تؤكد المباركة المطلقة التي اعطتها ادارة الرئيس جورج بوش لاجتياح الجيش الاسرائيلي المدن الفلسطينية، وجود قرار اميركي بمعاقبة الدول العربية على التضامن مع العراق ضد اي ضربة عسكرية ومحاسبة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على رفضه خطة المبعوث الاميركي انتوني زيني لوقف اطلاق النار في الاراضي الفلسطينية. كانت واشنطن "طرحت" على الدول العربية عشية جولة نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني الى الشرق الاوسط في الشهر الماضي، معادلة اقليمية مفادها: ازاحة الرئيس العراقي صدام حسين في مقابل ازاحة رئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون، لذلك ارسلت الجنرال زيني الى الشرق الاوسط كي يعمل على الوصول الى وقف اطلاق النار لتهدئة الامور في الاراضي الفلسطينية تمهيداً لتوجيه الضربة العسكرية الى العراق وتغيير النظام في بغداد. لكن ما حصل على الارض كان عكس ذلك، حين ركزت الدول العربية على القضية الفلسطينية، وعندما تحدثت عن العراق سمع تشيني من الزعماء العرب موقفاً واحداً هو "رفض توجيه اي ضربة عسكرية" و"معارضة تغيير النظام العراقي" من جانب واشنطن، مع ان لكل دولة اسبابها الخاصة في اتخاذ هذا الموقف الا انها أجمعت على التخوف من "فوضى سياسية وجغرافية" في العراق واحتمال تقسيمه وتأثير ذلك في "الاستقرار الداخلي"، خصوصاً ان ذلك يأتي في وقت يتصاعد الرفض الشعبي للعلاقات مع اسرائيل التي تعتدي على الشعب الفلسطيني. حتى تركيا، التي تستضيف قاعدة انجرليك في جنوب اراضيها باعتبارها الذراع العسكري لتحليق الطائرات المكلفة فرض منطقة حظر الطيران في شمال العراق، لم توافق على الضربة العسكرية من دون ان تحصل على ضمانات سياسية. سورية المجاورة للعراق، لم تستشر لأن تشيني استبعدها من الجولة، لكنها نسقت علناً مع السعودية ومصر والاردن لرفض تغيير نظام بغداد من الخارج لأسباب سياسية تتعلق برفض المس بسيادة العراق ووحدة اراضيه واقتصاده باعتبار ان السوق العراقية الحالية من المصادر الأساسية للقطع الاجنبي في الموازنة السورية. لا شك في ان هذا الكلام لم يرق لتشيني والتيار المتشدد في الادارة الاميركية المتمثل بوزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفوويتز، خصوصاً ان تشيني جاء الى الشرق الاوسط بعد انتصار بلاده على تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان" في افغانستان، ل"يبلغ رسالة الى الاطراف وليس ليتشاور معها" كما اعلن المسؤولون الاميركيون قبل جولته. ويذكر ان القمة المرتقبة بين الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير في منتصف الشهر المقبل ستدرس الاعداد للمرحلة الثانية من "الحرب على الارهاب" بالتزامن مع مناقشة مجلس الامن الدولي القرار 986 الخاص بمذكرة "النفط مقابل الغذاء" وعودة المفتشين الدوليين للبحث عن اسلحة الدمار الشامل. وكان هناك اعتقاد اميركي ان القمة العربية التي عقدت في 27 و28 الشهر الماضي في بيروت، ستعطي مباركة او على الاقل اشارة الى ضرب العراق اضافة الى مبادرة سلمية عربية تتضمن: "تطبيع واعتراف باسرائيل وتنازل عربي شامل عن اراضي 1948 مقابل انسحاب اسرائيل من اراضي ال1967". لكن ما حصل لم يكن ابداً مطابقاً للتصور الاميركي: اذ غاب الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل الاردني الملك عبدالله الثاني اعتراضاً على عدم وفاء واشنطن والنائب تشيني بتوفير ضمانات حضور الرئيس ياسر عرفات وعودته، ما فتح الباب الى ان تكون المبادرة العربية التي تضمنت "علاقات سلم عادية وأمن لاسرائيل مقابل الانسحاب من الاراضي المحتلة وحل عادل لقضية اللاجئين" في ظل غياب الدول ذات التيار المعتدل سياسياً. وما ازعج واشنطن اكثر، ان اليوم الثاني من القمة شهد مصافحات واشارات في اطار "المصالحة السياسية" مع العراق إضافة الى السلام الحار بين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة في العراق عزت ابراهيم الدوري وولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز والمصافحة بين الدوري ووزير الخارجية الكويتي صباح الاحمد الصباح. وتعزز ذلك في البيان الختامي بإجماع عربي شامل ب"رفض ضرب العراق" واعتبار ذلك "يهدد الامن القومي العربي". وأعطى هذا الموقف العربي ادارة الرئيس بوش ذريعة لاعطاء "الضوء الاخضر" لشارون لبدء عملياته العسكرية وخوض "الحرب الاسرائيلية على الارهاب الفلسطيني" لعقاب العرب على مواقفهم و"الرد" على القمة العربية و"مبادرتها" للضغط على الرئيس عرفات بالحد الاقصى لاخضاع الجانب الفلسطيني الى شروطه بعد تفكيك بنية السلطة الوطنية الفلسطنية والغاء ما حققه اتفاق اوسلو وتجريد الفلسطينيين من كل اوراقهم قبل عودتهم الى مائدة التفاوض. ويتزامن ذلك مع ارسال الادارة الاميركية رسائل رادعة الى الدول الاقليمية القادرة على التحرك في الملفين: العراق وقضية فلسطين، فجاء قول وزير الدفاع رامسفيلد ان "الارهابيين اعلنوا الحرب على الحضارة. ودول مثل ايرانوالعراق وسورية تشجع ثقافة القتل السياسي والاعتداءات الانتحارية وتموله. ان استهداف المدنيين عمل غير اخلاقي اياً كانت الاعذار". ويرمي كلام رامسفيلد الى ردع دمشق وطهران والحيلولة دون توسيع التوتر الاقليمي بعد المجازر التي ارتكبها الاسرائيليون. كما ان هذا الكلام جاء بعد اطلاق صواريخ "كاتيوشا" عبر جنوبلبنان، وبعد رفض الرئيس بشار الاسد في خطاب القمة العربية "الوقوع في فخ" التفريق بين المدنيين والعسكريين لدى الحديث عن المقاومة في الاراضي الفلسطينية لأن "الجميع مسلح في اسرائيل بمن فيهم المستوطنون ... المحتل هو محتل والمقاومة حق مشروع ضد الاحتلال" المقصود في الاراضي المحتلة العام 1967. وعلمت "الحياة" ان السيناتور الاميركي آرلن سبكتر سأل عن هذا الموضوع خلال لقائه الاسد الذي اكد "الفارق بين الارهاب والمقاومة المشروعة للاحتلال" وان "مقاومة المحتلين في اراضي العام 1967 حق مشروع". كما ان السفارة الاميركية قدمت الى الخارجية السورية احتجاجاً بعد تصريحات الامين العام ل"حزب الله" السيد حسن نصر الله من ان دولاً عربية تمنع ارسال "كاتيوشا" الى الاراضي الفلسطينية، وان المسؤولين السوريين يؤكدون ان "حزب الله حركة مقاومة لبنانية ويقتصر نشاطها على لبنان"، وذلك رداً على قول الاميركيين من ان نشاطات الحزب "تتجاوز الاراضي اللبنانية ما يفسر اسباب وضعه على قائمة المنظمات الارهابية". وهناك بعد آخر في كلام رامسفيلد يتعلق بأن واشنطن تريد تضييق هامش العمل امام المنظمات الفلسطينية المقاومة لدى دخولها في المرحلة الثانية من "الحرب على الارهاب" لاعتقادها ان قادة المنظمات التي تستضيفها دمشق مثل قادة "حركة المقاومة الاسلامية" حماس خالد مشعل وموسى ابو مرزوق و"الجهاد الاسلامي" رمضان عبدالله شلح و"الجبهة الشعبية - القيادة العامة" احمد جبريل هم "ارهابيون"، في حين تتمسك سورية بأن هذه المنظمات "حركات مقاومة" وأن وجودها في الاراضي السورية "رمزي واعلامي وسياسي" وأن اسرائيل مسؤولة عن "طرد هؤلاء الاشخاص من اراضيهم". كما يؤكد تصريح وزير الدفاع الاميركي صحة المعلومات من ان رامسفيلد اقترح وضع اسم سورية في قائمة "محور الشر" مع ايرانوالعراق وكوريا الشمالية، وان وزير الخارجية كولن باول اقترح عدم وضعه بسبب "تعاون سورية الامني في شأن مكافحة الارهاب بعد 11 ايلول سبتمبر ودورها في عملية السلام في الشرق الاوسط وحرصها على الاستقرار فيه"، اضافة الى رغبة الادارة في الاستماع الى توصيات ديبلوماسيين اميركيين في المنطقة ب"وجوب عدم حشر دمشق في الزاوية لئلا تظهر ردود فعل مهددة للاستقرار في الشرق الاوسط في حال أرادت واشنطن فعلاً اجراء تغيير في الموضوع العراقي".