سجل الفلسطينيون في مواجهة الاجتياح الاسرائيلي الجديد ملاحم بطولية على رغم الخلل الصارخ في ميزان القوى. وأظهر صمودهم ان السيناريوهات التي ترمي الى شطب حلمهم بالدولة والاستقلال غير قابلة للتحقيق. وأكد هذا الصمود ايضاً ان اعادة احتلال الضفة الغربية بصورة دائمة ستكون باهظة التكاليف لاسرائيل بشرياً فضلاً عن أنها غير مقبولة دولياً. واثبت الفلسطينيون في هذه المواجهة ان اسرائيل لا يمكن ان تنعم بالأمن والاستقرار ما لم يحصلوا على حقوقهم الوطنية. وأكدت القيادة الفلسطينية قدرتها على مواجهة أحلك الظروف ومن دون الرضوخ لشروط المحتل أو أي املاءات أخرى من الخارج. وأكدت المواجهة ايضاً عمق التعاطف العربي الرسمي والشعبي مع الفلسطينيين وكذلك اتساع التعاطف الاسلامي والتفهم الأوروبي لمستلزمات أي حل عادل ودائم في المنطقة. في المقابل لا بد من الالتفات الى ان الانتفاضة الفلسطينية تعرضت لضربة قاسية ومؤلمة بفعل الاجتياح الأخير. فبعد الأسابيع التي بدا فيها أن فريقاً في الانتفاضة نجح في نقل النار الى داخل البيت الاسرائيلي حمل شارون النار الى داخل البيت الفلسطيني واضرمها في المدن والقرى والمخيمات. وبعدما بدا ان الهجمات الاستشهادية زعزعت أمن اسرائيل وثقة الاسرائيلي العادي بحكومته وجيشه رد شارون بما يتجاوز زعزعة أمن السلطة الفلسطينية. جاء الرد الاسرائيلي وحشياً وشاملاً وخطيراً. اسقطت الدبابات الاسرائيلية عملياً الحصانة التي وفرها للسلطة اتفاق أوسلو. استبيحت مناطق السلطة ودمرت أجهزتها الأمنية ووزاراتها. واسقطت الحصانة التي كان يتمتع بها الرئيس ياسر عرفات بموجب ذلك الاتفاق وحاصرته ولا تزال. ردت اسرائيل على محاولة زعزعة أمنها وارغامها على انهاء احتلالها والتسليم بالانسحاب وقيام الدولة الفلسطينية بمحاولة جرف السلطة الفلسطينية ورموزها ومؤسساتها. وواضح ان اسرائيل انزلت بالسلطة خسائر فادحة وانزلت بالشعب الفلسطيني خسائر فادحة ايضاً على رغم صموده البطولي. من السهل مطالبة الشعب الفلسطيني بالقتال حتى آخر طفل ومخيم، خصوصاً إذا كان المتحدث جهوري الصوت ذرب اللسان ويرى في شاشات الفضائيات فرصة عمره. لكن أي قراءة واقعية لما يجري تظهر ان مستلزمات المواجهة على المدى الطويل تفرض على الجانب الفلسطيني لملمة الجروح وعدم توفير الذريعة لشارون لاستكمال مذبحته. ومن الأهمية بمكان عدم تمكين "القاتل الكبير" من استكمال خطته لاقتلاع السلطة الفلسطينية نظراً لما تمتلكه من شرعية فلسطينية وعربية ودولية. ان خروج السلطة الفلسطينية من الوضع الحالي للحفاظ على جذوة المقاومة والأدوات الضرورية لاستمرار المواجهة وفق ما تقتضيه المرحلة الجديدة يستلزم مظلة لا بد من توفيرها. وهي مظلة تبدأ بالمحافظة على الوحدة الفلسطينية وتوفير مظلة عربية واقية تساهم في تعميق الموقف الأوروبي وخفض الانحياز الأميركي الى اسرائيل. ولعل الرؤية العربية التي يحملها ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الى الرئيس جورج بوش اليوم ومحاولته تقريب "الرؤية" الاميركية من مواصفات السلام العادل والشامل هي المحاولة الأهم لتوفير مظلة ترسم حداً لجموح شارون وجنونه. وعلى نتائج هذه المحاولة يتوقف مصير المواجهة في المرحلة المقبلة.