يعرف الجميع قصة الخلاف الذي انفجر في الستينات بين الزعيمين التونسي الحبيب بورقيبة والمصري جمال عبدالناصر، خاصة بعد ان القى الاول خطابه المشهور بأريحا عارضاً على الفلسطينيين والعرب قبول القرار الدولي بتقسيم فلسطين، ونصحهم باعتماد طريقة "خذ وطالب" التي اعتمدها هو نفسه لتحرير تونس من الحماية الفرنسية. وكانت نتيجة هذا الاختلاف ان انطلقت المظاهرات في مصر وفي كل العالم العربي منددة بالخيانة، وكان لعبدالناصر والتيارات الناصرية دور كبير في تأجيج المشاعر العربية ضد الزعيم التونسي. بعد اكثر من ثلاثين سنة على هذه الحادثة يكشف احد المقربين من بورقيبة سرا ظل دفينا طول هذه المدة. ففي شكل اقرب الى الصدفة، وامام مجموعة من الباحثين التقت في مركز دراسات لا علاقة له بالسياسة او البحث عن النجومية، روى وزير الخارجية التونسي سابقا، الباجي قائد السبسي، وهو رجل لا يُتهم في رواياته لأنه معروف بالابتعاد عن الاضواء منذ نهاية العهد البورقيبي ورفضه الدائم كشف الاسرار الكثيرة التي تجمعت لديه على مدى اربعين سنة من العمل الديبلوماسي، روى ما يلي: ان بورقيبة قد مر بمصر قبل زيارته لاريحا والتقى الزعيم عبدالناصر وتحدث معه بشأن القضية الفلسطينية وعبر له عن قناعته ان قبول قرار التقسيم مع مواصلة النضال لاحقاً هو افضل خطة يعتمدها العرب والفلسطينيون. فما كان من عبدالناصر الا ان ايده وابدى موافقته التامة لقوله ولم يناقشه في شيء. واندهش بورقيبة لذلك فسأله: اذن لماذا لا تعلن بنفسك هذا الموقف؟ فأجابه عبدالناصر انه لا يقدر على ذلك لأن رد فعل الشارع العربي سيكون حادا. آنذاك تطوع بورقيبة بأن يتولى هو الاعلان عن الموقف ولعله كان يرجو ان يعاضده عبدالناصر بعد ذلك، لكن ما حصل هو العكس وبقية القصة معروفة. هذا ما كشف عنه اليوم احد المقربين الى بورقيبة. ولا يصح الظن ان عبدالناصر قد خدع بورقيبة او اراد توريطه، فالارجح انه تصرف فقط من موقع رجل السياسة العربي: يؤمن بشيء ويعلن اشياء مخالفة تماماً، يزايد لأن آخرين مستعدون دائما للمزايدة عليه. لكن هذه الحادثة التي تنكشف بعد عدة عقود لا تحظى بقيمة توثيقية فقط بل تحمل ايضاً عبرة للحاضر والمستقبل. ولا بد ان اوضح هنا اني لو كنت عايشت تلك الفترة لكنت على الارجح بين هؤلاء المتظاهرين في كل انحاء العالم العربي ضد بورقيبة، لأن موقف الزعيم التونسي خاطئ من وجهين. فمن جهة ينبغي التذكير بأن فترة الستينات كانت فترة مد لحركات التحرر، ولأن كل التيارات اليسارية بمختلف اتجاهاتها كانت تطرح القضية الفلسطينية من موقع انها قضية تحرر وطني فإن من المنطقي جدا ان يقع الرهان، في ظل ظروف تلك الفترة، على هذا المد العالمي، وان ينتشر الامل في ان يكون مصير الفلسطينيين والاسرائيليين على الاقل في شكل مصير الفيتناميين ا"الحمر" و"البيض"، اي دولتين تتنازعان الشرعية يسند احداهما الغرب "الرأسمالي" والاخرى مجموع القوى التي كانت تُدعى بالتقدمية. هذا هو موقف الاعتدال حسب ظروف تلك الفترة لان الموقف المقابل لم يكن سوى طرح اسطوري عرقي حول الصراع الابدي المزعوم بين اليهود والعرب. ومن جهة ثانية يجدر التنبيه الى ان قياس بورقيبة القضية الفلسطينية على القضية التونسية خاطىء تماما، لأن فرنسا لم يكن لها نية البقاء في تونس ولم يكن لها حاجة كبرى بهذه الارض ولم يكن الفرنسيون موزعين في الشتات او مضطهدين تحت النازية كي يقوى لديهم الشعور بضرورة الهجرة ولو على حساب آخرين لا علاقة لهم بحوادث اضطهادهم. بالمقابل يتميز موقف بورقيبة، في ظل هذه الشهادة الجديدة التي القت اضواء اخرى على الحدث، بميزتين رئيسيتين: اولاهما انه موقف لم ينبع من حاجة داخلية، فلم يكن لبورقيبة اي مصلحة في ان يفتح على نفسه هذه المشكلة، ولم يكن من مكسب مهم يمكن ان يتحقق لفائدته على مستوى السياسة الداخلية. لقد قام بما قام به وهو ينظر الى وضع الفلسطينيين وليس الى وضعه هو في تونس. اما عبدالناصر فيتأكد بهذا الاعتراف الخطير الدلالة انه كان ينظر الى وضعه في مصر وزعامته في العالم العربي اولا واخيراً. ثانيهما انه موقف ينبع من تصور حديث للسياسة، من جهة انها لغة الممكن، والممكن ليس استسلاما ولا مزايدة عنترية، انه فقط تنزيل المطالب والطموحات في صلب قراءة واعية لواقع موازين القوى والادوات المتوفرة للنضال، مع تقسيم الطموحات الكبرى الى اهداف مرحلية واضحة ليتسنى التقييم وتعديل الخطط في حال الضرورة. ولم تزل الاحداث تؤكد امامنا ان عقلنة الخطاب السياسي العربي هي اولى الضرورات، والا وقعنا كل عشر سنوات في كارثة نتيجة مغامرات تحرك المشاعر لكنها لا تحقق من المكاسب شيئاً، بل تزيد الوضع سوءا وموازين القوى اختلالا في الاتجاه المقابل. ان السياسة الاسرائيلية هي سياسة عقلانية تعمل على المدى البعيد. فمنذ 1948، بل قبل ذلك بكثير، لم تتغير قيد انملة: استغلال كل فرصة واستعمال كل وسيلة للسيطرة على متر اضافي من الاراضي او وحدة جديدة من المباني. اما ما يبرز في الاعلام فشيء آخر: حكومات متعاقبة، حروب، مفاوضات هدنة، معاهدات صلح، سفارات ووساطات، الخ. كل هذا يحجب امراً واقعاً يتكرس يوما بعد يوم: لقد فشلت القيادة الفلسطينية في ان تجد المخرج من هذا الفخ الاسرائيلي، وفشل الاعلام العربي في ان يسلط الاضواء على الواقع الميداني بدل ما يحيط به من احداث ديبلوماسية وغير ديبلوماسية، اما السياسات العربية فإما انها تستعمل القضية لاسباب داخلية او ان البعض المتبصر يخشى الاصداع بالحقيقة خشية المزايدة والاتهام بالتخوين. نفس السيناريو بين عبدالناصر وبورقيبة يتكرر، والاخطر من ذلك ان الحدود اصبحت متداخلة بين العقلانية السياسية والانتهازية، بين المشاعر النبيلة والمزايدة الكاذبة. وطالما تواصل هذا الوضع فإن السياسة الاسرائيلية تظل تحصد الارباح على الميدان. اليوم، يقف الفلسطيني وحيدا في المواجهة، دون قيادة ترسم له خطة واضحة في النضال، ودون دعم سوى الكلام والتنديد الخافت. يعمد الشاب او الشابة الى تفجير نفسه ليس لفشل مدريد او اوسلو او شرم الشيخ، بل لانه يدرك حقيقة الوضع: البيوت تهدم، الاراضي تصادر، المياه تشح، الاشجار تقلع، الكرامة تداس، البؤس يتعاظم، المربع الفلسطيني يتقلص يوما بعد يوم بفعل الاجتياح والاستيطان. اما اختلافات شراح القانون في العالم حول تأويل النصوص، من القرار 242 الى خطة تينيت، فتصبح امورا مجردة مقارنة بالحقيقة اليومية للصراع. البطولة الفلسطينية رائعة، لكنها باهظة الثمن، والاهم من ذلك انها تحتاج لأن توظف في اطار مشروع نضالي عقلاني وطويل الامد، لا يكون استسلاما مقنّعا، ولا مزايدة بائسة، ولا سفسطة لفظية وخطبا جوفاء.