مُنيت الجماعات المسلحة في الجزائر بنكسات عديدة في السنوات الماضية، لكنها لا تزال قادرة على شن عمليات ضد قوات الأمن أو المدنيين. وعلى رغم التنافس الحاصل بينها على النفوذ، إلا ان جهوداً تُبذل منذ فترة لتوحيد صفوفها يقوم بها خليجيون مرتبطون بتنظيم "القاعدة". "نريدهم ان ينزلوا من الجبل أحياء. لا نريدهم قتلى. فالكثير منهم مغرر به، وخسارة هؤلاء خسارة للجزائر". بهذه الكلمات لخّص المسؤول الأمني البارز سياسة السلطات الجزائرية إزاء الجماعات المسلحة التي ما زالت ترفض سياسة الوئام. الدولة لا تريد قتلهم، بل تريد إنقاذهم من الوضع الذي هم عليه. "إنزالهم أحياء من الجبال، لا يعني فقط المحافظة على حياتهم، بل يعني أيضاً إنقاذ حياة مواطنين عاديين يمكن ان يُقتلوا في عمليات الجماعات المسلحة". لا يقول الجزائريون ذلك علناً، لكنهم في الحقيقة يُطبّقون اليوم سياسة جارهم الراحل الملك الحسن الثاني مع الصحراويين: "إن الوطن غفور رحيم". فإذا كان المغرب قادر دوماً على فتح صدره للصحراويين الذين يتخلّون عن جبهة "بولسياريو" ويعودون الى بلادهم، فالجزائر تستطيع أيضاً ان تفتح صدرها لمن حمل السلاح ضدها يوماً، في حال قرر التخلي عن العنف والنزول من الجبل. قدّم المسؤول البارز، طوال اربع ساعات، شرحاً للسياسة التي تعتمدها بلاده إزاء مسلحي الجماعات. "الجيش الإسلامي للإنقاذ" لا علاقة له بهذه السياسة. فالحكم يعرف، أولاً، انه يختلف عن غيره من الجماعات، كما انه، ثانياً، القى السلاح منذ ما يزيد على سنتين واستفاد من عفو رئاسي شمل جميع عناصره ضمن برنامج "الوئام المدني" الذي طبّقه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في مطلع العام 2000. الجماعات المسلحة الأخرى الرافضة سياسة المصالحة ستكون محور حديثه. هذه كلها فروع للجماعة الأم: "الجماعة الإسلامية المسلحة". هذه الجماعة التي كانت بلغت أوج قوتها في 1994 و1995، تعرّضت لضربات كثيرة على يد قوات الأمن. وساهمت هذه الضربات مع سلسلة من الخلافات الداخلية التي عصفت بها، الى تشرذم "الجماعة" وانقسامها فروعاً عدة تتفاوت من حيث القوة والثقافة الدينية والانتماء الجغرافي. "الجماعة المسلحة" "الجماعة المسلحة" لا تزال الأكثر دموية مقارنة مع غيرها. بقاياها تنشط خصوصاً في الوسط الغربي، مثل عين الدفلي والبليدة، بعدما تراجعت عن جبال الشريعة التي كانت - في فترة من الفترات - مقر قيادة الأمير عنتر زوابري قُتل في شباط/فبراير 2002 في بوفاريك وحل محله الرشيد ابو تراب. ولا يبقى المسلحون الموالون ل"الجماعة المسلحة" في منطقة واحدة لأكثر من أيام. وفي حال نزل واحد منهم من الجبل ولم يعد خلال يوم فإن "الجماعة" تغادر مخبأها فوراً وتنتقل الى منطقة أخرى، خشية ان يكون الشخص اعتُقل او وشى برفاقه ومكان اختبائهم. وتعتمد هذه الجماعة خصوصاً على ترهيب السكان وسرقة المؤن منهم. ويُقدّر عدد اعضاء "الجماعة المسلحة" حالياً ببضع مئات بعض التقديرات يضع الرقم في حدود 200 ينتشرون في مناطق عدة في سلسلة جبلية غرب الجزائر. لكنهم يبقون قوة لا يُستهان بها، خصوصاً انهم لا يخشون عواقب أفعالهم. ومكمن الضعف الأساسي لهذه "الجماعة" ان عناصرها لم يعودوا يتحركون ك "السمكة في البحر" بعدما فقدوا ثقة السكان إثر المذابح البشعة التي تُنسب اليهم. وتسعى السلطات الجزائرية الى إقناع السكان بأن هذه الجماعة هي "جماعة خوارج تدّعي انها سلفية". وتتنافس "الجماعة المسلحة" على النفوذ مع جماعة أخرى منشقة عنها وتنشط خصوصاً في الوسط الشرقي وولايات الشرق الجزائري. ويقود المنشقين قيادي سابق في "الجماعة" هو حسان حطاب الذي كان أميراً ل"المنطقة الثانية" فيها. واختلف حطاب مع الأمير السابق ل"الجماعة" عنتر زوابري، إثر مقتل سلفه جمال زيتوني في صيف 1996. وبعدما عمل لفترة تحت إسم "المنطقة الثانية" في "الجماعة"، لجأ في 1998 الى تغيير اسم مجموعته - بناء على نصيحة يُقال انها جاءت من تنظيم "القاعدة" - وأطلق عليها "الجماعة السلفية للدعوة والقتال". وتنشط هذه الجماعة في ولايات الوسط الشرقي والشرق. ويقود حطاب نفسه الناشطين في الوسط الشرقي ما يُعرف ب"المنطقة الثانية" مثل تيزي وزو ومناطق القبائل وبعض المناطق الساحلية شرق العاصمة، في حين يقود عبدالرزاق البارة الناشطين في ولايات الشرق أو ما يُعرف ب"المنطقة الخامسة" وتحديداً في باتنة عاصمة الأوراس، مهد الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. وتشير معلومات تلقتها السلطات الجزائرية لا يمكن تأكيدها من مصادر مستقلة الى ان حطاب لا يسيطر بالكامل على زمام الأمور في جماعته، إذ يتعرض لضغوط من بعض المتشددين الرافضين أي تسوية مع الحكم. وإضافة الى هذه الخلافات الداخلية، يتعرض حطاب أيضاً لضغوط أمنية مشددة. إذ لا يمر يوم من دون ان تشن قوات الجيش الجزائري عمليات تمشيط في مناطق نشاطه، خصوصاً في غابة علي بوناب حيث يُعتقد انه يتخذ منها مقراً لقيادته. "الجماعة السلفية" أما "الجماعة السلفية" في "المنطقة الخامسة" باتنة فيقودها قيادي سابق بارز في "الجماعة المسلحة" هو عبدالرزاق البارة الذي كان ضمن "الكتيبة الخضراء" التي قادها جمال زيتوني في النصف الأول من التسعينات. وتولى البارة إمارة المنطقة خلفاً لنبيل صحراوي الذي نُقل الى منصب آخر في الجماعة. ولا يُعرف مدى صدقية المعلومات عن الخلافات بين الرجلين. لكن الواضح ان البارة لم يخالف كثيراً سياسة سلفه صحراوي، إبن منطقة الأوراس البارة ليس إبن المنطقة. ويُعتقد ان سياسته تقوم حالياً على عدم تأليب السكان ضد "الجماعة السلفية"، من منطلق ان هؤلاء لن يشوا بعناصر التنظيم ما دام انهم لا يتعرضون لهم. ويتردد ان البارة يستعد في المستقبل لاستضافة مقر قيادة "الجماعة السلفية" في الأوراس في حال استمر الضغط على قيادة حطاب في مناطق الوسط. أما في العاصمة، فالمعلومات المتوافرة تفيد ان "الجماعة السلفية" تحاول مدّ نفوذها على حساب "الجماعة المسلحة". والهدف الأساسي من دخول العاصمة يبدو إعلامياً في الدرجة الأولى، كون أي عملية فيها تأخذ صدى في وسائل الإعلام أكبر بكثير من الصدى الذي يمكن ان تناله عملية ضخمة في المناطق النائية. لكن دخول العاصمة لن يكون في الغالب مهمة سهلة. إذ استطاعت أجهزة الأمن تفكيك معظم خلايا الجماعات المسلحة فيها في السنوات الماضية توقفت العمليات الضخمة منذ مقتل أمير "الجماعة المسلحة" الذي كان ينشط في القصبة حسين "فليشة" عام 1998. وتتعامل السلطات الجزائرية مع افراد "الجماعة السلفية" يُقدّر عددهم في الإجمال بنحو الفين على أساس ان معظمهم "مغرر به"، وان نزولهم من الجبل سيعني الحفاظ على حياتهم وحياة غيرهم من المواطنين. وتعتقد السلطات ان بعض قادة هذه الجماعة يُرهبون افرادها ويقدّمون لهم صورة غير صحيحة عن الأوضاع في البلاد، و"يقولون لهم ان ما يقومون به جهاد، وهو ليس كذلك". وتسعى السلطات، في هذا المجال، الى ترويج فتاوى أصدرها علماء معروفون في العالم العربي تؤكد ان ما يحصل في الجزائر "ليس جهاداً". والهدف من ذلك واضح: إقناع عناصر هذه الجماعة المختبئين في الجبال بإلقاء السلاح وتسليم انفسهم، في مقابل تعهد بمعاملتهم معاملة حسنة. وتشير إحصاءات الى ان العديد من اعضاء الجماعة نزلوا بالفعل من الجبل بعد اطلاعهم على فتاوى تعتبر ان منفّذي عمليات الجماعات المسلحة "خوارج". الأفغان الجزائريون وإضافة الى جماعتي حطاب و"أبو تراب"، تنشط جماعة ثالثة لا يُستهان بها في الغرب الجزائري هي "جماعة حماة الدعوة السلفية" بقيادة سليم الأفغاني. والأخير كان نائباً لقادة بن شيحة، الأمير السابق ل"الجماعة الإسلامية المسلحة" في الغرب والذي قُتل في صراع على الزعامة خلال عهد جمال زيتوني في 1996. وكان بن شيحة الذي عاش لفترة في اريتريا بعد مشاركته في الجهاد الأفغاني، يعتقد انه مؤهل من الناحية الشرعية، أكثر من زيتوني، لقيادة "الجماعة"، وكان يفخر بأن ما يقوم به يعتمد على السُنّة النبوية أسس كتيبة الأهوال من 314 عنصراً فقط، على أساس ان ذلك سُنّة. ويعتبر بعض المحللين في الأجهزة الجزائرية ان جماعة "حماة الدعوة السلفية" واحدة من أخطر الجماعات المسلحة على المدى البعيد. إذ انها تضم عدداً من المقاتلين الذين سبق لهم ان شاركوا في المعارك الى جانب المجاهدين في أفغانستان، ويملكون بالتالي خبرة قتالية لا يُستهان بها. كما انهم يحاولون المحافظة على صفوفهم، من خلال تفادي المواجهة المباشرة مع قوات الأمن إلا إذا اضطروا الى ذلك، أو إذا وجدوا سبباً مهماً يفرض عليهم شن هجوم، مثل الحصول على أسلحة أو مؤن. ويستغل اعضاء هذه الجماعة فترة الهدوء الأمني لإقناع سكان المناطق التي ينشطون فيها بمبادئهم. ويسمح لهم ذلك باستقطاب عناصر جديدة الى صفوفهم تكون متشبعة بأفكارهم. ويُلاحظ انه حتى في حال انشق أحد ما عنهم، فإنهم لا يحكمون عليه بالكفر بعكس غيرهم من الجماعات، بل يسعون الى ايجاد اعذار كافية له بحيث يمكن استقطابه مجدداً الى صفوفهم في المستقبل. محاولات للوحدة هل يعني هذا ان الجماعات ستبقى متفرقة تتنافس على النفوذ في ما بينها؟ معلومات السلطات الجزائرية تشير الى العكس. إذ ان ثمة جهوداً تجرى منذ شهور بهدف توحيد الجماعات المسلحة كلها ضمن جماعة واحدة، على غرار الوحدة التي حصلت في أيار مايو 1994 تحت راية "الجماعة الإسلامية المسلحة" بقيادة قواسمي. وضمت تلك الوحدة، آنذاك، قياديين في "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" و"الحركة الإسلامية المسلحة". وبحسب المعلومات المتوافرة عن الجهود الجديدة فإن القائمين بها جاؤوا من دولة خليجية ليست السعودية وجابوا سراً مناطق جزائرية عدة والتقوا قادة في الجماعات المسلحة بهدف درس طرق توحيد صفوفهم. ولا يُعرف بالضبط هل توصّل هؤلاء، وعلى رأسهم يمني يُشتبه في انه مرتبط مباشرة بتنظيم "القاعدة"، الى اتفاق على وحدة جديدة. لكن عُرف ان الإسم المتداول لقيادة التنظيم الجديد يقيم في اليمن. وربما يُعزز ذلك من حظوظه، كونه كان بعيداً عن الجزائر خلال الخلافات التي عصفت بالجماعات المسلحة. وهذا الشخص هو شقيق لقيادي بارز في "الجماعة السلفية". وليس واضحاً ان تحرك الإسلامي اليمني لتوحيد الجماعات الجزائرية يتم بناء على توجيه مباشر من تنظيم "القاعدة". لكن بصمات "القاعدة" ليست بعيدة عن ذلك. فهذا التنظيم مرتبط بعلاقات جيدة مع بعض مسؤولي "الجماعة السلفية"، بل يُقال ان تغيير حطاب إسم تنظيمه من "الجماعة الإسلامية المسلحة - المنطقة الثانية" الى "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" كان بناء على "نصيحة" من "القاعدة" التي رأت ان الإبقاء على إسم "الجماعة المسلحة" له عامل سلبي بسبب ارتباط اسمها بالمذابح الرهيبة التي شهدتها الجزائر في 1997 و1998. وليس سراً ان جزائريين مرتبطين ب"القاعدة" كانوا من الذين ساهموا مساهمة مباشرة في إنشاء "الجماعة المسلحة" في العامين 1991/1992، ثم في توحيد الجماعات الأخرى تحت رايتها خلال عهد أميرها الشريف قواسمي في أيار مايو 1994. فهل ينجحون هذه المرة، مجدداً، في توحيد الجماعات؟ الشهور المقبلة ستحمل بلا شك الجواب اليقين.