حرب شارون، هكذا اختارت المجلة الأوروبية الرصينة عنوان غلافها، وفي تغطيتها الموسعة لما يجري في فلسطين سايرت المجلة بعض مزاعم إسرائيل، لكنها في أقل القليل كانت موضوعية في طرح الحقائق والتبصير بالحلول، في أقل القليل يخرج القارئ الغريب عن الصراع بفكرة اساسية وهي أن إسرائيل قوة احتلال والشعب الفلسطيني يعاني من الاحتلال. في الجانب الآخر من المحيط الاطلسي نجد مقالاً افتتاحياً لجريدة أميركية كبرى في عنوان "المستنقع". في المقال حديث عن الإرهاب والضحايا الإسرائيليين. لكن لا حديث بالمرة عن الفلسطينيين وكأن قتلاهم وجرحاهم ومعتقليهم مجرد حشرات. في المقال أيضاً توبيخ للإدارة الأميركية لأنها تراجعت عن تعبئة الدول العربية في الحرب ضد صدام حسين وبدلاً من ذلك اتجهت الى الضغط على إسرائيل. و: "المخرج الوحيد الآن هو ندع الجانبين - الإسرائيلي والفلسطيني - يواجهان بعضهما بعضاً الى أن يقررا أنه لم يعد أمامهما خيار سوى التحدث معاً مرة اخرى. هذا يعني ترك إسرائيل تدافع عن نفسها ضد ذلك النوع من الإرهاب الذي لم يكن مستر بوش سيتحمله مطلقا لو جرى في نيويورك... إن فكرة أن السلام في الشرق الاوسط يمر عبر القدس هي وهم كبير سقط فيه رؤساء أميركيون سابقون عديدون، آخرهم بيل كلينتون. ان الطريق الآن الى شرق أوسط أكثر هدوءاً لا يكون عبر القدس ولكن عبر بغداد. اذا تخلصت الولاياتالمتحدة من صدام حسين بالطريقة الصحيحة. سيكون لهذا الدرس صداه في العالم العربي. وساعتها يصبح السلام الإسرائيلي - الفلسطيني قابلاً للتفكير فيه مرة اخرى. هكذا بدأت الجريدة الأميركية بالحديث عن إسرائيل فانتهت الى العراق. وبدأت بضحايا إسرائيل - فقط إسرائيل - لكي تنتهي الى الحاجة الى تلقين العراق درساً يتردد صداه في العالم العربي. والى أن يحدث ذلك تريد الجريدة اعطاء إسرائيل ورئيس حكومتها شارون كل الحرية في مواجهة "الإرهاب" الفلسطيني بحجة أنه يتوازى مع إرهاب 11 أيلول سبتمبر. انه بالضبط ما يردده شارون نفسه وتردده حملته الدعائية التي حشد فيها من يساره ايهود باراك وشمعون بيريز ومن يمينه بنيامين نتانياهو. وكل منهم يتحرك اوروبياً وأميركياً بتكليف من شارون ليصبح "المفسر الاكبر" - بتعبير شارون - لبرنامجه الإجرامي الذي يريد أن يختم به حياته. في المقال الافتتاحي للمجلة الاوروبية الرصينة هناك على الأقل ذكر لصفة إسرائيل كقوة احتلال. أما في المقال الافتتاحي للجريدة الأميركية فإسرائيل هي الملاك الوديع المدافع عن الانسانية والعالم الحر ضد الإرهابيين قتلة الانسانية وأعداء العالم الحر. ومنذ خرج الرئيس جورج بوش بخطابه في الرابع من نيسان ابريل نكاد نجد الازدواجية نفسها، لكنه في النهاية تحدث عن دولتين - إسرائيل وفلسطين - وطلب من إسرائيل أن: "توقف اجتياحها داخل المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية وأن تبدأ الانسحاب من تلك المدن التي احتلتها اخيراً"، ثم أعلن ايفاد وزير خارجيته الى المنطقة لهذا الغرض. في الساعات الأولى بعد الخطاب بدا وكأن السياسة الخارجية الأميركية استردت لنفسها اخيراً جزءا من العقل. لكن يوما بعد يوم بدأ التراجع. حتى حينما تحدث الرئيس بوش بعدها بأربعة أيام بكلمات بدت غاضبة، مقرراً أنه كان يعني ما قاله بالضبط. سرعان ما خرج مساعدوه لكي يعطوا لكلماته عكس ما بدا منها. الرئيس طلب انسحاب اسرائيل "من دون ابطاء" لكنه لم يقل "الآن" بعدها: الرئيس قال "الآن" لكنه لم يقل "فورا". بعدها: الرئيس قال "فوراً" لكنه لا يريده انسحاباً فوضوياً. أما كولن باول وزير الخارجية نفسه الذي أوفده الرئيس الى المنطقة فقد تبين انه تحرك بعد اسبوع أي بعد أن يكون مضى اسبوعان على حرب شارون الكبرى ضد المدن والمخيمات الفلسطينية - تقريباً المدة نفسها التي طلبها شارون في البداية وقيل ان الادارة الأميركية سمحت له بها. وعشية مغادرة الوزير الأميركي قال هو نفسه في حديث تلفزيوني: "غير صحيح ان الرئيس بوش وجه الى إسرائيل انذاراً بالانسحاب. في الحقيقة ما أراده الرئيس هو نوع من الطلب موجه الى رئيس الوزراء شارون. وببساطة: هو طلب بتخفيض العنف الى مستوى يسمح للطرفين بالتحدث الى بعضهما بعضاً". إذن، رئيس الولاياتالمتحدة يعبر عن طلب... أو رغبة... موجهة الى رئيس وزراء هو جنرال سابق له تاريخه الموثق بالتوحش والإرهاب. في الواقع، ومنذ ايام بن غوريون، كانت شهرة شارون في محيطه العسكري هي انه "الكذاب الأكبر". وحتى مع تقدمه في السن وتحوله الى السياسة استمرت تتضخم معه طبيعته الكذوبة تلك. والأميركيون قبل غيرهم عانوا من ذلك تحديداً. وتجربتهم السابقة معه مريرة منذ الغزو الإسرائيلي للبنان في سنة 1982. في سياق ذلك الغزو قال شارون للأميركيين شيئاً، وقال لحكومته شيئاً آخر، ثم نفذ في التطبيق شيئاً ثالثاً احتفظ به لنفسه سرا من بداية البداية. لكن غزوة 1982 دفع ثمنها المروع شعبا لبنانوفلسطين... وفي الذروة مذابح صابرا وشاتيلا... ودفعت ثمنها إسرائيل ايضاً بحيث لم تجد لنفسها مخرجا في النهاية سوى الانسحاب بعد 18 سنة من دون قيد ولا شرط، وبالطبع من دون أي من أحلام شارون الإرهابية. الآن وبعدما حصل شارون على الضوء الأخضر من الإدارة الأميركية لمغامرة جديدة ضد الشعب الفلسطيني تحت عنوان "مكافحة الإرهاب" والمزيد والمزيد من الضحايا. تحرك الرئيس الأميركي اخيراً مطالباً شارون بالانسحاب. ليس الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران يونيو سنة 1967، ولكنه مجرد الانسحاب الى أوضاع 29 آذار مارس الماضي حينما انطلق جيش شارون في اجتياحه للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية. ومع تواضع الطلب وتواضع الكلمات وقف شارون في الكنيست الإسرائيلية متحدياً ومعلناً ان حملته العسكرية ستأخذ وقتها كاملاً. بعدها لخصت جريدة "نيويورك تايمز" الأميركية الموقف كله في عنوان مقالها الافتتاحي: "شارون يهين أميركا". في المقال فسرت الجريدة تحدي شارون للرئيس الأميركي بأنه ربما لا يفهم مغزى كلمات الرئيس. لكن الأحداث التالية سرعان ما أعطت انطباعا عكسياً تماما. شارون هو الذي يفهم والجريدة الأميركية هي التي لا تفهم مغزى كلمات الرئيس. بل إنه حتى بعد وصول وزير الخارجية الأميركي الى إسرائيل كان زميله دونالد رامسفيلد وزير الدفاع يتحدث هاتفياً مدافعاً عن شارون ومضيفاً قوله ان المشكلة معقدة جدا بالنسبة الى إسرائيل حيث إنها بلد صغير وعدد سكانه قليل وهو محاط بإناس كثيرين لا يتمنون لها الخير ولا يريدون أن يكون للإسرائيليين بلد. يعني: بخلاف التضليل المتعمد في التشخيص... خذ راحتك يا شارون فأميركا معك على الخط. وفي ما بين "إهانة أميركا" ووصول وزير خارجية أميركا الى إسرائيل كان جيش شارون استخدم طائراته ودباباته ومصفحاته وباقي ترسانته الحربية الأميركية في "انجاز" المزيد والمزيد. منشآت مدنية ومحطات مياه وشبكات كهرباء ومستشفيات جرى تدميرها وأكثر من خمسمئة قتيل فلسطيني في موقع واحد وأربعة آلاف معتقل بخلاف مجهولي المصير ومخيمات فلسطينية أزيلت وقرى بكاملها أبيدت وسكان مدن جرى طردهم. وفي حالة سكان المخيمات الفلسطينية خصوصاً فقد كان هذا هو التشريد الثاني لهم، وربما الثالث، بعد حربي 1948 و1967. الآن يستطيع شارون أن "يفخر" بأنه حسب أوامره قام الجيش الإسرائيلي بأكبر حملة عسكرية له ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية منذ سنة 1967. في اللحظة الراهنة لست متأكداً من نتائج جولة وزير الخارجية الأميركي التفاوضية مع إسرائيل الشارونية. لكنني متأكد مبدئياً من شيء جوهري: ان جيلاً جديداً كاملاً اصبح أكثر تصميماً على الانتقام. جيل باتساع العالم العربي كله. من اللحظة الراهنة لن يكون الغاضبون هم فقط ابناء واقرباء وجيران الضحايا على أرض فلسطين، ولكن كل من عاش هذا التوحش المروع صوتاً وصورة. ورغم التعتيم الكامل الذي فرضته إسرائيل على مجازرها البشرية، ومسايرة الاعلام الغربي لها حاليا، الا ان جدار الصمت سينهدم حتماً كما جرى سابقاً في صابرا وشاتيلا. لحظتها سنعرف: هل ما جرى كان أمراً قائماً بذاته أو جزءاً من سيناريو أوسع وأكثر شمولاً في تحولات المنطقة لتكون أكثر طواعية وانسحاقاً مع ما هو مقبل من تطورات. وشيء آخر: بقدر ما كانت كل رصاصة ودبابة وطائرة استخدمها شارون أميركية الصنع، وبقدر الروح "الرياضية" التي جرى التعامل بها مع مجازر شارون. فإن الولاياتالمتحدة متواطئة بالكامل في هذا الذي جرى. انه امتداد لتواطئها الاصلي في غزوة إسرائيل الكبرى سنة 1967، واليت كتب شارون نفسه سابقا انها كانت مهمة أميركية نفذتها إسرائيل ومن حقها أن تقبض الثمن. * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية.