لم يكن الانتقال من حي الغورية في القاهرة الفاطمية، بما يضم من جوامع تشمل العصور الفاطمية والعباسية وما تلاها، بالأمر السهل علينا. غمرتني السعادة لدى مشاهدتي "باب الفتوح"، الذي كانت تخرج منه الجيوش لمحاربة الأعداء وفتح المدن الجديدة، وبعده قليلاً "باب النصر"، الذي كانت تدخل منه الجيوش المنتصرة الى القاهرة. وعلى رغم كثرة اكياس البصل والثوم، التي تراها على يمينك وعلى يسارك وما قبل البوابتين، فإن الحضور التاريخي يطغى على كل ما سواه. فهنا علق طومانباي و"وسّط"، أي أعدم بأن ضُرب بالسيف في وسطه فقسمه الى نصفين. وهنا ايضاً علقت ضحكات النساء مجلجلة فرحة بانتصارات المسلمين. وفي المكان نفسه ذرفت شجرة الدر دموعها مرتين، في الأولى فرحاً عندما قتلت عز الدين ايبك وتولّت الحكم، وفي المرة الثانية، عندما قتلتها ام علي فكانت دموع الألم. مع كل خطوة في هذا المكان، يتراءى لك القادة والأبطال وصنّاع التاريخ، الذين مرّوا من قبلك، فالمكان يعبق برائحة الزمن الغابر. ولا أخفي انني طالما شعرت بالسعادة، وأنا أتجول في المكان، ومن حولي يسير الناس، بعضهم يتجه نحو جامع الحاكم بأمر الله، والبعض الآخر نحو سيدنا الحسين... كم شهد هذا السور من افراح وأتراح. وما ان عدنا ادراجنا الى نهاية شارع المعز لدين الله الفاطمي، حتى زكمت انوفنا رائحة الشواء المختلطة بدخان الشيشة العابقة في كل مكان. لم يكن امامنا سوى الولوج الى اقرب مطعم لتناول بعض المشاوي في هذه المنطقة الشعبية، التي تطلق على الماء المتبقّي من السَلَطة التي أُحسن تتبيلها اسم "الويسكي". تذكّرنا بالخليفة الذي كان يرمي لأمرائه قطع اللحم من صدر المائدة، ليدلّ على انه مركز القوة والسلطة، وأنه هو الذي يطعمهم، وتلك كانت عادة الخلفاء الفاطميين. لم نشعر بحرارة الجو قبل جلوسنا في "مقهى الفيشاوي" الشهير، حيث احتسينا الشاي بالنعناع. كان دخان الشيشة يخرج من انوفنا مكوّناً دوائر لا متناهية سرعان ما تتفرّق في هواء القاهرة الذي يتناقله ما بين شهيق وزفير 15 مليون نسمة تحت وطأة الزحام والحرارة المرتفعة نهاراً والبرودة الخفيفة ليلاً. ولم يكن من السهل علينا اكتشاف مغيب الشمس، فالأنوار المتلألئة المعكوسة على صفحة النيل كانت تكوّن شموساً زرقاً وحمراً سرعان ما تنير ليل القاهرة الذي لا ينتهي. مضت الساعات والأيام، ولم نشعر بمرور الوقت، وفجأة وجدنا انفسنا في المطار متجهين الى الماضي، الى أسوان، حيث مدينة الشمس المشرقة. عند سلم الطائرة قابلنا "حسنين" المندوب السياحي، مرحّباً، وقد لفحت سحنته الشمس الحارقة، وعلقت الابتسامة على وجهه، في بلاد لا تعرف التجهّم. ركبنا قارباً صغيراً، اختار له صاحبه اسماً غير عادي "مكرونة"، يقوده شخص من اهالي النوبة يدعى ديشون، يرتدي جلباباً أزرق ويعتمر عمامة بيضاء. مررنا على مقبرة البيجوم آغا خان، المقامة على هضبة تطل على النيل، وبجوارها منزل ارملته التي كانت تضع على قبره وردة كل يوم اثنين الى ان توفاها الله. وصلنا الى جزيرة "سهيل"، الغنية بالكتابات الفرعونية على صخور الغرانيت، ولعل اهمها تلك التي نُقشت عليها ذكرى احد فراعنة ذلك الزمان، الذي احتفل بانتهاء 7 سنوات عجاف بتقديم القرابين للإله "خنوم". احتسينا الشاي الصعيدي على القارب في طريق عودتنا الى الفندق، ومررنا بمنطقة مملوءة بالدوامات المائية التي تُشعرك بالرهبة لدى رؤيتها. فالمياه فيها تدور حول نفسها بقوة مندفعة الى الأسفل، وكأن هناك شيئاً مجهولاً يجذبها الى الأعمق. ومن هناك انطلقنا بالسيارة لزيارة السد العالي. وصلنا الى المكان، فمضينا في شارع وإذا به جسم السد الذي يبلغ ارتفاعه 111 متراً، وقد تكوّنت خلفه "بحيرة ناصر"، وهي اكبر بحيرة صناعية في العالم تغطي مساحتها 500 كلم2 وتبلغ سعة تخزينها 169 مليون متر مكعب من المياه. وشارك في بناء السد نحو 35 ألف مهندس وعامل توفي منهم 450 شخصاً اثناء العمل وبسببه، وبلغ طوله 3800م، وحجمه اكبر من هرم خوفو 17 مرة. وفي صباح اليوم التالي انطلقنا نحو جزيرة "اجيلكا" حيث معبد "فيلة" الذي نُقل الى هناك لئلا تغمره مياه بحيرة ناصر. مجموعة ضخمة من المعابد التي تدل نقوشها على ان بطليموس الثاني اقام الأجزاء الداخلية منها وزينها بالمناظر بدءاً من الحجرة الأولى حتى العاشرة. على مدخل الحجرة الأولى نشاهد الملك بطليموس الثاني تتبعه الآلهة "بوتو" وهو يتقبل رمز الحياة من "تفتوت" ويسير مسرعاً ومعه الدف والمجذاف باتجاه "ايزيس"، سيدة معبد الفيلة. على الجانب الأيمن من الحجرة يشاهد الملك تتبعه الآلهة "نخبيت"، ويتسلم رمز الحياة من الآلهة "سخمت". ونمرّ في بقية الحجرات وهي تتماثل بالنسبة إلينا من حيث امتلاؤها بالنقوش والرسوم التي تعبّر عن الحياة في تلك الفترة، الى ان نصل في نهاية المعبد الى قدس الأقداس، وهي غرفة صغيرة مُظلمة الى حد ما كان يعيش فيها الكاهن الفرعوني. استيقظنا في اليوم التالي لنجد انفسنا وسط النيل، والباخرة "راداميس" تسير بنا من الأقصر في اتجاه معبد "كوم امبو" الذي وصلناه بعد ساعة ونصف الساعة. وغادرنا متجهين الى المعبد الذي بُني في العصر اليوناني - الروماني، بين العامين 181 و219م على أنقاض معبد من الأسرة "18"، وقد كرس المكان لعبادة الإله الفرعوني "سويك"، وهو في هيئة تمساح، والإله "حورس" في هيئة صقر... معبدان في هيئة معبد واحد، يتكون من بوابة نلج عبرها الى الفناء المفتوح وصالة الأعمدة التي غطى النقوش والكتابات الفرعونية، وثلاث ردهات تقود الى قدس الأقداس، وقد اضيفت إليها اجزاء عدة، مثل مقصورة "حتحور" وبيت الولادة وبوابة "بطليموس دينوسس". وتحيط بالمعبد بحيرة التماسيح التي كانت تعجّ بها في العصور الغابرة، وقد حنّط قدماء المصريين بعضها ووضعوها في غرفة صغيرة الى اليمين عقب الدخول الى المعبد الذي يضم ايضاً بئراً كبيرة خصصت لمعرفة مستوى منسوب مياه النيل، وعلى بعض جدرانه نقوش للأدوات الطبية والجراحية، إذ كان المعبد مخصصاً للاستشفاء. خلال تجوُّلنا، صادفنا "ست أبوها"، وهي امرأة مصرية ترتدي الزي الصعيدي التقليدي، والى جانبها اطفالها يفترشون الأرض ويتناولون طعامهم، بينما يعلو صوت المرشد السياحي من حولها معدداً مآثر الحضارة المصرية وفضلها على الإنسانية. استغرقت الزيارة ساعة ونصف الساعة، عدنا بعدها الى الباخرة النيلية التي حملتنا الى ادفو... مناظر لا تنسى، على ضفة النهر... خضرة ومزروعات على مدى البصر، فلاحون مع دوابهم، نساء يغسلن الملابس، مراكب صغيرة لصيد الأسماك، بيوت طينية جميلة تتوزع في الجوار محاطة بأشجار النخيل، وإلى جانبها اخرى اسمنتية تبدو قبيحة وسط الطبيعة الخلابة. وعلى حافة النهر كان رجل يمتطي حماره ويسير في عكس اتجاه الزمن، وبعض الصبية يسبحون قرب حافة النهر ويلوحون لنا بأيديهم ترحيباً وغبطة. المنظر الريفي تتحرك بنا الباخرة بسكينة وبلا ضجيج... شريط سينما الحياة يمر امام ناظريك وأنت الثابت في مكانك، تهرب منك اللحظة الى الأخرى، وها انت مرة ثانية تبدأ العودة الى زمنك. عند مدخل أدفو التي وصلناها بعد اكثر من ثلاث ساعات، نكتشف البيوت الإسمنتية على ضفة النهر، وقد اخذت تلتهم الأراضي الزراعية وتشوه منظر الريف الجميل. وصلنا الى معبد أدفو، الذي يعني اسمه "القتال والاقتتال"، وقد بُني بين العامين 237 و57 ق.م. على انقاض معبد فرعوني قديم. وكان العالم الفرنسي "ميريت" اكتشفه في العام 1852، وهو يعجّ بالرسوم الجميلة التي لا يزال بعضها يحتفظ بألوانه، وفي جداره فتحات كانت ترفع الأعلام من خلالها عند الانتصار. ويتميز المعبد بكثرة الرسوم الممثلة للشمس المجنّحة، وهي رمز الانتصار، وقد علت رؤوس الفراعنة والملوك رسوم ثعابين الكوبرا التي استخدمت لحماية العرش والملك، وقد عُرف عنها قتالها بشراسة دفاعاً عن ابنائها. وانتحرت كليوباترا بتقريب الكوبرا منها حتى تلدغها فتموت ميتة مقدسة. تحرك المركب الساعة الخامسة والنصف متجهاً من ادفو الى الأقصر التي وصلناها عند الصباح. انتظمنا في مجموعات وصعدنا الحافلات السياحية التي حملتنا الى معبد "آمون رع"، المسمّى ايضاً "الكرنك"، ويتألف من محراب ضخم اعد لحفظ تماثيل الآلهة "آمون" وعائلتها ويعرف باسم "قدس الأقداس" يتبعه اكثر من بهو يتخلل كلاً منها قليل من النور، يليها فناء مكشوف يغمره ضوء النهار. ويمتاز هذا المعبد بضخامة أعمدته وبكثرة النقوش عليها، وقد اقام الملك "ستي الأول" مسلّتين في المعبد، لا تزال احداهما باقية حتى اليوم، ويمر في واجهة المعبد صفّان من التماثيل التي اقامها "رمسيس الثاني" على هيئة ابو الهول، لكل منها رأس كبش وجسم أسد ويسمى طريق الكباش. وإلى جانب المعبد توجد البحيرة المقدسة، وهي مخصصة لتطهير الكهنة وترمز للمحيط الأزلي في بداية الخليقة، وتبلغ مساحتها 80×40م، وربما انشأها تحوتمس الثالث. وهي محاطة بسور ضخم يتصل بالصرح السابع. أكملنا جولتنا في الكرنك ومعبد الأقصر، وذهبنا الى السوق الشعبي للمدينة، فوجدناه يعج بالتوابل والحبوب، والتمور الناشفة المطحونة، يهمس البائع بأذنك بأنها اقوى في مفعولها من "الفياغرا"، اكتشفها الفراعنة وما زالت مستخدمة حتى الآن. من أحد الأزقة يطل علينا برأسه شاب صغير، يتلفّت حوله، يميناً ويساراً ممسكاً بتمثال للإله "امنحوتب" يحاول ان يخفيه في تلابيب جلابيته، يحدثنا بصوت خافت: "إن هذا التمثال اصلي، وجدته خلال اللعب مع اصدقائي وكان مدفوناً في الأرض وإلى جانبه قطة سوداء ميتة. سوف أبيعه لكم بمبلغ مئة جنيه فقط". ويضيف انه توسّم الخير بنا ولن نشي به. فذهبت معه الى زاوية الشارع، وفي مدخل احدى البنايات المظلمة تبادلنا التمثال بالمال وأنا على يقين بأنه لم يمضِ على صنعه اسبوعان، ولكنها الحياة بجمالها وخباياها تدفعك لتكمل المشهد الذي أنت جزء منه. * كاتب فلسطيني مقيم في ابو ظبي.