بدت الدعوة غريبة بعض الشيء، ومثيرة للفضول أيضاً. مارسيل خليفة يوقّع أسطوانته الجديدة "كونشرتو الأندلس" في محلّ "فيرجين" في بيروت. كونشرتو؟ وأندلس؟ وحفلة توقيع في "معبد الموسيقى والفيديو" الذي يعجّ بالزبائن المرفّهين والسيّاح العرب، ويفترض أنّه من رموز عودة بيروت وانفتاحها، مع أن تسجيلات رقميّة صودرت منه قبل أشهر بإسم "الأخلاق العامة"... ها هو المغنّي الملتزم يعود إذاً إلى دائرة الضوء، فكّرنا. ولعلّه مقبل على مرحلة موسيقيّة جديدة، هو الذي بات منذ أسطوانة "جدل" يطمح إلى تغليب صورته كمؤلّف موسيقي على صورته الذائعة كرائد من رواد الأغنية الجديدة، من دون أن يتنصّل كليّةً من الأغنيات السياسيّة التي صنعت شهرته منذ أواسط السبعينات، وما يزال الجمهور العربي يطالب بها إلى الآن. مارسيل خليفة في "فيرجين"، بعد عمرو دياب وديميس روسوس ويوري مرقّدي ... وما يضيره في ذلك؟ فهو فنّان كسواه، من حقّه أن يقدّم عمله الجديد للجمهور، في أي فضاء ثقافي أو تجاري يتّسع لذلك في بيروت "المزدهرة". مع أن عروبته غير عروبة يوري مرقّدي طبعاً، ولحسن الحظّ! فالأولى "عروبة" استهلاكيّة، "عروبة" خدمات وكليبات وفضائيّات عربيّ أنا، إخشيني!، والثانية مشروع حضاري طويل النفس عند حافة جرح مفتوح "أنا أحمد العربي قال، أنا الرصاص، البرتقال، الذكريات..."، كما غنّت أميمة الخليل في "فيرجين" من شعر محمود درويش. وفي نهاية الأمر، هل ننسى أن "الحواجز القديمة ضاعت، وتغيّرت المعايير الفكريّة والجماليّة، بعد انهيار الأسوار الايديولوجيّة، وبعد أن وحّدت السوق بين المتناقضات"؟ وها هو المغنّي اليساري في محلّ ريتشارد برانسون الملياردير العمّالي، وعلى شاشة قناة تلفزيون MTV في الآن نفسه. لكنّ مارسيل على خشبة "فيرجين" لم يكن يشبه نفسه. بدا متعباً، بارداً، غير مقتنع بما يقدّم، خلافاً لأيّام العزّ حين كان يلهب وجدان عشرات؟ آلاف المشاهدين. هل هو المكان يشعره بالغربة؟ الظروف الدامية؟ هل أن خليفة غير قادر، بتركيبته وطبيعته وشخصيّته وتاريخه، على الدخول في اللعبة الاعلاميّة، الشبابيّة، حيث يتصرّف كأي فنّان محبوب في حضرة جمهوره؟ ما سرّ هذا التشنّج في ملامح الوجه؟ في حركات الجسد؟ لماذا هذا التصرّف الجاف مع الصبيّة الرقيقة التي غافلت العسس، وصعدت إلى المسرح، نقيّة باسمة، ومدّت إليه بورقة، فلم يتنازل لأخذها، ولم يتمكّن من الابتسام؟ جاء الجمهور خجلاً هو الآخر، انتشر بين أجنحة الأسطوانات في القاعة، ولم يردّد معه إلا قلّة "صامدون هنا... قرب هذا الدمار العظيم". جاء بعضهم بالكوفيات من الاعتصام القريب في ساحة البرج، تضامناً مع الشعب الفسطيني. جاء بعض الأصدقاء والاعلاميين. لكنّ جمهور فيرجين كان غائباً... وجمهور مارسيل أيضاً. كأن الخلط بين الأجناس، يجعلنا نفقد ما اكتسبناه، ولا نكتسب شيئاً جديداً. هذا الخلط بين الأنواع، نجده في الأسطوانة الجديدة، الصادرة في الولاياتالمتحدة عن "تسجيلات نغم"، حيث حشر "متتالية لعود وأوركسترا" متتالية ترجمة غير دقيقة ل suite، فيها من "يا بنات اسكندريّة" ومن "تحت القناطر"... مع أغنيات على طريقته القديمة، لحّن وأدّى كلمات وقصائد للحلاج ومحمد السويدي وأدونيس ومحمود درويش. وقفت أميمة الخليل تغنّي مقاطع من غنائيّة أحمد العربي، هي التي برزت كفنّانة مستقلّة، في الفترة الأخيرة، وأدّت أسمهان وغيرها بطريقة مبتكرة، وبثّت "كليباتها" على شاشات التلفزيون الأرضيّة والفضائيّة: "نازلاً... من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد/ وكانت السنة انصال البحر عن مدن الرماد/ وكنت وحدي/ ثمّ وحدي/ آه يا وحدي... وأحمد كان اغتراب البحر بين رصاصتين/ مخيّماً ينمو وينجب زعتراً ومقاتلين/ وساعداً يشتدّ في النسيان...". إستمعنا في "فيرجين" إلى أغنيات من الذاكرة، من شعر حسن العبدالله "أجمل الأمّهات"، "يا حاديَ العيس"... ثم راح الناس يشترون الأسطوانة، ونفدت الكميّة الموجودة منها في المتجر، فتوجّه البائعون إلى المخازن. وبعد أيّام يمضي الفنّان إلى أميركا في جولة جديدة لا شكّ ستحقق النجاح والاقبال. وفيما استغرق مارسيل في توقيع أسطوانته الرقميّة، وطمّته موجة الأصدقاء، كانت صورته على شاشة الفيديو التي تبثّ عادة أشهر الكليبات، تتحرّك ببطء، من دون صوت. هكذا وجدنا نفسنا عنوةً - كما في مسرحيّة لينا صانع وربيع مروّه الجديدة "بيوخرافيا" - أمام تفاوت سافر بين الحياة والصورة، بين الوعاء المملوء والإطار الفارغ. لكن تلك مسألة أخرى لا بدّ من مناقشتها في عجالة مستقلّة.