عودة إلى الماضي القريب تكفي لكشف هول الحاضر. قبل أقل من عامين كانت الصورة مغايرة تماماً. أبواب البيت الأبيض مفتوحة أمام ياسر عرفات. بيل كلينتون يدرس دقائق ملف النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي ليلم بالتفاصيل الحساسة ويساهم في احترام المخارج. وطائرة ياسر عرفات الصغيرة تجول. مرة يدخل قصر الاليزيه وأخرى 10 داونينغ ستريت. يخاطب مؤتمراً دولياً أو البرلمان الأوروبي. ويجول في العواصم العربية والإسلامية. كان الحديث عن الدولة الفلسطينية والتنازلات المؤلمة التي لا بد منها لقيامها. وكانت إسرائيل تعتبر السلطة الفلسطينية شريكاً في البحث عن السلام لا يمكن شطبه أو تجاهله. كم تبدو المسافة بعيدة اليوم. الرئيس الفلسطيني محاصر في خرائب ما كان "المقاطعة". تحاصره الدبابات الإسرائيلية ومعها الاتهامات الأميركية وقرار إدارة بوش بإصلاح السلطة الفلسطينية وتغيير قادتها. غاب ياسر عرفات عن كل مراكز صنع القرار. اقفلت أبواب البيت الأبيض في وجهه ويمنعه الحصار من استئناف طواف طائرته الصغيرة بين عواصم العالم. على الأرض تبدو الصورة أشد قتامة. عاودت إسرائيل احتلال سبع من المدن الثماني في الضفة الغربية. عملية "الطريق الحازم" رفعت مجدداً نسبة مؤيدي شارون. وشاؤول موفاز الذي يودع رئاسة الأركان يتحدث عن ضرورة إقامة الجيش الإسرائيلي في مدن الضفة "فترة طويلة". والرأي العام الإسرائيلي رأى في حديث بوش عن عرفات تأكيداً لصحة موقف شارون. وفي ظل هذه المعطيات يتابع جيش الاحتلال عمليات الاغتيال والدهم والاعتقال واقتلاع ما تبقى من معالم السلطة. وعلى الجانب الفلسطيني تترسخ معالم المأساة: خسائر سياسية وكارثة إنسانية واقتصادية. لم يبق من الانتفاضة غير سلاح العمليات الاستشهادية وهو باهظ التكاليف على ما تؤكد الوقائع. وتكتمل ملامح الصورة إذا تابعنا الاضطراب الكبير الذي يرافق عملية الاصلاح القسرية وسباق الإقالة والاستقالة. إن أخطر ما يمكن أن يتعرض له الفلسطينيون هو استمرار الوضع الحاضر. من هنا حاجتهم الملحة إلى حماية بعدما تعذر على مبادرة السلام العربية القيام بهذه المهمة. لكن من يوفر هذه الحماية؟ واضح أن ارسال قوة دولية غير وارد، فالأمم المتحدة تقيم في عهد الولاياتالمتحدة، عهد القوة العظمى الوحيدة. وأوروبا ليست قادرة على القيام بدور من هذا النوع. لقد دمر شارون الأداة الأمنية الفلسطينية كي لا تستخدم تعهداتها في احراج إسرائيل ومطالبتها بسحب قواتها. أما الحماية الأميركية فمشروطة بالنجاح في الامتحان الذي فرضه بوش على الفلسطينيين. ثم ان السلطة غير قادرة على التعهد اليوم بما تعهدت به من قبل وغير قادرة على تنفيذ ما ترددت في تنفيذه يوم كانت قادرة. يحتاج الفلسطينيون إلى حماية عاجلة. ومهمة توفيرها لا تقع على عاتق عرفات وحده. ف"حماس" و"الجهاد" لعبا دوراً كبيراً في دفع الانتفاضة إلى حرب مفتوحة. ويتحتم عليهما اليوم المساهمة في توفير الحماية بعد قراءة واقعية للمشهد الفلسطيني الحالي ولميزان القوى الاقليمي والدولي. وليس ثمة شك في أن الحماية تستلزم قرارات مؤلمة بعدما تبين أن مهمة توفير الحماية تقع على عاتق الفلسطينيين أنفسهم وتبدأ بترميم الوحدة الوطنية وبلورة تصور واقعي لتأمين الحماية من الاستباحة الإسرائيلية والتهميش الدولي. غسان شربل