداخلية والخارجية، وفرض درجة من الانسجام على التصور الامني، وكذلك درجة من التأثير السياسي وتسريع وتيرة ما تعتبره اصلاحات كالخصخصة واعادة الملكية والاشراف على اعادة بناء الجيش. الا ان الجديد في السياسة الاميركية بعد احداث 11 ايلول سبتمبر انها باتت اكثر استعدادا "لتوسيع قوي للناتو"، وهذا التعبير الذي يتكرر على اكثر من لسان، يفسر الرغبة في اكبر زيادة ممكنة في عدد الاعضاء الجدد، بحيث يكون الامتداد الجغرافي لحلف الناتو، كما نوّه به الرئيس الاميركي بوش، "من بحر البلطيق الى البحر الاسود". واذا كان لهذا التصور مدلول استراتيجي لجهة تطويقه المنافذ البحرية للدولة الروسية، فانه له ايضا بُعداً آخر هو السعي الاميركي للتحكم بالوضع الداخلي في بلدان اوروبا الشرقية في اطار التشديد على التوافق الامني لمكافحة "الارهاب". فالطرف الروسي لم ير فائدة في فتح ملف نزاعي مع الدولة العظمى الوحيدة حيال مسألة باتت محسومة، وهو يتعامل مع توسع الناتو باتباع سياسة مجاراة جاء التعبير عنها في اطار اجتماع وزراء خارجية الناتو في 14 ايار مايو الماضي. فقد اقر الاجتماع المذكور تلازم مسارين: الاول يؤكد على توسيع الحلف، والثاني يتعلق بالعلاقة بينه وبين روسيا وانشاء هيئة عمل مشتركة مهامها التدارس في الامور التي تتشارك فيها مصالحهما، مثل ادارة الازمات ومنع انتشار الاسلحة ومسرح الصواريخ الدفاعية والتعاون حول الارهاب وغيره. فالنظرة الاستراتيجية الاميركية المتعلقة بالتوسع الاطلسي لا تزال تضع روسيا في اعتبارها الاول. ولذلك تقف دول بحر البلطيق، أي استونيا ولاتفيا وليتوانيا، على رأس لائحة المرشحين للانضمام الدول المرشحة ايضا هي سلوفاكياوسلوفينياورومانياوبلغاريا، اما البانيا ومقدونيا واخيرا كرواتيا فمن المستبعد ان يجري نقاش جدي في دعوتهم للانضمام، وذلك بسبب موقعها الجغرافي وتاريخ انضمامها المتأخر الى الاتحاد السوفياتي: اثناء الحرب العالمية الثانية. وهناك موقف ايديولوجي واضح في صفوف الكونغرس الاميركي يحرض على انضمام دول بحر البلطيق بالدرجة الاولى، وهو موقف مبني على قاعدة استراتيجية واخلاقية، حسب قول السناتور ماكين في آب أغسطس 2001، مفاده "تصحيح الخطأ الذي حصل في يالطا وضمان ربط تلك الدول مع الغرب لكي لا يتكرر ذاك الأمر". اما الاعتبار الآخر، غير الاستراتيجي، الذي تضعه الولاياتالمتحدة كمقياس، اي أهلية الانضمام تبعا لدرجة التأقلم الداخلية مع شروط الناتو، فأستونيا لها الحظوة في هذا المجال اذ يعتبرها المعلقون الاميركيون جاهزة منذ سنوات للدخول. وهم يمتدحون ايضا تقدم سلوفينيا لكن يتحفظون على مسأله دخولها الناتو في حال فاز زعيمها الشيوعي السابق في الانتخابات المقبلة. ويبقى ان مسألة دعوة رومانياوبلغاريا الى الانضمام هي الاكثر تعقيدا. فواشنطن تنظر بعين الريبة الى دولتين في شرق وجنوب اوروبا كهاتين، وضعهما الاقتصادي اقل تطورا وحالتهما السياسية غير مرضية بسبب قوة نفوذ الاشتراكيين الديموقراطيين، أي شيوعيي الامس. الا انه ومنذ احداث 11 ايلول، بات الاهتمام الاميركي بالموقع الاستراتيجي لهذين البلدين يحث على تخطي هذه العقبة. فموقعهما على البحر الاسود يجعلهما همزة وصل بين آسيا الوسطى واوروبا، كما انهما تجاوران مناطق سياسية حساسة. فلدى بلغاريا مثلا امكانية تأثير على الوضع في مقدونيا - سكوبيا، بينما تقع رومانيا على الحدود مع دول كانت تنتمي الى الاتحاد السوفياتي سابقا ولم يستقر فيها الصراع بعد، كمولدافيا واوكرانيا. وقد حث التبدل في الموقف الاميركي الدولتين المذكورتين على ابداء درجة عالية من حسن النية والاستعداد تجاه الناتو والولاياتالمتحدة، فقدمتا تسهيلات عسكرية في موانئ على البحر الاسود لعبور الجنود الاميركيين المتجهين الى الحرب في افغانستان او الى آسيا الوسطى، وارسلتا قوات محدودة لحفظ السلام في كوسوفو ومؤخرا في افغانستان. وقد وُضعت النقاط على الحروف بعد قرار لمجلس الشيوخ الاميركي في أيار الماضي حول دعم توسيع الحلف، والذي خص بالمساعدة المالية العسكرية قيمة 555 مليون دولار الدول السبع المرشحة بما في ذلك رومانياوبلغاريا، الامر الذي يجعل دعوتها للانضمام مرجحة جدا، مع امكانية تحديد وضع انتقالي لعدد من الدول. وركز القرار المذكور على خمس نقاط يحرص على احترامها ومتابعتها، وهي: محاربة الفساد، معاملة الاقليات الاثنية والدينية، العلاقة بين السلطة والمعارضة، طريقة تعاطي الحكومات مع موضوعات من الماضي بما في ذلك الهولوكوست واعادة الملكية، مؤكدا ان الضغط لتحقيقها سيستمر حتى بعد دعوة تلك الدول للانضمام. ومع وعود من هذا النوع أصبح للضغوط تأثير مهم في تسريع وتيرة الاجراءات المطلوبة من الحكومات المعنية، كما حصل مع الحكومة الرومانية بتبنيها في نيسان سلسلة اجراءات متعلقة بقوانين جديدة لمكافحة الفساد، ومراقبة من كانت له علاقة بالمخابرات السابقة، وخصخصة 400 مؤسسة جديدة، وازالة رموز تعود الى المارشال انتنسكيو الذي حكم رومانيا خلال الحرب العالمية الثانية وتعاون مع هتلر، وتسريع وتيرة اعادة الملكية، الخ. وفي المحصلة، تحاول واشنطن ان تستفيد من ذراعها الامني الاطلسي لتحقيق اكبر قدر من المكاسب، ليس فقط حيال الطرف الروسي بل ايضا تجاه الحلفاء الاوروبيين. فالحضور الاوروبي اقل بكثير في الشأن الامني ويتركز، في المقابل، على مسارات مفاوضات الاندماج في الوحدة الاوروبية. لذلك جاء الدعم الاوروبي للاندماج الاطلسي ضعيفا، مقتصرا على بلدان الجوار كتشيخيا وبولندا في وسط اوروبا، واليونان وتركيا وايضا ايطاليا في جنوبها، بينما وصلت المساندة متأخرة من فرنسا والمانيا. وقد ارتفع الصوت الاوروبي عندما بدأت الولاياتالمتحدة تستفيد من ترتيبات اجتماع براغ المقبل للناتو من اجل تحقيق مآرب خاصة، بحثّها الدول المرشحة للتوقيع على اتفاق يقدم حصانة للاميركيين وحلفائهم في وجه المحكمة الجنائة العالمية. واثار توقيع الحكومة الرومانية على اتفاق كهذا انتقادات اوروبية، وسارعت المفوضية الاوروبية الى دعوة الدول الاخرى المرشحة كي لا تفعل ما فعلته رومانيا، خاصة وان واشنطن تبنت قرارا يوقف اي دعم مالي او عسكري للدول التي لا تمنحها تلك الحصانة. ف"سياسسة الباب المفتوح لتوسع الاطلسي" سيكون لها، في النهاية، التأثير الأهم على الطرف الروسي وحلفائه المحتملين. والموقف الروسي الذي لم يعترض على امكانية التوسيع الاطلسي يعمل على التخفيف من تداعيات هذه السياسة. فروسيا، حسب تصريح للرئيس فلاديمير بوتين في اواخر حزيران يونيو الماضي، "تحترم حق اي دولة اذا ما شاءت الانضمام الى حلف الناتو"، مضيفاً "ّنحن لا نعتبر ان امتداد الناتو سيحسن أمن الدول التي تستعد للانضمام اليه او أمن الحلف الاطلسي نفسه. ورغم ذلك اعتقد ان من الخطأ الفادح، من الوجهة التكتيكية والاستراتيجية، ان نضع عوائق امام دخول دول مثل استونيا الى الناتو" 26\6\2002. وصاحب هذا التصريح سعي روسي لتطمين الأصدقاء داخل الدول السوفياتية السابقة تجاه مخاوف انتقال عدوى الترشح للانضمام الى ربوعهم وكانت اوكرانيا قد عبرت عن رغبات من هذا القبيل، وتجاه احتمال تزايد الضغط من اجل زعزعة الاستقرار السياسي للتيارات المتمسكة بالعلاقات الوطيدة مع موسكو في دول كمولدافيا وبيلاروسيا. ذلك ان احداث مولدافيا خلال اشهر متواصلة من التظاهرات العارمة هذه السنة ضد الحكومة الشيوعية التي جاءت نتيجة انتصار انتخابي في 2001، أظهرت حجم الضغوطات الممكنة والتي يمكن ان تزداد بتشجيع من الخارج مع التوسع في حلف الناتو الى حدود تلك الدول. وقد بادرت روسيا الى التوسط في تموز يوليو الماضي من اجل مشروع فيدرالي بين مولدافيا الناطقة بالرومانية ومنطقة شيشناو المنشقة عنها واغلبية سكانها من الروس والاوكرانيين. وفي موقف مماثل التقى الرئيس الروسي بنظيره في بيلاروسيا في منتصف آب للبحث في تنسيق يكون هدفه الوحدة. وهذه التداعيات والمنازعات الخفية انما تشير الى ان سيرورة التوسع المفتوحة للناتو هي مسار لاختراقات متواصلة مسرحها الوضع الداخلي لدى البلدان الموضوعة على القائمة الجديدة في كل مرة.