قررت إدارة الرئيس جورج بوش أن تطيح نظام صدام حسين بالقوة، وتؤكد الاتصالات السرية التي جرت بين الحكومات الحليفة أن واشنطن ولندن اتخذتا قراراً بشن الحرب ضد العراق منذ شهور عدة. الموضوع قد حسم، ولم يبق إلا التوقيت والتكتيك موضوع جدل مكثف في البنتاغون، وبين الولاياتالمتحدة وحلفائها. يقال إن الأميركيين يضغطون للمبادرة بشن الهجوم المرتقب بسرعة، أي خلال شهري تشرين الثاني نوفمبر وكانون الأول ديسمبر من هذا العام. في حين لن تكون القوات البريطانية - التي لا تشكل إلا 10 في المئة من القوات المهاجمة - على أهبة الاستعداد إلا في أوائل العام الجديد 2003. لقد نجحت الولاياتالمتحدة في إقامة تحالف من بريطانيا واستراليا وايطاليا واسبانيا وتركيا، ومن عدد من الدول العربية المحسوبة على الولاياتالمتحدة مثل الكويت والبحرين والإمارات العربية المتحدة وقطر وعمان والأردن، وهذه كلها قد وافقت على أن تستخدم الولاياتالمتحدة قواعدها وتجهيزاتها العسكرية الجاهزة. قاصرو النظر فقط، ممن لا يعرفون حقائق الواقع الدولي، لا يزالون يصرون على أن الولاياتالمتحدة لن تشن الحرب. الآمال التي وضعها البعض في المفاوضات التي جرت في نيويورك بين الأعضاء الدائمين الخمسة، بهدف تأجيل الحرب، لم تكن في موضعها، إذ ثبت أنها لم تنجح إلا في اضفاء صفة "الشرعية" على الهجوم الأميركي الذي وصل إلى مرحلة متقدمة من الاستعدادات والجاهزية. إن الخطاب الذي ألقاه الرئيس جورج بوش هذا الأسبوع، والذي وصف فيه صدام حسين بأنه "طاغية مجرم" و"ديكتاتور قاتل" و"تلميذ لستالين" لم يترك مجالاً للشك حول حقيقة نياته العدوانية ضد العراق، وأصبح في حكم المؤكد أن الولاياتالمتحدة مصممة على شن "حرب استباقية" ضد العراق بسبب امتلاكها المزعوم لأسلحة الدمار الشامل. قال بوش في خطابه: "إن مجابهة القرائن التي تشير إلى وجود الخطر ضروري وملح. لا يمكننا أن ننتظر طويلاً للحصول على الأدلة النهائية. ان البندقية التي يخرج منها الدخان قد لا يظهر منها إلا غيمة على شكل فطر...". كان النقاش، في مجلس الأمن، محصوراً بين الولاياتالمتحدةوبريطانيا من جهة، وفرنساوروسيا من جهة ثانية، إذ فضلت الصين، العضو الخامس الذي له مقعد دائم في المجلس، أن تلعب دوراً متواضعاً للغاية، لأنها لا تزال غير قادرة على أن تعرض عضلاتها في الساحة الدولية بعد. لقد سعت الولاياتالمتحدةوبريطانيا إلى الحصول على قرار واحد في مجلس الأمن، يفرض شروطاً قاسية على عملية التفتيش عن الأسلحة، ويجيز اللجوء الفوري إلى القوة، في حال تمنع العراق عن فتح كل مجالاته، ودون قيد أو شرط للتفتيش، وفي حال تردده في نزع أسلحته بشكل كامل. أما فرنسا فقد طالبت باتخاذ قرارين في مجلس الأمن، إذ لا يجوز اللجوء إلى القوة العسكرية والحرب اتوماتيكياً، ولا بد من الحصول على تغطية جديدة من مجلس الأمن. وقبلت الولاياتالمتحدةوبريطانيا بهذا الاقتراح، في مقابل أن تقبل روسياوفرنسا معظم شروط التفتيش القاسية التي أصرت عليها الولاياتالمتحدة. وواقع الأمر أن روسيا وافقت على أن تقبض ثمن هذا التنازل، حصة مغرية من النفط العراقي، يؤمن لها سداد ديونها على العراق التي تبلغ ثمانية بلايين دولار، ولم يكن الموقف الفرنسي أقل انتهازية، إذ اسقطت فرنسا حقها في استخدام الفيتو في مجلس الأمن مقابل حصولها على حصة "كريمة" من النفط العراقي، بعد اسقاط نظام صدام حسين. رسالة الولاياتالمتحدة "الحربية" واضحة للغاية: "كونوا معنا أو ابتعدوا عن الطريق!" الكل سيقطف الثمار والخاسر الوحيد هو العراق. إذا رفض الشروط "العقابية" المترتبة على قرار مجلس الأمن الجديد فسيضرب، وإذا قبل الشروط من دون تعديل أعلن استلامه المطلق، وكما قال لي مصدر أميركي هذا الأسبوع: "لا يوجد إلا سبيل واحد لانقاذ العراق من الضربة هو التخلي عن كل شيء، عن كل شيء!". أهداف الولاياتالمتحدة من الحرب يؤكد جميع المراقبين السياسيين أن مقاليد السياسة الخارجية للولايات المتحدة هي بأيدي طغمة من "الامبرياليين الجدد" يمثلون أقصى اليمين والصهاينة المتطرفين، وقد يندغم الاثنان في شخص واحد. هؤلاء موجودون في المراكز الحساسة في الإدارة الأميركية، ويستمدون دعمهم ونفوذهم من شبكة واسعة من الموظفين الكبار والصحافيين النافذين، وجماعات الضغط اللوبي المتمرسة، لقد وفرت لهم أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر فرصة نادرة لفرض آرائهم على الجمهور الأكبر من الرأي العام الأميركي، فرصة كانوا ينتظرونها منذ عشرين عاماً، وهم اليوم يتزعمون "الخطاب السياسي" الذي يتحكم في قضايا العالم كله. إن "الامبرياليين الجدد" - كما هو معروف عنهم - لا يمكن أن يتحملوا أي تهديد للولايات المتحدة، سواء أكان متخيلاً أو محتملاً أو حقيقياً، والصهاينة المتطرفون - وأكثرهم من المقربين جداً من ارييل شارون - غير معنيين إلا بحماية إسرائيل، وتدمير أعدائها، وضمانة تفوقها الاقليمي على العرب، وهناك ما يبرر الاعتقاد بأن هؤلاء النشطاء من أنصار إسرائيل - من أمثال ريتشارد بيرل رئيس لجنة السياسة الدفاعية، وبول وولفوويتز نائب وزير الدفاع - نجحوا في "بيع" رؤية متغطرسة وجديدة عن العالم العربي بعد صدام حسين، إلى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وإلى نائب الرئيس ديك تشيني، بل إلى الرئيس بوش نفسه. ومعروف ان لا أحد منهم يعرف عن الشرق الأوسط أي شيء خارج ميدان النفط أو خارج ما يقدمه أنصار إسرائيل من معلومات وتحاليل. وتزعم هذه "الرؤية" ان العراق، بعد سقوط صدام حسين، وخضوعه للسيطرة الأميركية، سيصبح دولة علمانية حديثة متحالفة مع الغرب، وسيكون نموذجاً للازدهار والتقدم في المنطقة العربية بكاملها، وسيكون مركز الثقل في الشرق الأوسط، وسينافس، عن جدارة، مصر وسورية والمملكة العربية السعودية التي لا يراها الأميركيون إلا مراكز لتفريخ الإرهاب، مرشحة لأن تفقد أهميتها السياسية. سيكون العراق - حسب هذه الرؤية - وبعد أن يصبح تابعاً للولايات المتحدة، أكثر بلد متقدم بين الدول العربية، وسيكون قادراً على إعادة صوغ حضارة المنطقة بكاملها، إذ سيبعدها عن الإسلام السياسي، والقومية العربية المعادية للغرب ولإسرائيل. إن العراق - إذا ما اخضع انتاج نفطه للتكنولوجيا الأميركية المتقدمة - سيصبح الدول المحورية الأولى، وسيحل محل المملكة العربية السعودية. ثم ان العراق، بما يملكه من احتياط نفطي لم يمس، ولم يستثمر حتى الآن، سيصبح أكبر "محمية أميركية" على امتداد منطقة تشمل أوزباكستان وطاجكستان وأفغانستان والكويت والخليج، وحينئذ يتوجب على إيران التي تجاور هذا الامتداد الكبير الخاضع للسيطرة الأميركية، ان تتكيف وتتأقلم مع هذا الواقع الاقليمي المفروض، اما بالرضوخ للقوة الأميركية الطاغية واما بالتنسيق معها. وليس مصادفة أن الرئيس بوش، في خطابه الذي ألقاه هذا الأسبوع، أبرز تعهد الولاياتالمتحدة بإعادة بناء العراق طبعاً على نفقة العراق، كما تعهد بالحفاظ على وحدته الاقليمية، وهذان الالتزامان ضروريان لنجاح الولاياتالمتحدة في جعل العراق تحت الحماية الأميركية. وغني عن القول ان الصهاينة الأميركيين المتطرفين، بالتواطؤ مع شارون، يرون في حرب الولاياتالمتحدة ضد العراق، فرصتهم العظيمة النادرة لإعادة "ترتيب الجوار الإسرائيلي". سيحاول شارون أن يهزم الفلسطينيين هزيمة كاملة، قبل فرض شروطه عليهم التي قد تتضمن نقل السكان الفلسطينيين من الأراضي المحتلة الترانسفير وسيحاول أن يدمر "حزب الله" وأن يهمش دور سورية، وأن يخضع لبنان للمظلة الإسرائيلية، كما سبق له أن فعل حين قام بغزوه الفاشل للبنان عام 1982، أما سورية، بعد أن تجرد من دورها الاقليمي، فستكون محظوظة إذا ما نجت من الضربة. هذه هي "رؤية" الطاقم الذي يحكم واشنطن الآن، ولا يجوز لأحد أن يستهين بهذا التصميم الجنوني لفرض أحلام جيوسياسية في المنطقة، ولكن السؤال الجوهري هو أي ثمن ستدفعه الولاياتالمتحدة للمضي قدماً في مشروعها الامبريالي الطموح الجديد؟ هل سيتعرض المواطنون الأميركيون، وخصوصاً الجنود، والمصالح الأميركية الحيوية للأخطار، أم ان العرب سيقبلون أن يعيشوا بهدوء تحت القبضة الأميركية؟ هل سيكون الحكم الأميركي مباشراً أو غير مباشر؟ من يستطيع أن يحكم هذه الامبراطورية الشاسعة؟ لم تفكر واشنطن بما فيه الكفاية بالمرحلة التي ستعقب سقوط صدام، ولا بالمقاومة التي ستلقاها هذه المشاريع الأميركية - الإسرائيلية. ولعل الولاياتالمتحدة على قناعة وهذا ما عبر عنه عدد متنوع الانتماءات من المثقفين العرب في هذه الصحيفة بالذات، بضرورة اهمال "الشارع العربي" الذي يكثر ضجيجه، ولا يفعل شيئاً، وبأنه يمكن تجميد المعارضين العرب، سواء أكانوا أفراداً أم أنظمة، اما بالشراء أو الترويع أو المعاقبة. وفي أثناء ذلك كله، تستمر حرب الولاياتالمتحدة "ضد الإرهاب" تعبير ملطف بديل عن الحرب ضد الإسلام السياسي، أو لعله ضد الإسلام كدين من دون توقف، ستفكك الشبكات والخلايا الإسلامية، وسيقبض على الناشطين الإسلاميين، ولن تؤخذ "المحرمات" في الاعتبار، إذ سيصبح الآلاف من المسلمين الأبرياء ضحايا، ولن تنجح عمليات المقاومة المنخفضة مثل "اضرب واهرب" أو قتل بحار أميركي في الكويت كما حدث هذا الأسبوع في ردع الصقور في واشنطن ولن تثنيهم عن التمسك بمشاريعهم الحربية الواسعة. ولكن ما هو مستقبل القيم الإسلامية، والكبرياء العربية والهوية العربية، والقومية العربية؟ هل قدر على العرب والمسلمين أن يخضعوا مرة أخرى للحكم الأجنبي، كما حدث في الحرب العالمية الأولى؟ الواقع أنه يتوجب علينا أن نتساءل - ونحن نعرف موقف معظم الزعماء العرب المتخاذل - هل استقرت الامبريالية الجديدة في العالم العربي، حتى قبل بدء الحرب التي ستنهي جميع الحروب. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.