عنيزة تلك البلدة الجميلة في قلب نجد، انتجت بيوتا تجارية بناها عصاميون ضربوا في البر والبحر، مثل الجفالي، والبسام، والقاضي، والزامل، والذكير، والسليمان، والتي لمعت في نجد والخليج والحجاز والشام والهند. لكن سليمان العليان، وهو احد ابناء عنيزة، تميز منذ بداياته بانفتاحه على العالم الاوسع. فالطفل الذي عافاه الله من الجدري وكان يطل برأسه من "خرج" البعير الذي كان يحمله في قافلة بعد الحرب العالمية الأولى، كان في طريقه الى البحرين بصحبة أخيه الأكبر. وهناك التحق بالمدرسة الابتدائية ثم عمل في شركة النفط بابكو، وبعدها انتقل الى الظهران للعمل في مركز النفط المعروف الآن ب"ارامكو". كانت تجربته في "ارامكو" هي المنطلق لما استطاع ان يحققه لاحقاً، فعمله مثلاً كمأمور للمستودعات فتح آفاقه لمعرفة آلاف البضائع واستعمالاتها، وأهمية الحصول على وكالاتها. وعندما جاء الوقت الذي قرر فيه ترك "ارامكو" لم يبتعد كثيراً منها، إذ كانت تلك الشركة تشجع موظفيها السعوديين المؤهلين على العمل معها كمقاولين بعد تركهم الخدمه فيها، وكان نصيب سليمان العليان هو بناء خط انابيب "التابلاين" من المنطقة الشرقية الى لبنان. كان سليمان العليان من أوائل السعوديين - وربما أول السعوديين - الذين دخلوا أسواق الأسهم العالمية. وكان دخوله تلك السوق بسبب حاجة بنوك نيويورك الى ضمانات لخطابات الاعتماد التي كان على اساسها يستورد البضائع، وكانت تلك الاسهم التي اقتناها أنسب الضمانات. اقتضى التوسع من سليمان فتح مكاتب في بيروت وأثينا ولندن ونيويورك، وتنوعت أعماله بين التجارة والمقاولات والصناعة، ولكن كان أقرب الاعمال الى قلبه في النهاية هو الاستثمار في الاسهم. وكان يقول ان السبب في ذلك أن المادة الخام لمثل ذلك الاستثمار أموال سائلة والناتج النهائي من الناحية العملية أموال سائلة. كان سليمان يتمتع بميزات ساهمت في النجاح الذي حققه، ومن أهمها: تحديد الهدف والعمل الدؤوب من أجل تحقيقه، وكذلك الصدق في التعامل والذي أكسبه ثقه الافراد والمؤسسات، اضافة الى حسن معاملة موظفيه والصبر على هفواتهم وإدراك الحاجة الى حسن التدريب. كان يحسن الاستماع ويتمتع بذاكرة قوية، شديد الكره للتبذير، اما في اعمال الخير فكان قليل الاعلان عنها وكان منها تبرعه للمجمع التعليمي في عنيزة. اخيراً كان من أهم مميزات سليمان انه لم ينس أصوله في عنيزة. كان يفاجئك احياناً وعند اشتداد المناقشه بأمثال من بيئته التي ترعرع فيها، حيث كان يقول: "مدبر بالدار أحسن من حدّار" بمعنى انه لا داعي لأن تنحدر من هضبة نجد طمعاً في المزيد اذا كنت تستطيع تدبير أمورك وانت فيها. وكان اذا اختلفت معه في أمر لم يحِن وقت الاختلاف فيه يقول: "لماذا تختلف على مربط البقرة؟"، مشيراً الى ذلك الزوج الذي كان يناقش زوجته حول البقرة التي ينوى شراءها واختلفا على المكان الذي ستربط فيه البقرة، وأدى ذلك بهما الى الطلاق. عندما كتب "مايكل فلد" كتابه عن سليمان العليان اختار سليمان له عنوان "من عنيزة الى وول ستريت"، ولما قيل له ان العالم لم يسمع عن عنيزة قال: "أريده ان يسمع". وهذا الكتاب وزع على نطاق محدود وترجمه الدكتور حمزة المزيني ترجمة ممتازة. ولا أرى أعذاراً، الآن بعدما غاب عنا سليمان، في عدم نشره باللغتين العربية والانكليزية على نطاق واسع، ليعرف العالم قصة نجاح نادرة من داخل الجزيرة العربية، وليعرف الشباب سبل ذلك النجاح. رحم الله سليمان العليان وألهم حرمه وابناءه وبناته ومحبيه الصبر والسلوان. * وزير المال والتجارة السعودي السابق.