ليس من السهل ان يستعيد مارسيل خليفة أغانيه الملتزمة التي راجت خلال الحرب ليغنيها اليوم بعد مضي قرابة عشرين عاماً على انطلاقتها الاولى. فالحرب انتهت ولم يعد الجمهور يحتاج الى أغنيات حماسية بعدما سقطت القضايا الكبيرة وبات النضال عملاً فردياً وشبه صامت. إلا أن مارسيل خليفة عرف كيف يستعيد أغنياته القديمة التي كانت أشبه بالخبز اليومي للمواطنين والتي اجتازت في أحيان كثيرة الحواجز لتُردّد هنا وهناك. نجح مارسيل خليفة في جعل أغنياته الحماسية أغنيات وجدانية صرفة تثير الكثير من الذكريات الجميلة والأليمة والكثير من الحنين والحزن. ولم يرتدِ رباعي الميادين وأميمة الخليل الأبيض والأسود إلا احتفاء بالذكرى التي تجسدها الأغنيات القديمة. الأمسية الغنائية شاءها مارسيل خليفة قصيرة وهادئة ومن دون بهرجة، واختار رباعياً وتريّاً ليبتعد عن الصخب الذي يعمّ المدينة وليغنّي بهدوء ويطلق الآهات حزينة بعض الحزن. وبدا صوت مارسيل خليفة في تلك الأغنيات المستعادة دافئاً جداً ومجروحاً بالألم وربّما بالخيبة التي أصابت المواطنين بعدما انكسرت أحلامهم. ومن يتذكّر صوت المغني يؤدّي بحماسة تلك الأغنيات خلال الحرب، يدرك كم أن الجرح أضحى اليوم عميقاً وكيف انقلبت الحماسة شغفاً ولوعة. وإن بدت بعض القصائد عتيقة وشاحبة بعدما تخطتها المرحلة، فإن الألحان لم تزدد إلا جمالاً ونضجاً ولا سيّما عبر الصيغة الوترية الرباعية التي ارتآها الفنان متحاشياً الصيغة الأوركسترالية الضخمة. وكعادته عزف المغنّي على عوده ببراعته والى جانبه شربل روحانا عازفاً بدوره على عوده بحذاقة ورهافة، وقبالتهما كانت ترتفع أنّات الكمان يعزفها برقّة طوني خليفة. أما آلة "التشيلو" فكانت بمثابة خلفيّة للأنغام المرتفعة من العودين وعزف عليها سركيس كوشكاريان. واستطاع الرباعي الوتري ان يخلق جوّاً هادئاً للأغنيات الملتزمة وأن يحيطها بهالة من الحنان والعذوبة، وغدت تلك الأغنيات مستعادة فعلاً لا من الذاكرة فحسب وإنّما من القلب أيضاً. إنها أغنيات طالعة من زمن لا يزال محفوراً في وجدان الجمهور: يتألم لها البعض ويطرب لها البعض الآخر متناسياً ظروفها الخاصة. وإن لم يعد الزمن الراهن زمن البنادق والعواصف والرحيل، فهو زمن المأساة الداخلية التي ترينُ على القلوب والنفوس. وغنى مارسيل خليفة وأميمة الخليل تلك المأساة في أغنيات رقيقة جداً كأغنية العصفور والطفل الجنوبي الذي ابتسم للطائرة المغيرة والكمنجات التي تبكي مع الراحلين من الأندلس... والأغنية الأخيرة "الكمنجات" هي من الأغنيات التي أدتها أميمة الخليل أخيراً ضمن أسطوانة صدرت قبل عامين. ولعلّ الجمهور الذي أحب مارسيل خليفة ورافق مراحله كافّة استعاده في أغنياته القديمة مستعيداً جوّاً غنائياً ما برح يحنّ إليه وإن بألم وحذر. والحنين الى تلك الأغنيات ليس حنيناً الى الحرب وأجوائها بل الى أحلام عبرت كغيوم الصيف. والجمهور الذي اعتاد ان يتحمّس لمثل هذه الأغنيات استمع بهدوء الى الفرقة الرباعية والى المغنّي والمغنّية وصفّق بحرارة بين أغنية وأخرى. أما أميمة الخليل فكانت أليفة جداً في إطلالتها وبدا صوتها رقيقاً وعذباً كعادته وفريداً بخامته النضرة وبحّته المجروحة. وأدّت المغنيّة الشابة برهافة أغنيات كانت أدّتها في الرابعة عشرة من عمرها. والأمسية التي حملت عنواناً جميلاً هو "في البال أغنية" كانت فعلاً أمسية استعادية ومن خلالها أدى مارسيل خليفة تحيته الخاصة الى الذكرى الخمسين للنكبة الفلسطينية التي تحتفل بها بيروت. أمسية استعادية شاءها مارسيل خليفة عودة الى الوراء ولكن ببراعة وحذاقة. إنّها عودة الى إحياء الماضي الذي ولّى ولم تبق منه سوى الذكريات. ولعلّ الفنان المعتاد على تخطّي ذاته باستمرار وعلى التجدد باستمرار لم يشأ هذه الأمسية إلا تكريساً لمسيرته الموسيقية والغنائية التي ساهمت في تجديد الأغنية اللبنانية والعربية وأعلنت ثورتها الجمالية في عالم الموسيقى العربية. * تقدم الحفلات في مسرح بيروت عين المريسة، وتستمر حتى أواسط أيار مايو.