عُرف البروفسور إيلان بابيه كواحد من مجموعة "المؤرخون الإسرائيليون الجدد"، التي ضمت، فضلاً عنه، أسماء من ابرزها بني موريس واضع دراسة "مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949"، وسيمحا فلابان واضع دراستي "مولد إسرائيل: اسطورة ووقائع"، وتوم سغيف واضع دراستي "1949 - الإسرائيليون الأوائل" و"المليون السابع"، وآي شلايم واضع دراسة "صدام حول نهر الأردن"، وديفيد غروسمان واضع دراسة "الهواء الأصفر"، وأنيتا شابيرا واضعة دراسة "سيف الحماقة: الصهيونية والقوة" وجغرشون شافير واضع دراسة "علم الاجتماع النقدي وتصفية الواقع الاستعماري الصهيوني" وغيرهم. وعلى رغم أن بعض هؤلاء المؤرخين ذو مرجعية "ماركسية" أو "نيوماركسية" فإن معظمهم، بحسب أحنون روبنشتاين، إن لم يكن جميعهم، من أنصار نزعة "ما بعد الحداثة" ومضمونها في الحقل التاريخي أنه "لا يوجد تاريخ موضوعي يسعى الباحث لمعرفته وإن لم يتوصل إليه دائماً، إنما هناك، فقط، سلسلة من الروايات التاريخية NARRATIVES, تُعبر عن مجموعات متنوعة لم يأبه التاريخ الرسمي لرؤيتها للأحداث. وينبغي للمؤرخ المعاصر أن يتنبه لكل هذه الروايات، وألاّ يكتفي بالشهادات والوثائق، لأنه يوجد دائماً شك في أن هذه "الشهادات والوثائق" قررتها النخب بصورة منحازة، وأملاها موقع هذه النخب الاجتماعي". تعرضت أفكار "ما بعد الصهيونية" إلى هجمات ضارية من "المؤرخين الرسميين" وأضرابهم، الذين شنوا حملات متتالية على رموزها وما طرحوه من رؤى وأفكار، باعتبار أن البعض منهم ومنها، قد تحول في نقده من "ما بعد صهيوني" إلى "معاد للصهيونية" وهو ما لا يخدم - بحسب اعتقادهم - صورة الدولة، بل يهدد مستقبلها، بعد أن لم يتورع هذا البعض - في نظر منتقديهم - عن "استخدام أي تكتيك من أجل إظهار الصهيونية وإسرائيل، وكأنهما ملطختان منذ البداية". توم سغيف "الإسرائيليون الأوائل" مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1984، ص 111. لكن الواقع يؤكد أن كتابات "ما بعد الصهيونية" لم تصل - في أكثر معطياتها حدة وراديكالية - في نقد تجربة بناء الدولة الصهيونية، ومسار المشروع الصهيوني، في نصف القرن الأخير، إلى حدود "معاداة الصهيونية" التي أشير إليها سابقاً، بل انها، في أكثر الفروض اقتراباً من الدقة، فهي تعمل على تصحيح صورة الدولة، بمحاولة الإشارة إلى ما علق بها من أوحال، لإزالتها، حتى تكتمل ملامحها "الأخلاقية" على حد ما أشار البعض من هؤلاء، وحتى تدخل النصف الثاني من مئويتها الأولى، وهي أكثر قدرة على مجابهة ما يحيط بها من مشكلات، وما يواجهها من تحديات. وطرحت نظريات "ما بعد الصهيونية" رؤى مغايرة نسبياً لرؤى التيارات الرسمية الصهيونية، وتركزت هذه الرؤى في: 1- ميلاد "إسرائيل"، كان - في الأساس - يتضمن في تضاعيفه ظلماً بينّاً لشعب آخر، هو شعب فلسطين، إنه كالخطيئة الأولى التي "إذا كانت - بموجب اللاهوت المسيحي، هي تلك التي يحملها الإنسان معه منذ ساعة مولده، بل منذ ساعة تكوينه في الرحم، فإن مرادف "الخطيئة الأصلية" بالنسبة إلى إسرائيل، موجود منذ قيامها كدولة، قبل خمسين سنة، بل منذ إرساء اللبنة الأولى لوجودها مع صدور كتاب "تيودور هرتزل" عن "الدولة الصهيونية" عام 1895. 2- عرض "المؤرخون الجدد" لسياسات "الترانسفير" أو تفريغ السكان الفلسطينيين، أصحاب الأرض الاصليين بإجبارهم، عبر عمليات إرهاب منظم، على الرحيل خارجها، وهي السياسات الرسمية التي اعتمدتها القيادة الصهيونية وشكلت من أجل تحقيقها "لجنة الترحيل" بقيادة يوسف وينز في نيسان ابريل 1948. وقادت هذه اللجنة عملية تدمير القرى العربية، وطرد أصحابها، وإعادة اسكانها بمهاجرين من اليهود للحيلولة دون عودة اللاجئين الفلسطينيين إليها، وكذلك أوكل إلى اللجنة بناء سياج متضاعف من المستوطنات الصهيونية على حدود الدولة المغتصبة. 3- وضعضعت كتابات المؤرخين الإسرائيليين الجدد خرافة صهيونية أخرى رائجة، هي "الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر" وذلك الجيش الذي وُلد عملاقاً وتعمد في النار، واستطاع - على رغم قلة عدده وعتاده - أن يهزم الجيوش العربية مجتمعة، تماماً كما فعل "داود" الفتى اليهودي، مع المعتدي الأكبر منه حجماً والأكثر قوة "جوليات"، بحسب ما تذكر الأسطورة اليهودية - الصهيونية، القديمة - الجديدة! أثبتت كتابات مجموعة "ما بعد الصهيونية" كذب هذا الأمر، جملة وتفصيلاً، وقدمت قرائن عملية على أن العكس تماماً هو الصحيح، إذ امتلك الجيش اليهودي الأكثر عدداً والأفضل تنظيماً، مستوى أعلى من التسلح والخبرة العملياتية والمساندة الخارجية، جعلت انتصاره أمراً مفروغاً منه. 4- كذلك ألقى "المؤرخون الجدد"، في كتاباتهم ال"ما بعد الصهيونية"، أضواءً كاشفة على الموقف الإسرائيلي الحقيقي من قضية إحلال السلام في المنطقة، ومن المساعي الفعلية لإنهاء حالة الحرب بين أطرافها، فالمتبنى إعلامياً، في الغرب، أن إسرائيل كانت - دوماً - السبّاقة الى طرح مبادرات سلمية متعددة، رفضها العرب وآخرها بالطبع فرصة "كامب ديفيد-2" التي رفضها عرفات. غير أن الواقع كما يؤكد "المؤرخون الجدد" في كتاباتهم كان عكس ذلك تماماًَ، فمثلما كتب توم سغيف كان بن غوريون يرى أن حالة الصدام المستمر، مع العرب، توفر "التوتر المطلوب لتوحيد المجتمع الإسرائيلي وبلورته"، واستمرار سلطة حزبه الماباي، اعتماداً على "عنصر الزمن"، الذي رآه بن غوريون عنصراً "يعمل لمصلحة إسرائيل"، فإذا استطاعت إسرائيل الصمود وتعزيز قوتها وبناء قوة رادعة، سيرضخ العرب، وسيُجبرون على الاعتراف بوجودها". ولعلنا نرى أن هذه النظرية - بالفعل - هي السائدة، والتي تم تبنيها من القادة الصهاينة، على اختلاف مشاربهم، منذ بن غوريون وحتى شارون، وربما من سيأتي بعده أيضاً. 5- أما آخر الآفكار الأساسية التي طرحتها منظومة "ما بعد الصهيونية" فهي تلك التي ألقت الضوء على بنيوية أزمة المجتمع الصهيوني، التي تعود إلى التناقضات العضوية الممتدة داخلها - أفقياً ورأسياً - وفي مقدمها التناقض الصارخ بين هويتها الواقعية "كدولة عنصرية يهودية"، وبين إدعاءاتها باعتبارها "واحة للديموقراطية" وسط "صحراء الديكتاتوريات العربية القاحلة"! ويشير باروخ كيمرلنغ إلى مسلسل التنازلات التي دفعت القوى العلمانية الصهيونية إلى تقديمها للتيارات الدينية المتطرفة، الأمر الذي حول "إسرائيل"، شيئاً فشيئاً إلى "دولة ثيوقراطية" أي عنصرية غير ديموقراطية، وهذا هو مأزق الدولة الصهيونية المبنية على أساطير صهيونية، التي هي ليست سوى "أكاذيب عن أكاذيب في أكاذيب، من دونها سوف ينهار المجتمع الإسرائيلي". وعلى رغم وضوح المقدمات التي اعتمدها "المؤرخون الجدد" في رواياتهم لأحداث التاريخ المعاصر للدولة الصهيونية، فمما يلفت النظر تقاعسهم الغريب عن مد الخط إلى نهاياته المنطقية، إذ سرعان ما يتم النكوص عن الوصول إلى النتائج الطبيعية المترتبة على هذه المقدمات، بإدانة المشروع الصهيوني ذاته، والخروج عن قواعده وسقفه! فالمؤرخون الجدد - على ما يبدو - كانوا يخشون من تخطي عتبة التردد، بشجاعة، إذ يضعهم هذا التخطي أمام موقف واحد لا ثاني له، هو التبرؤ من المشروع الصهيوني برمته: جديده وقديمه، والانتقال إلى موقف آخر نقيض لا قبل لهم باحتماله. وإزاء لحظة التردد التاريخي هذه، انتصر الموقف الصهيوني لدى العديد منهم مثل بني موريس الذي عاد وارتد على قراءته السابقة لتاريخ الصراع العربي - الصهيوني، متهماً العرب "بالمسؤولية عن بدء الحرب"! وتداعي الأحوال والمآل الذي آلت إليه الأمور! ومبرراً عمليات إرهاب وطرد الفلسطينيين، التي لولاها "لما ظهرت إسرائيل، وإنما دولة مع طابور خامس عربي"! ورافضاًَ - براديكالية يُحسد عليها - "الاعتراف بحق العودة" للفلسطينيين، وهو ما دفع بالكاتب الإسرائيلي ميرون ربابورت يديعوت احرونوت 23/11/2001 إلى التساؤل: "من هو بني موريس إذاً؟! هل هو المؤرخ الذي كشف النقاب عن مظالم اليهود ضد العرب في عام 1948، أم أنه الشخص الذي يقوم بتبرير هذه المظالم؟ إنه يبدو الآن مثل نبي الغضب الذي يتحدث بصوت اليمين، أكثر مما هو عزيز على اليسار". المصدر نفسه على هذه الخلفية الضرورية جاء تفجر قضية البروفسور إيلان بابيه الذي قدم من منظور "ما بعد الصهيونية" دراسات مهمة في التاريخ الحديث للدولة الصهيونية ابرزها دراسة بعنوان "بريطانيا والصراع العربي - الإسرائيلي: 1948 - 1951". وتعود القضية التي نحن بصددها إلى سنوات عدة حينما قدم بابيه دعمه لباحث اسمه تيودور كاتز طالب الماجستير الذي قدم رسالة عن الملابسات التاريخية المصاحبة لمذبحة بلدة "الطنطورة" التي ارتكبها الجنود الصهاينة، وقتل فيها العشرات من الفلسطينيين من اهالي البلدة عام 1948. رفضت إدارة الجامعة الرسالة، وحظرت على صاحبها تسجيلها، وكان لا بد من تصفية الحساب مع بابيه نفسه، في الوقت الملائم الذي سرعان ما حلّ بعدما اجتاح اليمين المتطرف الدولة، وخيمت سحب الانتقام على المجتمع، ففتحت الجامعة الدفاتر القديمة، واستدعت بابيه للمثول أمام محكمة في الجامعة! يمثل الادعاء فيها عميد كلية "الدراسات الإنسانية" ويا للغرابة بنفسه! وفي رسالة بثها البروفسور بابيه على شبكة الانترنت أشار إلى أنه كان يُعد لتدريس منهج عن "النكبة" في العام المقبل، ولم تجد الجامعة الديموقراطية وسيلة لإيقافه سوى طرده "بإجراءات مزعومة عن محاكمة صدر فيها الحكم بالإدانة مقدماً"، وعرض البروفسور بابيه المناخ السوداوي الذي يلف المراكز الاكاديمية في الدولة، بعد أن قرر الأساتذة الإسرائيليون، وبالإجماع، مساندة الحكومة، وأن يصادروا أي نقد لها"، ورأى بابيه ما يحدث "مجرد افتتاحية" تتبعها خطوات "ستطاول آخرين في المرحلة المقبلة"، ويستخلص بابيه أن توسيع رقعة الإعلان عن قضيته "يمكن أن يساعد في عرض الصورة الكئيبة، والادعاء الزائف بأن إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". * كاتب مصري، منسق اللجنة المصرية لمقاطعة السلع والشركات الصهيونية والأميركية.