عادت أميمة الخليل الى جمهورها كما يجب أن تعود، هي التي لم تغب أصلاً، عادت بصوتها الشجيّ الذي يزداد نضارة، وغنّت من قديمها الذي ليس بالقديم، ومن الجديد الذي سعت الى بلورته متعاونة مع الموسيقي هاني سبليني، رفيق الحياة والدرب. كانت مفاجأة جميلة اطلالة أميمة الخليل في حفلتها التي أحيتها ليل السبت الفائت في قاعة ال «يونسكو» بدعوة من «نادي أصدقاء صوت الشعب» ودعماً لهذه الإذاعة العريقة والطليعية التي تعاني أزمة مادية، والتي كانت من منابرها الأولى أيام كانت تغني مع مارسيل خليفة ومن ألحانه. وحملت الحفلة عنواناً جميلاً هو «أعرف بلاداً» اختارته المطربة الشابة وهاني سبليني من ديوان الشاعر والإعلامي زاهي وهبي «ماذا تفعلين بي؟» وهو عنوان قصيدة لحّنها سبليني ووزعّها وأدّتها أميمة في الحفلة للمرة الأولى، وكانت فعلاً من جديدها المشرق الذي لم ينفصل عن أعمالها السابقة سواء التي أنجزتها مع مارسيل خليفة، أو التي افتتحت بها «عهداً» جديداً مع هاني وسواه، وقد بدّلت في هذا «العهد» اطلالتها (أو اللوك كما يقال) وأعلنت خروجها من زمن المراهقة التي كانت فيه شديدة الخفر، على رغم جمال صوتها وفرادته. انها أميمة الخليل التي نضجت، تستعيد أميمة الفتاة في أغنياتها الأولى التي كانت بمثابة الخبز اليومي خلال أعوام الحرب وما بعدها، عندما كان مارسيل خليفة يلحن لها لتغني وترافقه في الحفلات التي يستحيل نسيانها مهما مرّ عليها الزمن. تلك الأغنيات ما برحت تملك أثرها الجمالي وقوّتها الشفافة والطفولة الآسرة التي كانت تضفيها عليها أميمة، الفتاة التي تفتحت باكراً على الفن الملتزم والجميل وعلى الهموم الكبيرة والصغيرة، هموم الحياة وهموم ناسها اليوميين والبسطاء والحالمين بحياة أفضل. مَن يقدر أن ينسى أغنيات مثل «عصفور طلّ من الشباك» أو «نامي يا زغيري» أو «يا شوارع بيروت»... وقد أدتها في الحفلة برهافة الصوت المبحوح المشبع بالطفولة، وحذاقة الحنجرة التي نضجت كلّ النضج. غنت أميمة هذه الأغنيات بحنين الماضي ولوعة الحاضر، فإذا بصوتها يمزج بين زمنين أصبحا على تناغم تام. أما الأغنيات الأخرى التي كانت افتتحت بها «عهدها» الجديد والتي بدت مختلفة بجوّها وتقنياتها (لا سيما موسيقى التكنو) وبمقاربتها لموضوعات أليفة جداً كالحبّ الذي أصبح مجبولاً بالأحاسيس الداخلية والشجون... لكن المناخ الغنائي الذي خيم على القاعة والجمهور لم يبدُ على تنافر أو تضادّ، فالأغنيات والموسيقى كانت تسيل بعذوبة، عبر صوت أميمة ذي الخامة الخاصة، والألحان التي كانت على تناغم على رغم تعدّدها. غنت أميمة ما يحلو للجمهور أن يسمعه من أغانٍ حاضرة في ذاكرته ووجدانه، وهي أغانٍ لا تشبه «أغنيات» السوق التجاري التي لا تدوم أكثر من أشهر، أغانٍ كلما سمعها الجمهور أحبها أكثر وكأنه يعيد اكتشافها: «قلت بكتبلك»، «لبسوا الكفافي ومشوا»، «العائد»، «إلى آخره»... وشاءت أميمة أن تفتن جمهورها ببعض الأغاني التراثية والشعبية مثل «الحلوة دي» لسيد درويش و«قل للمليحة» من التراث العراقي... ونجحت كثيراً في أداء مثل هذه الأغنيات مانحة اياها بحتها الخاصة واحساسها النابع من الداخل، ولوّنت ألحانها وكلماتها بالعُرَب اللطيفة. ما أحوج الجمهور اللبناني والعربي الآن الى صوت مثل صوت أميمة الخليل، هذا الصوت الجميل والمهذب والمصقول والمشبع بالحنين والرقة والطلاوة. وما أحوج الجمهور أيضاً الى ألحان مثل ألحان مارسيل خليفة هذا الفنان الخلاق والمجدّد، الأصيل والحديث، والى ألحان هاني سبليني الملحن والموزع ذي الأذن المرهفة والروح الشغوفة. أميمة الخليل، كما أطلّت في حفلتها «أعرف بلاداً»، مغنية فريدة، تخاطب القلب مثلما تخاطب الأذن والروح، مغنية تحتل مكانة متقدمة في حركة الغناء اللبناني والعربي الحديث. انها من الأصوات التي تعيد الى الجمهور الحقيقي الأمل في أن الغناء الجميل والأصيل سيظل صامداً مهما عصفت رياح البشاعة والسطحية.