} كان عائداً لتوّه من احدى القرى الجنوبية التي طالما جال بينها مغنياً المقاومة اللبنانية حين فاجأه القرار الظنّي الصادر في حقه والداعي الى معاقبته سجناً في تهمة "تحقير الشعائر الدينية". ولم يُفاجأ مارسيل خليفة وحده بهذا القرار المجحف والقاسي بل فوجئت به أيضاً بيروت التي ما برحت تحتفي بنفسها كعاصمة للثقافة العربية وفوجىء به المثقفون اللبنانيون على اختلاف مواقعهم، والمواطنون الذين أحبّوا المغني الملتزم وردّدوا أغنياته بحماسة. لا يحتاج مارسيل خليفة أن يدافع عن نفسه ضدّ هذا القرار الذي أصدره أحد قضاة بيروت، "عاصمة الحرية"، فهو يدرك جيداً، مثلما يدرك جمهوره الكبير، أنّه لم يسىء الى الشعائر الدينية ولم يعمد الى انشاد أي نصّ دينيّ. كل ما فعله هو أنه غنّى قصيدة كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش وعنوانها "أنا يوسف يا أبي". ولم يغنّ خليفة هذه القصيدة إلا يقيناً منه أنّها تعبر رمزياً عن أحوال الشاعر المنفي والمضطهد وقد استحال مثالاً للإنسان العربي المعاصر. يصعب أن يصدّق جمهور مارسيل خليفة اللبناني والعربي أن مغنّياً مثله يمكنه أن يسيء الى أيّ مشاعر دينية أو إنسانية. فأغنياته الكثيرة رافقت حركة التحرّر الوطني وحركة المقاومة الوطنية وخاطبت وجدان الناس وآمالهم وزرعت في قلوبهم شعلة الرجاء ونار الحماسة. ولم ترتبط أغنية بذاكرة المواطنين وهمومهم وشجونهم مثلما فعلت أغنية مارسيل خليفة التي جمعت في الحين نفسه بين الالتزام الحقيقي والجمال، بين النضال والحلم، بين الثورة والحبّ. وكانت تلك الأغنية الأصيلة والحديثة شعبية بامتياز وراقية بامتياز، تقبل عليها النخبة مثلما تألفها عامّة الناس. طوال سنوات الحرب كانت أغنية مارسيل خليفة شبه ممنوعة في "الشارع المسيحي" ولكن لم تستطع أي جهة أن تصادرها بل هي راجت وكسبت جمهورها الآخر. حينذاك كانت التهم تكال له جزافاً حتى اعتبر كالإبن الضال والمتمرّد والخارج عن القبيلة. غير أنّ الجميع لم يلبثوا أن أدركوا أن مارسيل خليفة لم يغنّ إلا الإنسان أياً كانت هويته، الإنسان المعذّب والمقهور، الإنسان الضعيف والحالم. ولم يكن التزامه القضية الفلسطينية إلا انخراطاً في أنبل القضايا ونضالاً من أجل الكرامة العربية والحق العربي، وقد دفع غالياً ثمن هذا الانخراط وهذا النضال الجميل والشريف ضدّ الظلم والجور. والتزم مارسيل خليفة أيّما التزام قضية الجنوب اللبناني فغنّى الشهداء وغنى الأرض الشريفة والناس وغنى الفتى علي والطفل أيمن وكلّ الضحايا وكل المقاومين الذين لم يهابوا الموت. وكانت أغانيه الجنوبية تفيض بحزن الأمهات وصرخات الشهداء وعنفوان الشهادة. لا يحتاج مارسيل خليفة الى من يدافع عنه فماضيه النبيل وحاضره المضيء يدافعان عنه خير دفاع. وتراثه الغنائي والموسيقي هو أشبه بالكنز اللبناني والعربي الذي ينبغي الحفاظ عليه وخاصّة في مرحلة الانحطاط التي تشهدها الأغنية اللبنانية والعربية راهناً. ودولة غير الدولة اللبنانية كانت عرفت كيف تصون فناناً في حجم مارسيل خليفة وكيف تكرّمه وتحافظ على حقوقه. وفنان مثل مارسيل خليفة كان في امكانه في مرحلة من المراحل أن يجمع ثروة كبيرة وأن يتخطى واقعه الاجتماعي ودعته. لكنه طالما أصرّ أن يحيي الحفلات دعماً للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، ودعماً لبناء المستشفيات والمستوصفات والنوادي الخيرية. آثر مارسيل خليفة أن يظلّ مواطناً عادياً مثله مثل بقية المواطنين. وقد أشاح عن كلّ الإغراءات التي "اعترضته" أو قدّمت له رافضاً أن يتنازل عن أيّ حلم أو رجاء. يصعب فعلاً أن يصدّق جمهور مارسيل خليفة اللبناني والعربي أن المغنّي المناضل والموسيقي الطليعي يمكنه أن يجرح مشاعر جماعة أو حتى مشاعر فرد. وكيف يقدم على أمر كهذا فنان في أصالة مارسيل خليفة ورقّته وعذوبته؟ وطالما أن المراجع الدينية تركت للقضاء اللبناني أن يقول كلمته الفصل في القضية فأنّ القضاء هذا سيتحمَّل تبعة أي قرار يتخذه لا في حقّ مارسيل خليفة فحسب وإنّما في حق الثقافة التي تحتفي بها بيروت هذا العام